جور نار

نتائج الباكالوريا بين التفسير والتبرير

نشرت

في

الباكالوريا مفتاح أوّلي مهم يجعل صاحبه يبتعد نهائيا عن “ساحة الخيارات المُظلمة” ويلجُ ساحات أخرى هي أقرب إلى الخلاص واكتساب المناعة والمرور إلى الضفة الأخرى.

<strong>منصف الخميري<strong>

كانت جدّتي رحمها الله منتبهة حدّ الهوْس إلى خطر أن نصل أنا وأخي الأكبر متأخرين إلى المدرسة البعيدة وخاصة في فصل الشتاء الذي كان عبوسا وضروسا أكثر من اليوم، فكانت تُلحّ في استعجال خروجنا حتى لا تدركنا السحب والأمطار في الطريق قائلة “أوصلو للمدرسة حصّلو المْنع” أي كونوا هناك وتحصّنوا بقاعات المدرسة وملاذاتها على نُدرتها…. في وعي فطري بأن البقاء “هنا” لا يُسمنُ ولا يُغني من جهل وتخلّف وأن المدرسة بُقعة ضوء يتعيّن مطاردتها.   

فبعد الباكالوريا يجد الطالب الجديد نفسه أمام ساحات أوسع مما كان فيه وتعوّد عليه تتطلب هي الأخرى مفاتيح جديدة لمعالجة أقفالها. لكن القاسم المشترك بينها هي أنها مُتاحة لمن يتمتّع بحدّ مقبول من القدرة على “بذل الجهد المُضني”  والتعرف على ميولاته وحسن إدارة التفاوض مع “قصار الطرق” إذا تعذّر مُغالبة الأمواج العاتية.

باكالوريا 2022 لم تشذّ عن القاعدة وأعادت لنا صورتنا المشوّهة التي نخجل من مواجهتها وذكّرتنا خاصة بأن لنا دولة تعشق تهشيم المحرار حتى لا تفوح رائحة تقرّحاتها وتبدع في تحييد المرايا حتى لا ترى صورتها القبيحة.

وقد برز منذ الإعلان عن نتائج الباكالوريا اتجاهان كبيران لدى الرأي العام في التعاطي مع هُزال النتائج هنا وبدانتها هناك يمكن تلخيصهما على النحو التالي :

اتجاه يُحيل حدّة الاستقطاب في النتائج (أي وجود أقطاب فشل واسعة تشمل الولايات الداخلية بصورة عامة مقابل جيوب نجاح تقليدية تقترب فيها نسب النجاح من المعدلات المأمولة) إلى الموروث الاجتماعي والاقتصادي ولا شيء سواه وفق ثنائية الفقر يقابله الفشل المدرسي والرفاه الاجتماعي يمنح نجاحا بالضرورة.

ومنزع يحاول إرجاع انخرام المشهد التربوي إلى اعتبارات الجدارة والاستحقاق والبذل والمثابرة ولا شيء سواها، (وهو استنساخ لا واع لتيّار إيديولوجي يجد صدى كبيرا له لدى الأمريكان بصورة خاصة الذين يُنظّرون لكون “التميّز المدرسي هو مُستحقّ وليس موروثا” mérité et non hérité وأنه في الحياة بصورة عامة “لكل واحد حسب جدارته“.

وفي تونس، قرأت تعليقات تبريريّة تقترب ـ لولا بعض الحياء ـ من المنطق الاستعماري الذي يقسّم شعوب الأرض إلى شعوب متخلفة تقع على “هامش مظاهر الحضارة وتفتقر إلى أبسط أشكال العيش الكريم” وأخرى متقدّمة كُتب عليها أن تضطلع بمهمة شبه ربّانية تتمثل في إنقاذ هذه الشعوب وإلحاقها بركب الحضارة. أي أن الولايات التي تتدنّى فيها نسب النجاح في الباكالوريا تستحق فشلها بالنظر إلى كسلها وضعف عقلية الجهد لدى أبنائها وأن الولايات التي ترتفع بها نسبيا مؤشرات النجاح لا يمكن أن تكون إلا كذلك لقدرة شبه جينية متأصلة فيها.

أقول منذ البداية إنني أومن جدا بمجهود الفرد وقدرته على قهر الظروف القاهرة وأن الأمل يولد أحيانا من رحِم اليأس وأن العوْز حاجز متغوّل لكن يمكن اختراقه… إلى نهاية السرديّة التي نجد لها مدافعين ومريدين كثر في ساحات التنمية البشرية المُبشّرة بالجنة والناس في الدّرك الأسفل من الجحيم… ولكنني متيقن في ذات الوقت وواثق تماما من أن كارثية النتائج في جهات بعينها (وفي مناطق بعينها في الجهات التي حققت نتائج إيجابية أدعو شخصيا إلى مزيد تطويرها) ليست قدَرا محتّما ولها أسباب عضوية متصلة مباشرة برصيد استثمارات دولة الاستقلال هنا وهناك … وأن الإقرار بهذا يؤكد أن الإصلاح مُمكن والعلاجات مُتاحة ومفاتيح الخروج من النفق المظلم موجودة في الأرض لا في السماء.

