جور نار

نحن لم نزرع الشوك في طريقكم… فلا تملؤوا طريق أبنائنا أشواكا!

نشرت

في

أسأل كل من حكموا هذه البلاد منذ خروج بُناتها الذين خدموها وإن اخطؤوا أحيانا…وبنوا دعائمها وإن أذنبوا في حقّ البعض من شعبها…أقول اسأل هؤلاء لأقول اليوم هل منكم من قرأ عن ثقافة الاعتراف؟؟ وهل بينكم من له الشجاعة أن يعترف ولو سرّا، بين أفراد عائلته أو بينه وبين من يحومون حوله يُمْلون عليه سياساته الخاطئة، أنه أخطأ وأنه لم يدرك حقيقة الحكم ومتاعبه وأنه لم يعد صالحا للحكم …اليوم وغدا، إن لم يدرك كيف يُخرج البلاد مما هي فيه بالاعتراف بما أخطأ فيه؟؟

<strong>محمد الأطرش<strong>

كل ساسة العالم يسارعون حين يدركون بأنهم وقعوا في خطأ ما إلى إصلاح ما أقترفوه، سواء بالاعتراف بالخطأ وإصلاحه، أو بمجرّد الاعتراف والوعد بعدم تكراره أو حتى بالانسحاب حفظا لماء الوجه…فقط في تونس لا يمتلك ساستنا الشجاعة الكافية التي تسمح لهم بالنزول من عليائهم، فهؤلاء حتى وان فشلوا وهدموا البناء لن يغيروا شيئا من أولوياتهم الفكرية والسياسية لأنهم لم يتعلموا ثقافة الاعتراف، هؤلاء إلى يومنا هذا ورغم ما عانته البلاد من مآسي منذ 14 جانفي، يواصلون تعنّتهم ومكابرتهم ورفضهم الاعتراف بما ارتكبوه من أخطاء في حقّ البلاد والعباد منذ وصولهم إلينا بعد الرابع عشر من جانفي إلى يومنا هذا من شهرنا هذا الموافق لشهر ماي 2023 …

فالبلاد لم تعش فقط “عشرية خراب” كما يصفها البعض بل دخلت ومنذ أربعة أشهر ويزيد سنتها الثالثة عشرة “خرابا وهدما وحقدا دفينا” فمنذ حرق السكير لنفسه قربانا لأطماع “الماما” و”العمّ سام” دخلت البلاد مرحلة “كولني ناكلك…وقاتلك قاتلك”…فلا أحد من حكامنا اعترف بأنه أخطأ في حق البلاد والعباد وأننا كنّا في حاجة فقط إلى بعض الإصلاحات على مستوى الحريات وحقوق الانسان والتعددية السياسية…ولم نكن في حاجة إلى هدم كل البناء…كما لم نكن في حاجة إلى عقلية “اعطه ألف درهم يا وزير” لإسكات وارضاء الخارجين عن القانون والمعتصمين ليس بحبل الله بل بمداخل مواقع الإنتاج، المعطلين للحركة الإنتاجية والاقتصادية…جميعهم يأتون متوعدين من سبقهم بالويل والثبور فتراهم يطلون علينا بنفس الخطاب وبنفس العقلية “شيطنة الماضي ومحاسبة من كانوا فيه واثثوا مشهده…”.

الغريب في أمر حكامنا الجدد الذين عارضوا طويلا جميع من حكموا البلاد قبلهم، جاؤوا مفاخرين زاعمين أنهم استوعبوا دروس التاريخ، وجاؤوا بحلول الأرض والسماء لإصلاح حال البلاد والعباد وأن جميع من حكموا قبلهم افسدوا في الأرض واحتكروا الكراسي …هؤلاء بالذات لا يعترفون أبدا بنقد الذات، ولا أظنّهم يقبلون يوما بجلد الذات، كما أنهم لا يحاولون حتى تجنب الأخطاء، فتراهم يصرّون على التمسك بمواقفهم زاعمين أنهم على حقّ رغم علمهم بأن ما يزعمونه هو عين الخطأ…هؤلاء لم يدركوا أن أزمتنا اليوم أصبحت أزمة جيل حاضر وأجيال قادمة…فماذا سنترك لأجيالنا القادمة لو واصلنا على هذا الحال…ماذا سنترك لأحفادنا لو واصلنا إغراق البلاد في الأحقاد وإسقاطات الأحقاد…

قضيتنا اليوم أصبحت مكابرة وعنادا قد يغرقنا في ظلمة الفتنة واللهم اكفنا شرّها إلى يوم يبعثون…قضيتنا اليوم قضيّة أمة تحتضر لو واصلت على هذا النحو من السقوط…نحن لم نتعظ بما وقع ويقع لبعض البلدان العربية التي زارها سيء الذكر”الربيع العربي” ليحرق زرعها ويهتك عرضها…تلك البلدان التي خرجت من سياق الحضارة لأنها لم تستوعب الدرس ولم تقرأ التاريخ جيدا وانساقت وراء أحقادها…سيرفض البعض هذه الأسطر ويراها خارجة عن سياق حرية التعبير…لكن، ألم يدرك هؤلاء إلى يومنا هذا أن حرية التعبير لا يمكن أن تكون لطرف دون آخر…ولا لأتباع ديانة دون أخرى…ولا لمجموعة دون أخرى…فحرية التعبير والرأي إما أن تكون للكلّ أو لا تكون لأحد…

