من محاسن طقس هذه الأيام ـ إن كانت له محاسن ـ أنه يوزع ناره وشراره بالعدل بين كافة سكان المعمورة وحاليا في نصفها الشمالي كله … من الصين واليابان والهند، إلى الولايات المتحدة وكندا، وبينهما البحر المتوسط بضفّتيه … يعني عريانا مع عريان التقيا في حمّام، كما كانت تقول الوالدة بسخريتها الدائمة …
نقرأ إذن نشرات الجوّ والحرارة، ونرى اللظى في العواصم الفاخرة كما في مدننا القصديرية فنقول إذن لماذا؟ … لماذا نهجر الوطن المختنق بحثا عن أجواء أكثر راحة فإذا شمس جهنّم تشعّ هنا وهناك … والعرق المدرار يكسو القامات عندهم وعندنا … والهواء الثقيل ترزح تحته رئات أغنيائهم تماما كخياشيم فقرائنا … تقول لي الحارقون ركبوا البحر نحو الشمال بحثا عن الحريات؟ فأجيبك ولكن هل يعرف أولاد حومتك معنى الحرية حتى يقامروا بحياتهم لأجلها؟ الحرية الوحيدة التي ينشدها أبناء حينا مثلا هي أن يستهلكوا الممنوعات دون خوف، وهذا النوع من الحرية مفقود في معظم بلدان الشمال … القوانين صارمة والأمن يقظ ولا تدخلات فيه … بل ربما نكون نحن هنا أكثر تحررا في هذا القلم، أقصد بعض البلاد العربية والمغاربية خاصة … إذن …
تهاجرون هناك لأنها بلاد نظيفة منظمة وفيها إدارة تحترم الإنسان؟ أولا هي نظيفة قبل أن تسافروا إليها … بعينينا هاتين رأينا الضواحي التي يقطنها مهاجرون من ذوينا، حملوا معهم فوضانا وضجيجنا الليلي وأدخنة الشيشة والأسواق الأسبوعية وعلوش العيد والسيارات المسروقة والأوراق المضروبة … و أثروا لغة الإفرنج بوابل من مقذعاتنا ها قد أعاد إلينا أحد فكاهييهم مشطرة منه في مهرجان قرطاج الأخير …
وعلى ذكر المهرجان هل تتصوّر أن مبعوثينا (حتى القانونيين منهم، حتى المتجنسين، حتى الدبلوماسيين) يجدونها فرصة لتنمية أذواقهم والتعرف على الموسيقى الكلاسيكية أو مسرح الكوميدي فرانسيز؟ تخرّف وحدك … هم يتهافتون فرادى وجماعات على أحط الفنون الخارجة من عندنا ومن أجوارنا … مزود على راي على راب على نوبة على حضرة على محفل بالتأكيد … وها أن سقط متاعنا من عرابنية وكوميكات بذيئين يقومون بـ”جولات فنية” بشبابيك مغلقة من باريس إلى فرانكفورت إلى ميلانو إلى مونريال … مما يجعلك تعاف هذه المدن التي كنت تحلم بزيارتها يوما …
أم تهاجرون هناك نحو عواصم الأنوار والفكر التقدمي وفلسفات الحداثة؟ … لو كان هذا صحيحا فلماذا أصبحت فرنسا ومن معها أكبر مصدّري الإرهابيين والدواعش نحو بؤر التوتر، بل لم تسلم من ذلك حتى أوروبا نفسها وعلى أراضيها ؟ … وغني عن القول بأن سواد مهاجرينا أتعس تخلفا فكريا وتزمّتا عقائديا من الذين رسبوا في ديارنا من مواطنيك … ناس يعيشون قطيعة تصل إلى العداوة مع ثقافة البلاد التي نزحوا إليها وقيمها وقوانينها اللائكية التي يكفّرها أئمّتهم في كل صلاة … ويستغلون فضائل الدولة المدنية وحمايتها لحرية المعتقد، لإقامة مساجد يشهد البوليس الأوروبي بأن بعضها صار أوكارا لنشر التطرف والتحجّر … بل هناك حتى قطيعة مع العلم والتعليم وانظر إلى النتائج المدرسية لأغلب أبناء مهاجرينا بمختلف أجيالهم، يصبك الذهول …
