جور نار

نحن شعب يتنفّس تحت الماء

نشرت

في

لنقُل منذ البداية أن هنالك ما يُشبه الإجماع في تونس اليوم على أن الوضع العام سيّءٌ للغاية، ولكن هنالك اتفاق عام ضمني في نفس الوقت أن الحلّ لا يكمن في الاحتماء بالماضي بجميع تلويناته الدينيّة والدونيّة كما يحاولون إيهامنا بذلك في خرجات باكية على الديمقراطية الجريحة وأخرى معبّرة عن طموحات صريحة لاعتلاء نفس الكرسي الذي اكتوَيْنا عقودا بأشواك حُكمِه.

<strong>منصف الخميري<strong>

نعم لم نعد نقدر على التعرّف إلى ملامح وطننا الذي شحب وجهه وغرز ضرعه وجفّت منابعه وتيبّست معاني الفرحة والأمل في عروقه فجأة.

والأكثر خطرا حسب تقديري من شحّة الموارد واختفاء بعض المواد الغذائية الأساسية والعجز عن توريد بعض المواد الضرورية الأخرى مثل المحروقات وقطع الغيار … الأكثر خطرا هو فقدان الأمل في بلد سينهض يوما وفي نخبة سياسية ستقدر يوما على رسم دروب حقيقية للانعتاق والتقدم.

نفقد الأمل لأننا مللنا خطبا سياسية لا تعطينا سوى أمل زائف في إنجاز محطات سياسية ستُخرج تونس من أزمتها المركّبة، فهم يطْهُون لنا نفس الأطباق الباردة السّاردة منذ عقود ولم ينبلج بعدُ صبح تونس التي بها نحلم. وكأنهم يقولون لنا غير مهمّ أن تكون لنا مدرسة عمومية راقية ومستشفيات لا يتكدّس المرضى في معابرها ونقل عمومي لا تُداس فيه كرامة الرّاكبين وغير مهمّ أن يتمّ “تبريك” إدارة تونسية عاتية بالرشوة والتكاسل وضمّ مصالحها وخدماتها إلى “شؤون العائلة ورزق السيّد الوالد” وليس مهمّا أن “يحرق” أغلب شبابنا بشكل نظامي وغير نظامي نحو شواطئ أكثر أمنا وتوفيرا للقمة العيش…

بالنسبة إليهم غير مهمّ كل هذا، الأهم هو “الجغجغة” السياسية التي يتفنّنون في إعطائها عناوين مُنمّقة مثل الانتقال الديمقراطي وشرعية الصندوق والسلطة الأصلية والبصليّة ومنع التنكيل بالشعب وتحصين الهبّة الشعبية الخ… الأهم هو الإجابة عن السؤال الوطني المحيّر : هل أن الأصل هو في 17 ديسمبر أو في 14 جانفي؟ وهل يجوز الاحتفال بــ 14 دون السقوط في اقتراف ذنب اغتيال الثورة والالتفاف عليها ؟

هم لا يقولون لنا على سبيل زرع قليل من الأمل: سنة كذا، سننزل بنسبة المتسرّبين من المدارس من 150 ألفا إلى مستوى النصف، ولا يقولون لنا بعد كذا سنوات، سنرتقي بمخزوننا من المياه من 700 مليون م3  إلى ضعفها، ولا يقولون لنا على سبيل المثال سنة 2030، سننزل بنسبة التضخم من 9 %  إلى 3 بالمائة على أقصى تقدير، وهم لا يبشّروننا بأن مؤشر التنمية الجهوية سيمرّ بعد خمس سنوات من 0.4 % إلى واحد أو 2 % بعد كذا سنوات… وهم لا يُفرحوننا بكلام طيب من قبيل أنه سيُصبح للمهندس والأستاذ والطبيب التونسي في أفق سنة 2035 نفس مرتّبات نظيره الأوروبي حتى يصبح “الماء اللي ماشي للسّدرة الزيتونة أوْلى بيه” وحتى تُغلق نهائيا “قاراجات البؤس” التي تؤوي الدروس الخصوصية.

هم لا يقولون شيئا من هذا، كل ما يتفوّهون به هو الأعراس الديمقراطية المُقامة حسب التقاليد التونسية الأصيلة وما تستدعيه من طبلة وزكرة وكسكسي بالمسلان حتى وإن كان الشعب عريان ڨريان… وكل ما يرطنون به هو الاستحقاق الانتخابي الذي سرعان ما يتحوّل عادة ومباشرة بعد إنجازه إلى نحيب ونديب لكون الانتخاب أضحى في ربوعنا رياضة لا يُتقنها سوى الكناتريّة والبانديّة والمستثمرين في الشعوذة الشعبوية والدينية.