لذلك ـ وبالأرقام والإحصائيات ـ كلّما تدنّى مؤشر التنمية، تدنّت النتائج على كل المستويات الدراسية، وكلّما اضمحلّ مستوى العيش اضمحلّ الأداء الدراسي لأبنائنا، وكلّما علا المستوى الدراسي والثقافي العام للوالدين (والمحيط العائلي الأوسع) ازدادت فرص النجاح والقدرة على تخطي العقبات.

المسألة في رأيي بسيطة ومعقّدة في نفس الوقت. معقّدة لأنّ أسبابها متعددة ومنتشرة في كل الروافد المحيطة بالفعل المدرسي والنتائج الراهنة هي المآل المنطقي لمسار طويل جدا من رحي الشعوب وطحن المُعدمين، وبسيطة لأن الإصلاحات الموضعيّة الصغيرة غير المُكلفة وذات النتائج المنظورة على المدى القصير والمتوسط مُمكنة تماما ولا تستدعي خِبرة أو عِلما أو واسع اطلاع على ما يصنع مجد الأنظمة التربوية الرياديّة في العالم.

خُطاف واحد لا يصنع الربيع… ربيع الأقاليم المنسيّة

 إن وجود بعض المعدلات المتميّزة جدا في الجهات الداخلية بشكل استثنائي لا يعني أن ذلك قابل للتعميم أو أنه دليل قطعي على “كسل” من لم ينجح أو من نجح بمعدلات متوسطة (وهم الأغلبية)، كما أن هزالة نتائج معاهد منوبة على سبيل المثال لا يعني إسقاط كل جهة تونس الكبرى من أعلى سلّم أفضل النتائج في الباكالوريا. .. بمعنى أن الاستثناءات لا يجب أن تحجب عنّا الطابع العام المُهيمن في كل جهة ولا ينبغي أن تتحوّل إلى شجيرات تغطي الغابة التي هي العنصر الأهم.

وعليه، فإنني أحلم بِدُويْلة تسعى إلى (لا أقول تبني مشروعا مجتمعيّا يليق بعظمة التونسيين ومهجتهم الراقية لأن ذلك يستوجب دولة جديرة باسمها) أو تتبنّي وصفة بسيطة لا تُكلّفها الشيء الكثير وتتمثل في :

أولا : التخلّي عن شبكة المؤسسات التربوية النموذجية الكاذبة وبعث نموذجيات للمتروكين لحالهم ونموذجيات للوافدين من بؤر المهارات الخارقة في الرياضيات أحيانا وفي الرياضة أو الإعلامية أو اللغات والفلسفة أحيانا أخرى.

ثانيا : الشروع فورا في إعادة هيكلة المسالك والشعب في التعليم الثانوي بما ينسجم مع اشتراطات التعليم العالي ويُوقف النزيف الذي تشهده بعض الباكالوريات (الآداب والاقتصاد والإعلامية بصورة خاصة).

ثالثا : إقرار إجبارية امتحان التاسعة أساسي (للقطع مع مهزلة 13 سنة دراسية مسترسلة دون وجود أي محطة تقييمية وسطى) بما يُحفّز تلاميذ الإعدادي على مزيد بذل الجهد لمواجهة هذا الاستحقاق الدراسي وإجراء التعديلات الضرورية التي تُمليها نتائج هذا التقييم المرحلي في السياسة التربوية العامة.

رابعا : خلق المعابر المكثّفة والمغرية والمُثمّنة مباشرة بعد التاسعة أساسي، مع التعليم المهني بالنسبة إلى التلاميذ الذين يمنعهم مستوى مكتسباتهم الأساسية من الانخراط في مسارات طويلة عامة… مع ترك الباب مفتوحا على مصراعيه أمام من تميّز في المسارات المهنية الموازية لاجتياز امتحان الباكالوريا إن رغب في ذلك.

خامسا : تحفيز الأساتذة والمتفقدين في الجهات التي تشكو من ضعف ضارّ في مواد أصبحت تشكل حاجزا حقيقيا لنيل شهادة الباكالوريا (الرياضيات واللغات خاصة) وتمكينهم من دورات تدريبية خاصة في تونس والخارج باتجاه التأثير في مشهد النتائج وتحويله.

سادسا : إجادة توزيع الموارد البشرية وحوكمتها باعتبارها عاملا حاسما في طبيعة النتائج النهائية، ويكفي أن نستحضر كون آلاف التلاميذ التونسيين يصلون إلى مستوى الباكالوريا دون التمتّع بحصة دراسية واحدة يُؤمّنها معلم أو أستاذ “غير نائب”.

هذه بعض الإجراءات البسيطة التي لا تكلّف ميزانية ضخمة ولا تتطلب حوارا وطنيا شاملا ولا تستدعي برلمانا مؤشِّرا أو مُريدا مفسّرا… تنتظر فقط بعض الجرأة والإحساس الوطني الصادق بأن الأذى بلغ “اللحمة الحيّة”.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version