أصبح المشهد السياسي المتعفن داخل البرلمان والحرب الباردة التي تدور رحاها بين الرئاسات الثلاث مثالا سيّئا لمجتمعنا و خصوصا لأبنائنا وللأجيال القادمة التي تعايش غصبا عنها عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو عبر وسائل الإعلام… صراعات سياسية يومية و مشاهد مخجلة من التلاسن و التدافع و العنف اللفظي و الجسدي ممن كان من المفروض أن يمثلوا قدوة المجتمع فأصبحوا عبئا ثقيلا عليه.
كما أن هذه الأجيال ستتحمل عبء انصراف هؤلاء إلى خوض معركة مواقع ،عوض السعي للبحث عن حلول لأزمة اقتصادية غير مسبوقة قد تنتج ثورة جياع بدأت بوادرها تبرز من الأحياء الشعبية المفقرة و الفاقدة للتنمية والتشغيل في مختلف أنحاء الجمهورية. لكن الطبقة السياسيةالمنصرفة إلى منافعها، تعمل بمثلنا الشعبي القائل “عزوزة هازها الواد و هي تقول العام صابة”.
لقد حوّلت رئاسة الجمهورية من جهتها هذا الصراع إلى العلن عندما قرر الرئيس بعد صمت طويل، عرض مجلس الأمن القومي الذي عقده يوم 25 جانفي الجاري مباشرة على عامة الشعب وبحضور وزيرين مقالين هما وزيرا العدل و أملاك الدولة و توجه برسالة طويلة لخصومه السياسيين و على رأسهم رئيسي مجلس النواب و الحكومة الجالسين على يمينه و يساره، اعتبرت درسا في القانون الدستوري، حيث انتقد عدم احترام الإجراءات الخاصة بالتعديل الوزاري الأخير و منها بالخصوص عدم عرض هذا التحوير على مجلس الوزراء قبل إيداعه في البرلمان، مثلما نبّه إلى وجود أربعة أسماء في هذا التحوير، تعلقت بها شبهات فساد و تضارب مصالح و هو ما يتنافى مع الدستور بما يمنعه من قبولهم لأداء اليمين الدستورية أمامه.
إن مجلس الأمن القومي المختص عادة في تدارس المسائل الأمنية الكبرى التي تهم أمن البلاد و شعبها، و سبق له أن غيب رئيس مجلس النواب عن حضورها، مثل هذه المرة مفاجأة للجميع بما عرضه على العموم من مسائل التحوير الوزاري و ما تضمنه من فساد بعض الوزراء المترشحين و هو ما كان من المفروض تدارسه في اجتماع مضيق، خصوصا أن المواضيع التي تهم الأمن القومي أولى بالتدارس إذ إلى جانب خطر الإرهاب، نحن نواجه أزمة صحية عجزت الدولة عن تطويقها و توفير ما يلزمها من تدابير و لقاحات و بنية أساسية و تجهيزات إضافية، كما نعاني من إمكانية استغلال الإرهابيين المتربصين ببلادنا الاحتجاجات الشعبية لتنفيذ أجنداتهم، سيما أن وزير الدفاع كان لمح في البرلمان لهذه المسألة مؤكدا توفر معلومات عن تحرك عناصر إرهابية لاستغلال التحركات الليلية للقيام بعمليات تضرب أمن و استقرار البلاد بعد أن تم ضبط بعض العناصر التكفيرية و مصادرة أسلحة بيضاء و زجاجات مولوتوف كانت بحوزتها.
لقد نشر رئيس الجمهورية “غسيل” رئاستي الحكومة و البرلمان أمام الجميع يوما واحدا قبل جلسة منح الثقة، لكن ذلك جعلهما يضعان اليد في اليد ليمررا تحويرهما الوزاري بأغلبية مريحة رغم شبهات الفساد و تضارب المصالح التي تحوم حول جانب من عناصرها. فرئيس البرلمان استطاع استقطاب رئيس الحكومة و جعله في صفه مثلما ناور الكتلة الديمقراطية بأن أصدر بيانا يدين العنف الذي مارسته كتلة ائتلاف الكرامة ضدها و ذلك بعد أن شارفت رئيسة الكتلة على الموت إثر إضراب الجوع الذي نفذته، مثلما ناور مع كتلة ائتلاف الكرامة و أصدر لصالحها بيانا بعد منتصف ليلة منح الثقة للتشكيلة الوزارية الجديدة، يدين ما اعتبره عنفا من قبل نائبي الكتلة الديمقراطية اللذين حوّلهما من معتدى عليهما إلى معتديين.
فقد كان هدف رئيس البرلمان واضحا و هو تمرير هذا التحوير كلفه ذلك ما كلفه من ازدواجية واضحة و نفاق ما بعده من نفاق جعل رئيس كتلة ائتلاف الكرامة يعربد من جديد تحت حماية الشيخ و هذا بات واضحا للجميع باعتبار ما تتعرض له رئيسة كتلة الدستوري الحر من عنف لفظي تطور إلى عنف جسدي على مرأى و مسمع من الجميع في مشهد مقزز و مقرف حول البرلمان إلى منطقة خطرة على المرأة التونسية التي تجاهلها رئيس الحكومة في حكومته بإرادته أو باختيار الشيخ ، و أهانها رئيس البرلمان بنصرة الكتلة الخطرة التي تمارس العنف داخل البرلمان.
عبير موسي امرأة تونسية حرة كشفت دسائس المناهضين للدولة المدنية و عرت بشجاعة فائقة و بخطاب مدعم بالحجج و البراهين مناوراتهم، و اليوم تتعرض هذه المرأة لأبشع أنواع التشويه و العنف الذي تحول إلى قوة الذراع من قبل العاجزين عن تقديم قوة الحجة و البرهان و هي حقيقة بحاجة إلى الدعم و المساندة من قبل الأحرار و المؤمنين بضرورة حماية مكتسباتنا المدنية.
فهل بهذا المشهد السياسي و تداعياته يمكن لنا الافتخار بديمقراطيتنا الناشئة ؟ لا بد من عديد المراجعات.