ولئن تم بالقوة المفرطة والعنف الكبير فض اعتصام “الغضب” الذي نظمه الحزب الدستوري الحر منذ يوم 16 نوفمبر المنقضي واستمر لما يقارب الأربعة أشهر رابط خلالها مناضلو الحزب أمام فرع تونس للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عز الشتاء وقسوة طقسه وانتشار الوباء ومخاطره وحظر التجوال وظروفه، داعين إلى غلقه لما يشكله من خطورة على مدنية الدولة وقيم الجمهورية والنموذج المجتمعي التونسي، إلا أن ما حقّقه الحزب من نجاح لا يمكن أن تحجبه بشاعة صورة الليلتين الأخيرتين من عمر هذه المحطة النضالية الهامة في تاريخه.
فقد نبّه الدستوري الحر ، من خطورة هذه المنظمة التي سرّبت إلى تونس في سنة 2012 في خضم معركة كتابة الدستور وما حفها من شدّ وجذب حول القانون والشريعة، وانطلقت في تنظيم دورات تكوينية مختلفة في التأهيل الشرعي ونشر الأفكار المتطرفة والمناهضة للعلمانية ولمبادئ الدولة المدنية والمخالفة لقوانين البلاد والساعية “لدمغجة” الشباب وتأليبهم ضد الدولة باعتبار أن قوانينها لا تتطابق مع ما يتم تلقينهم وإقناعهم به من أفكار منغلقة ورجعية.
ودعا إلى طردها من تونس باعتبار أن أجنداتها المقنعة بالدين لا تخدم سوى التنظيم الإخواني المصنف إرهابيا في العديد من دول العالم ومنها السعودية والإمارات ومصر والبحرين، علما بأن لادن الذي دعا إلى تشكيل مجلس لتوحيد المسلمين بتمويل قطري، على أن يتطور ويصبح نواة لدولة القاعدة … وكان القرضاوي العضو في جماعة الإخوان المسلمين والذي دعا إلى التفجير والقتل أول رئيس لهذا الاتحاد وقد سبق له أن صرّح بأن هذا الاتحاد يلعب دورا سياسيا في الدول العربية تحت عنوان جهود الوساطة.
لقد ظل هذا الفرع ينشط ويعمل ويكوّن لصالحه شبابا على قاعدة عقيدة مؤسسيه الأوائل وأجندته وما بعث من أجله وذلك طيلة ثماني سنوات دون أن يتفطّن لأهدافه الحقيقية أحد ودون أن تتولى أي جهة رسمية التصدي لخطورته وخطورة المنظومة التربوية والتعليمية الموازية التي ركزها هذا الهيكل وطوّرها في غفلة من الجميع … إلى أن نجح الدستوري الحر باعتصامه وتضحياته في إثارة الانتباه لحقيقته وأمكن له تعرية ما كان مخفيا مؤكدا أن أمين مال هذا الفرع هو بالأساس عضو مجلس شورى النهضة وقياداته أعضاء في نفس الحزب وأن هذه الجمعية تمثل ذراعا سياسية وتمويلية وجهازا دعويا لحركة النهضة مثلها مثل الأمن الموازي والدبلوماسية الموازية وغيرها مما لا يمكن الاّ اعتباره محاولات حثيثة لمزيد اختراق الدولة بهدف الانقضاض عليها والتمكن منها.
النقطة الأخرى القوية لهذا الاعتصام أنه كشف عن مختلف خروقات وتجاوزات هذا الفرع ووضع كل الجهات الرسمية أمام مسؤولياتها حيث راسل الجميع ومنهم بالأساس رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ووزارة المرأة مقدما أدلة ملموسة عن حقيقة نشاط هذا الفرع ومنها تفاصيل عن دوراته التكوينية المخالفة لقوانين بلادنا و بالخصوص مجلة الأحوال الشخصية … حيث كشف الحزب عن فحوى بعض الامتحانات التي أجريت خلال بعض الدورات التكوينية وتمحورت أسئلتها حول إذا كان عقد الزواج في الإسلام مدنيا أم دينيا وتعريف الطلاق السني والبدعي والرجعي والبائن وكيف يكون طلاق ثلاث وكيف يكون الطلاق السني على جزء من بدن المرأة كأن يكون طلاق ليدها أو وجهها أو شعرها. والخلع وكيف يمكن للزوج في حالة الطلاق البائن أن يتزوج بخامسة ولا يوفر للرابعة السكن في حين أن للمطلقة رجعيا نفقة وسكنا.
وتجدر الإشارة إلى أن قناة الجزيرة قد تحركت لتشويه صورة الأمينة العامة للحزب الدستوري وأعطت وقتا واسعا وتصريحات وحوارات مع قياديي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ومنهم بالخصوص الأمين العام الذي سعى لتكذيب مسألة دوره كخلفية لدعم جماعة الإخوان المسلمين وذكر أنه ليس للاتحاد علاقة بأي حزب أو جماعة في الوقت الذي تجنّد فيه كل قياديي حركة النهضة لنصرة الاتحاد وفي الوقت الذي يسيّر فيه أعضاء الحزب فرع الاتحاد بتونس.
هذا الاعتصام نجح أيضا عندما أبرز أن المدافعين عن هذا الفرع هم أنفسهم الذين خرجوا للشوارع مباشرة بعد “الثورة” وحملوا الأعلام السوداء منادين بتركيز حكم الشريعة وهم أيضا الذراع العنيفة داخل البرلمان من رموز ائتلاف الكرامة الذين لا رادع لممارساتهم.
كما نجح اعتصام الحزب الدستوري الحر رغم الآلام المحدثة والتعسف والعنف الذي تعرضوا له، في تأكيد اللحمة الكبيرة التي تجمع مناضليه والانضباط الكبير والشجاعة العالية والالتزام بسلمية الاعتصام التي تحلّوا بها إلى آخر لحظة اقتلعت فيها خيمة الاعتصام لتجمعهم خيمة أخرى أكثر اتساعا وهي خيمة نضالاتهم صلب حزبهم.
الفائدة الأخرى التي جنتها عبير وحزبها من هذا الاعتصام وتحديدا من طريقة فضّه هي كسب المزيد من الأنصار والمتعاطفين الذين باتوا يعتبرون الحزب الدستوري الحر مرفأ النجاة لشجاعته وصراحته ودفاعه المستميت عن الدولة المدنية