ما فتئت الحرب الباردة الدائرة بين رئيسي الجمهورية والحكومة تزداد تعقيدا وتبرز أن حجم الخلاف والمواقف المتباعدة بين الجانبين قد حوّل المشهد السياسي إلى مربع العبثية والانفصال عن واقع البلاد وما يحتاجه من تكاتف لمختلف الجهود من أجل الإنقاذ وتطويق الخسائر المختلفة.
وبما أنه لا يمكن التعويل على السلطة التشريعية التي اكتفت بدور “المتسوّل” الذي ما فتئ يرهن البلاد عن طريق تمرير مشاريع القوانين المتعلقة بالاقتراض من الخارج من ذلك 1920 مليار من المليمات بين حكومتي الفخفاخ والمشيشي مثلت قروضا من المؤسسة الألمانية للقروض والوكالة الفرنسية للتنمية، فإنه من المفروض أن تعمل السلطات الأخرى في انسجام وتوافق حتى لا تضيع البلاد بسبب مجلس نواب غير مسؤول لا يخدم مصالح تونس.
لكن واقع الحال يبرز عكس ذلك باعتبار أن رئيسي الجمهورية والحكومة اختارا إخراج خلافاتهما للعلن وبرزا في مظهر خلافي خطير على استقرارنا السياسي والاقتصادي باعتباره يمرّر للجميع داخليا وخارجيا صورة مبتذلة تسيء إلى تونس، حتى أن تفاصيل هذا الخلاف و مستجداته باتت تمثل في العديد من المناسبات، مادة إعلامية متفرّدة تنطلق بها العناوين الأولى لنشرات الأخبار الأجنبية، وتسبق أحيانا أخبار كورونا والتوتر في العديد من بقاع العالم فتقدم صورة سيئة عن تونس وعن حكامها بما يزيد من فقدان الثقة في سياستنا واستقرارنا ويعمق بالتالي أزمتنا الاقتصادية.
لقد بتنا بحاجة أكيدة إلى مراجعات في مختلف المجالات حتى لا نصبح فرجة متواصلة بعد أن كنا قبل 2011 بلدا يسير في طريق النمو والازدهار ويحظى بثقة الجميع، لكن ذلك الصيت المتميّز ظلّ يضيع يوما بعد آخر خلال العشر سنوات الأخيرة إلى أن أصبحنا على ما نحن عليه اليوم من تراجع مخيف وارتهان للخارج باستسهال “حلّ” التداين بما يفرضه من إملاءات وتنازلات في غياب البرامج التنموية ودعم فرص الإنتاج المحلي.
لكن هل أن التحويرات والتعديلات الوزارية المتتالية وغير المسبوقة مثلت الحل وأمكن لها تغيير هذا الواقع المتردي وإدخال بعض التحسينات على مؤشراتنا الاقتصادية؟ حتما لا باعتبار أن وضعنا يزداد سوءا وأن هذه التحويرات والتعديلات لم يكن منطلقها التطوير والتحسين والتعديل المبني بالأساس على العقل والموضوعية والكفاءة، بقدر ما مثلت محاصصات حزبية و توافقات سرية وأخرى علنية و ولاءات لأطراف في مواقع السلطة والنفوذ.
لذلك شاهدنا وزارات أدمجت في أخرى ثم عادت لتستقل بذاتها، وتابعنا وزارات تفككت بتعدد اختصاصاتها، ورأينا وزراء يعينون ثم يقالون قبل المباشرة وتابعنا وزراء تم التخلي عن خدماتهم بمقتضى التعديل الوزاري لكنهم يباشرون مهامهم وكأن شيئا لم يكن، ووزراء يتهمون بالفساد فيودعون السجن ووزراء يقالون ثم تصدر في شأنهم بطاقات تحجير سفر….فبهذا التردد والاعتباطية والاضطراب، لا يمكن أن ينجح التسيير وتحقق الحكومة الأهداف التي ينتظرها منها المواطن التونسي.
لقد بات هذا المواطن في ظل كل هذه الظروف، يعيش حالة يأس وهو يشاهد التراجع في كل المجالات حتى بلغ به الأمر إلى ما لم يكن يتصوره وهو أن يكون لرئيس الجمهورية الوقت الكافي في مثل هذا الظرف الصعب لكتابة رسالة بالخط العربي وبقلم الحبر المزود بريشة لمخاطبة رئيس الحكومة عبر الرسائل المخطوطة.
هذا المشهد الذي تناقلته العديد من التلفزات التونسية والأجنبية يذكرنا بفيلم “رسالة إلى الوالي” الذي جسد فيه عادل إمام من خلاله شخصية حرفوش بن برقوق الراكبدار الذي خرج على حصانه في عصر المماليك عندما أرسله أعيان المدينة إلى والي مصر ليرسل إمدادات لمدينة رشيد المحاصرة من الإنكليز … وفي الطريق يقابل حكيما روحانيا يرسله إلى القاهرة في القرن العشرين وفي الطريق يشهد تردي حال البلاد فيجد نفسه ـ لا في كوكب آخر ـ بل في عصر متقدم على عصره و عقله بمئات السنين … ويتهم بالجنون لكنه يتشبث بمقولات السلف الصالح إما بغباء صادق أو بتظاهر كاذب، و في كل الأحوال يكسب متعاطفين و يبقى فوق المساءلة … و هذا بيت القصيد.