عاش أجدادنا عهد البايات…وعهد البايات ولّى وانتهى وشكر الله سعي من خدم فيه، وغفر الله لمن أخطأ فيه…وجاء زمن الاستقلال وبورقيبة العظيم…وزمن بورقيبة ولّى وانتهى وشكر الله سعي من خدم البلاد منهم، ورحم الله من مات منهم فداء للوطن، وغفر الله لمن أخطأ فيه….وجاء زمن بن علي ليواصل التحديث والبناء…وزمن بن علي ولّى وانتهى أيضا رحمه الله وشكر الله سعي رجالات الدولة وكفاءاتها وصُنّاع مجدها، وغفر الله لمن أخطأ فيه…وجاء زمن هؤلاء الذين سارعوا للجلوس على الكراسي…وزمن هؤلاء أيضا انتهى بعضه، وشارف بعضه الآخر على الانتهاء، وشكر الله سعي هؤلاء جميعا، رغم أنهم لم يسعوا أصلا لإصلاح حال البلاد وشأن العباد بل اكتفوا بالحفاظ على مواقعهم وكراسيهم خوفا من الحساب إن خرجوا دون أن يتركوا شيئا يحسب لهم ويكفيهم شرّ الحساب…والعقاب… إن لزم الأمر…

ألم يأتوا متوعدين مولولين مهدّدين جميع من حكموا قبلهم فسجنوا هذا…واطردوا هذا…وشرّدوا هؤلاء…وكمّموا أفواه هذا وهؤلاء…وشيطنوا أجيالا كاملة صنعت مجد البلاد رغم هناتها وأخطائها وظلمها للبعض من هذا الشعب فلا أحد من حكامنا ولد ملاكا…ولا احد ارسله الربّ ليعدل بين الناس…فهل حقق هؤلاء إنجازا واحدا يمكن لهذا الشعب إكراما لهم ولما أنجزوه ان يغفر لهم ما افسدوه ؟ لا، لم ينجزوا شيئا فجميعهم …ولنقل ببساطة كل من تداولوا على كراسي الحكم، لم يحملوا همّ الإصلاح في صدورهم وعقولهم، هم فقط حاولوا إرضاء حقد بعض الشعب على بعضه الآخر وعلى كل من حكم قبلهم…فكل جالس على كرسي الحكم لا همّ له غير الانتقام ممن سبقه، ليس فقط لأنه أخطأ بل أيضا وهذا الأهمّ حفاظا على كرسيه وقطعا للطريق أمام خصومه وإرضاء لمن يُسبّحون باسمه ليلا نهارا ويوم الأحد…ومساء الأعياد…

هؤلاء جمعوا حولهم بعض من ملأ الحقد صدورهم وطغت على أفكارهم عقلية الاجتثاث…هؤلاء يدركون جيدا أنهم لن يصلوا الحكم بنتائج الصناديق فاختاروا قطع الطريق وتجفيف منابع الخصوم والمعارضين حتى لا يبقى في نهاية السباق غيرهم يملأ الصناديق…

ما نعيشه اليوم هو مقدّمة لواقع جديد على ملك أجيالنا القادمة…وعلينا أن نقبل بالأمر ونعترف أنه زمن غير زماننا…زمن أبنائنا وأحفادنا والأجيال التي لم يستوطن الحقد صدورها…فزمانهم غير زماننا…لذلك أقول لمن يتمسكون اليوم وغدا بالكراسي وهم “شيوخ” بما تعنيه الكلمة فقهيا وما تعنيه بعامل السنّ أيضا، أو هم يدقُون باب الشيخوخة ويطلون من ثقب مفتاحها…يا هؤلاء…والله لقد ولى عصركم …فلا الزمان زمانكم… ولا الرجال ستمشي خلفكم تهتف باسمكم مستقبلا بعد أن خذلتم انتظاراتها، وأورثتم الحقد أجيالها القادمة…

عشتم التاريخ وكنتم منه وفيه …وحين جلستم على الكراسي حاكمتموه ونسيتم انكم فيه ولدتم…وفيه كبرتم…وبه وصلتم إلى ما أنتم عليه وفيه…جميعكم حاكمتم تاريخكم وتنكرتم له…وجميعكم أهملتم حاضركم وحاضر البلاد والعباد فلم تنجزوا شيئا تخلدون به مروركم واكتفيتم فقط بــ”نصب المشانق” للتاريخ لأنه كان أفضل من حاضركم …ونسيتم أن التاريخ يعيد نفسه في شكل مأساة دائما…

أنصحكم وكنت دائما لكم من الناصحين…لا تستوطنوا مستقبلا ليس لكم… ولن تكونوا منه وفيه…فمن نسي بناء حاضره واكتفى بمحاكمة تاريخه…سيحاكمه مستقبله وإن لم يكن فيه…نحن لم نزرع الشوك في طريقكم…فلا تملؤوا طريق أبنائنا أشواكا؟؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version