يبقى الجواب الأخير ما عبّر عنه عديدون هناك بـ “اللجوء الاقتصادي” … وهذا مفهوم إذا عرفنا مثلا أن الأجر الأدنى في تونس مثلا هو 490 دت، في حين أنه في إيطاليا 1327 يورو (أي حوالي 4500 دينار)، وفي فرنسا 1750 يورو (حوالي 6 ألاف دينار)، وفي ألمانيا 2080 يورو (حوالي 7 آلاف دينار) … أي على التوالي تسع مرات، 12 مرة، 14 مرة … تقابلها أسعار أقل من أسعارنا، ووفرة بعيدة جدا عن حال سوقنا الشحيحة، خاصة في هذه الأيام … فضلا عن جودة البضائع والحياة بصورة عامة … والفوارق فلكية أحيانا …
كل هذا جميل وتفسر أسبابه نتائجه ولكن … الهجرة إلى هناك صعبت منذ أواسط سبعينات القرن الماضي (مع صدمة البترول الأولى) وأغلقت رسميا مع إقرار التأشيرة في أواخر الثمانينات… ثم حصلت الوحدة الأوروبية وفضاء “شنغن” وتكدّس عليهم بؤساء أوروبا الشرقية بعشرات الملايين (مما جعل دولة كبريطانيا تنفذ بجلدها هاربة من الاتحاد الأوروبي) … وجاءت مشكلة اللاجئين السوريين التي أطاحت بأنجيلا ميركل وقد عاقبها الألمان على “كرم” مبالغ فيه … وتصاعدت أحزاب اليمين وأقصى اليمين نحو السلطة ومعها طيف من اليسار المرتدّ نحو تطرف أشنع (مثل “الحقوقي” سابقا روبير مينار) … وحتى إن لم تصعد الأحزاب الرافضة للمهاجرين في بلد ما، فسياساتها وتأثيرها في الرأي العام فرض نفسه على الجميع … وانظروا فقط إلى نسبة الردود الإيجابية على مطالب التأشيرة ومدى هزالتها، ولو كانت للسياحة البحتة أو لمهمة قصيرة.
ماذا بقي يا طويل العمر … تحرق؟ هذه أولا يلزمها مال، مال كثير … ثانيا هي تجعلك تقترب من وسط مافيوزي لا يرحم، سواء قدم لك الخدمة أم لم يقدمها … رابعا وما دمت وضعت ساقيك خارج القوانين (اجتياز الحدود خلسة)، فأنت معرض لعقوبة السجن وخسارة مستقبلك سواء مع الشرطة التونسية أو الأجنبية … خامسا وهذه تركناها للنهاية، من يضمن أنك ستصل سالما بعد رحلة خطرة على قارب غير مناسب لأعالي البحار، حمولته غالبا ما تكون أكثر من طاقته، وإمكانية الغرق (أو التغريق) واردة جدا؟ … والأمثلة ها أنك تقرؤها في النشرات ودموع الأمهات …
أعيد: ماذا بقي يا طويل العمر؟ هذا إذا أردت لعمرك أن يطول … بقي شيء واحد، وهو ما فعلوه في بلاد كثيرة بدءا من تايوان وسنغافورة وماليزيا (وهي أقطار ليست في أصلها أكبر أو أغنى منا) ووصولا إلى دول إفريقية حديثة الاستقلال مثل رواندا وبوتسوانا … أي تنتفض على وضعك المتواكل ولامبالاتك بالشأن العام، وتتمثل سلوك المواطن الأوروبي الذي تنوى الهجرة إليه وإزعاجه … تتبنى مشاكلك بدل أن تلقي بها على الدولة المحلية أو الدول الأجنبية أو الحظ أو القدر أو المؤامرة …
تعيد الروح مع جيرانك لتلك اللجان الت انتعشت أيام جانفي 2011 حين لم تكن هناك دولة ولا إدارة ولا بلدية … تنسى انتظار ترخيص لن يأتي وتمارس الأنشطة التي لا تستحق ترخيصا … تربي أولادك على احترام الآخر والبيئة والمال العام وحب الوطن الحقيقي لا الذي عمره من عمر مباريات المنتخب وأنس جابر … تقتدي بأنس في شجاعتها وعطائها وتعبها وطموحها الدائم إلى أعلى … ونقيصة هذه البطلة الوحيدة أنها أحيانا تسهو عن هذه الخصال وتنسى أنها حفيدة جنرال كاد يغيّر وحه التاريخ، هو حنبعل برقا … وشيخ زيتوني غيّر التاريخ فعلا وأسس لفكر ما يزال معاصرا رغم مرور 600 سنة على رحيل صاحبه …واسمه عبد الرحمن ابن خلدون …
,وإذا كان أستاذنا الماغوط يقول: هاجر … فنقول نحن: دع العالم يهاجر إليك