أصبحنا شعبا نأكل انتخابات ونتعشّى استفتاءات ونبيت على الاستحقاقات الموعودة ونتغذى من بعث المجالس والهيئات ونسهر على بلادة الكرونيكارات وتعدّد الزوجات لنستفيق في اليوم الموالي على أنباء الفواجع والطوابير ومآل التفاوض مع صندوق النقد الدولي.

ماذا يقول الأجنبي الذي يزور تونس في وضع كهذا ؟

زارني صديق فرنسي في الآونة الأخيرة (والذي سأُفرد له ورقة مخصوصة ذات يوم ربما) وتحادثنا طويلا بشأن بلادنا التي لم يزرها منذ17 سنة، وكان أكثر ما شدّ انتباهي في انطباعاته عنصران أعتبرهما على غاية من الأهمية بالنسبة إلى عيون خارجية عاشقة لهذا البلد :

___ بقاء المشهد العام على حاله نسبيا منذ سنوات على مستوى البُنى التحتية وجودة الخدمات في المرافق العمومية بل وتراجع مستواها في بعض الأحيان، إضافة إلى عدم ظهور مؤشرات بارزة تعكس تطوّرا ملموسا في درجة رفاه الناس عموما عندما تلتقيهم في الساحات وفي الأسواق. وفي الجهات الداخلية بصورة خاصة، فالمشهد مازال على حاله تقريبا بشاحناته التي تنقل العاملات الفلاحيات دون توفّر أدنى مقوّمات السّلامة، والمقاهي التي يملؤها الذكور، وبُقع الضوء والأمل النادرة التي تمثلها ميدعات الأطفال ذات الألوان الزّاهية أمام المدارس.

___ العنصر الثاني هو أن المُطّلع ولو بشكل جزئي على ما يتوفّر بتونس من مدّخرات صعبة غير مُتاحة بشكل متكافئ بين جميع بلدان العالم من حُسن حظّنا، يُلاحظ بسرعة مفارقة عدم تطابق حجم أرصدة القوّة التي لدينا مع مستوى التطور العام الذي يبرز من خلال تفاصيل الحياة لدى عموم الناس. أسرّ لي صديقي هذا بأن السؤال عادة ما يُطرح على نحو “ماذا يتوفّر من خيرات ببلد ما حتى نتعرّف على حظوظ تطوّره ونموّ مؤشرات التنمية والسعادة فيه ؟ بينما في الحالة التونسية، علينا أن نُلقي السؤال بشكل آخر : ما الذي لا يتوفّر في تونس حتى لا نراها تُعاند النمور الأسيوية الأربعة : تايوان وسنغافورة وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية ؟”.

فتعداد التونسيين المُبالغ في ضآلته وموقع تونس المحوري على ضفاف المتوسط ومستوى تعلّم بناته وأبنائه وتصنيفها من ضمن البلدان الأوائل في العالم المنتجة لعديد المنتجات المطلوبة في العالم مثل الكفاءات الرقمية والطبية والهندسية والفوسفات والتمور وزيت الزيتون والنفط الخام (الذي كنّا نقوم بتكريره و تقاعسنا عن ذلكǃ) والنسيج والأحذية والأسماك والأسلاك الكهربائية والزيوت الأساسية والأسمدة والمنتجات الفلاحية… كلها عناصر قوّة ومناعة وتطوّر قادرة على بناء دولة قوية يحجّ لها العالم. نحن من الشعوب القليلة فوق هذه الأرض التي لا تأكل من وراء البحر لأن خبزنا أنواع وقمحنا ألوان والغلال والخضراوات والزياتين لدينا تنمو في كل مكان. 

الشيئان الوحيدان اللذان لا تتوفر عليهما بلادنا حسب اعتقادي هما اليورانيوم بطبيعة الحال وإرادة وطنية فولاذية صادقة تستفيد من هذا المخزون الاستراتيجي النوعي وتضع البرامج الملائمة للتطوير في كل قطاع وفق استراتيجية وطنية تبنيها الدولة بأجهزتها وخبرائها ومهندسيها، لا أن تطلب من المواطنين الغلابة أن يبرمجوا مشاريعهم بأنفسهم وأن يبعثوا الشركات الأهلية في ظل عقلية عامة (دولة ومواطنين) متأسّسة على التحيّل والسرقة والاسترزاق والاحتطاب والتذاكي والنفاق والرياء والأنانية المفرطة التي تخزّن المواد الغذائية إلى أن تُصبح مرتعا للديدان والحشرات.  

نحن شعب يتنفّس تحت الماء… ولكننا سنطفو يوما على السطح لا للعبور إلى الضفة الأخرى من المتوسط بل للعودة نحو تونسنا التي لا خيار لها سوى أن تظل البلد الأجمل والوِجهة الأكمل.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version