التّطبيع خيانة عظمى … هكذا قال و أكّد و كرّر الرئيس التونسي في ختام المناظرة التلفزيّة التي جمعته بالمترشّح الثاني للانتخابات الرئاسيّة في الدور الثاني في أكتوبر 2019 و مازال صدى هذه العبارة يرنّ في آذان المواطنين التّونسيين الذين تذكّروها و ذكّروه بها هذا الأسبوع …
و لكنني سأترك موضوع التّطبيع الذي أثارته كلمات و ضحكات رئيسة حكومتنا مع رئيس الحكومة الإسرائيلي منذ أيام في قمّة المناخ في مصر لأتحدّث في ثلاث لوحات منفصلة – رغم اتصالها – عن تطبيع من نوع آخر وخيانات أكبر نرتكبها في حق بلادنا و في حقّ أنفسنا و في حقّ أجيالنا القادمة
فنحن قد خنّا مدينتنا و بلادنا و مازلنا نخونها حينما طبّعنا مع الزّبلة
و نحن قد خنّا المنطق السّليم و مازلنا نخونه حينما طبّعنا مع التفاهة و الرّداءة الإعلاميّة
و نحن قد خنّا وطننا ومستقبلنا حينما طبّعنا و مازلنا نطبّع مع المهاترات السّياسيّة
صفاقس و التّطبيع مع الزّبلة
مازال ملفّ النّفايات في صفاقس يراوح مكانه منذ أكثر من سنة .. وعود تليها وعود … و كلام يعقب كلاما … تُحَلُّ الأزمة لأيّام معدودات لتطفوَ على السّطح من جديد و لتعود المدينة إلى العفن من جديد .. كلّ الحلول التي وقع اقتراحها ليست سوى مسكّنات و مراهم موضعيّة لا يلبث الدّاء أن ينتصر عليها و يسقطها بالضربة القاضية ليعود صنّاع القرار إلى البحث عن حلول ترقيعيّة تلفيقيّة
منذ سنة تعجز الدّولة من أعلى هرمها إلى أدنى مسؤول فيها له علاقة بالملفّ عن إيجادّ حلّ جذري لهذه المدينة المنكوبة
السّكان أنفسهم تعوّدوا على مشاهد القمامة المنتشرة في كلّ الأرجاء أمام المؤسسات التربوية والإدارات والبيوت و المصانع و المطاعم و المقاهي و المغازات و في المفترقات و على جوانب الطّرقات و تحت السور و حذو المستشفيات و المصحّات … و تعوّدوا على الروائح الكريهة المنبعثة منها و طبّعوا مع دخان الحرائق الليليّة و الغازات السّامّة المتصاعدة ..
وزارة بيئة و مصالح و إدارات مختلفة و وكالة حماية محيط و تصرّف في النفايات و سيارات و معدّات وندوات و اجتماعات و لقاءات و لكن لا حلول و لا نتائج على الأرض
هل ذنب صفاقس أنّ سكّانها “عاقلين” ، هل ذنبهم أنّهم “خدّامة و ما عندهمش ثقافة الاحتجاج و العنف والتّسكير و التّكسير” ؟
حتّى متى يتواصل الصّمت الحكومي و الرّئاسي و حتّى متى تترك صفاقس لمصيرها بمفردها ؟؟ و حتّى متى نطبّع مع هذه المشاهد المزرية و يكتفي مسؤولو مدينتنا و النّاشطون فيها بتبادل الاتهامات و مزيد دسّ الرّأس في الرّمال ؟
الجمهور و التطبيع مع تلفزة القمامة
قنوات تصريف إعلامي ( باستثناء بعض البرامج ) لا تنشر إلاّ العفن و الرّداءة و لا تروّج إلاّ للبذاءة و لا تستضيف إلاّ من يتلذّذون الدّوس على القيم و يساهمون في تدمير الذّوق و انحطاط المجتمع في غياب فاضح للهيئة التعديليّة
قنوات تأتمر بأمر المستشهرين الذين لا يدفعون إلا لمن يخلق الإثارة فتتسابق في استقطاب النّافخين والشّافطين و أصحاب الأجساد المشدودة و الوجوه ” المجبودة ” و الشّفاه المنفوخة مّمن لا عمل لهم غير الثرثرة و الهذر في ما يعلمون و ما لا يعلمون و ما أكثر ما لا يعلمون فيحدّثونك في ثقة عجيبة عن الاقتصاد و الفنّ و السياسة و الرّياضة و يفتون في المسائل الدّينيّة و يخوضون في التّحاليل النّفسية و الاجتماعيّة ويفسّرون الخطط الأمنيّة ….
مقاولات إعلاميّة و بيع و شراء و تعفين للأجواء – المتخمّرة أصلا – و حرص على تحقيق مصالح خاصّة وضرب لمصالح البلاد و للسلم الأهليّة و وحدة الشّعب
و بلاتوهات إعلاميّة قُسّمت الكعكة فيها وفق التوازنات الحزبيّة و الصراعات الإيديولوجيّة و وفق الأهواء السّياسيّة و حتى الانتماءات الجهويّة و الحسابات الأمنيّة …
ضجيج و صراخ و عراك و اتهامات و تبادل للشتائم و تصفية حسابات بين أصحاب القنوات و تجاوز للمشاكل الحقيقيّة و القضايا التي تهمّ البلاد فعلا و لهاث وراء البوز و اصطناع للإثارة في كلّ المجالات
مشاهد و برامج طبّع معها المتابعون و صاروا يعدّلون عليها ساعاتهم لينطلقوا في ما بعد في شتمها في مشهد سريالي غريب فيساهمون بتواطئهم “الغبي” في مزيد انتشارها و في تحقيق غاياتها و أهدافها ومضاعفة أرباح أصحابها
الشّعب و التّطبيع مع العفن السّياسي
منذ سنوات طبّع الشعب التونسي مع حالة من التّطاوس السّياسي و المهاترات و الصّدامات بين المنخرطين في الحياة السّياسية في صراع مفضوح على السّلطة و سباق محموم على الكرسيّ بشتى الوسائل منها المشروعة و خاصّة غير المشروعة، بل طبّع زيادة على ذلك مع ردود الفعل الصّبيانيّة والخصومات الجانبيّة التي وتّرت الأجواء و عفّنت الأوضاع .. و لم تنتج غير ممارسات سياسيّة متخلّفة ليس فيها إيمان بقيم المواطنة و علوية القانون و حقوق الإنسان
ممارسات تعكس أحقادا مرضيّة وعقلا سياسيّا قائما على الإقصاء و استئصال الخصوم السياسيين والتّصنيف بمنطق “عدوّ عدوّي هو صديقي” و “من ليس معي فهو ضدّي” و لا ينتج عنها غير التّطبيل والتصفيق لأحد الأطراف و السّحل و التشويه للخصوم
“نخبة” احترفت “قلبان الفيستة” و التنقّل من حزب إلى آخر أو من تيار إلى آخر و فتح باتيندات و دكاكين مستقلّة بفعل تورّم الذّات و تضخّم الأنا و تفنّنت في تغذية الانقسامات و في إشعال جذوة الخلافات فصار جزء من الشعب يتمنّى خراب البلاد وانهيارها الاقتصادي فقط لأنّه يعارض النّهضة أو سعيّد أو النّداء أو حتّى بن علي قبلهم … و صار البعض كذلك يتمنّى الخسارة للفريق الوطني فقط لأنه يكره وديع الجري أو لأنه يعترض على خيارات المدرّب و استخارته ..
وطن يغرق في الحقد ، أجواء مشحونة و تطبيع مع الرّداءة و تطبيل للانفراد بالرّأي، فساد و جهل و مرض وفقر و انهيار اقتصادي و شعب جعله السّياسيّون حطبا لمعركة لا ناقة له فيها و لا جمل فصار لا همّ له غير التّشفي و التلذّذ بسحل الغير ممّن يعرف و لا يعرف …
…. ألسنا بذلك فعلا مطبّعين و خونة .. ؟ طبّعنا مع كلّ أشكال الرداءة و الخراب،
و خنّا بلادنا و آباءنا الذين دفعوا دماءهم لنعيش أحرارا و أبناءنا الذين لن نترك لهم غير وطن منخور مأزوم …