نواصل في جنايتهم على السياسة… السياسيون في العادة هم أناس حريصون جدا على مظهر ما، أسلوب حديث ما، سمعة ما، مصداقية ما، تحفّظ ما…
في الوعود، في الأرقام، في المعلومات، في الأوصاف، في التفسيرات، في التبريرات، في شهامة احترام الآخر، في مراعاة القيم والمشاعر، في شحاعة الاعتراف، في شرف الاعتذار وتحمل مسؤولية الخطإ والاستقالة لو لزم الأمر… أهمشيء لدى السياسي هو رأي الناس فيه، أكثر ما يمكن من الناس وليس أنصاره فحسب … لذلك تجد في الكونغرس جمهوريين يصوّتون لفائدة رئيس ديمقراطي (كما حصل لروزفلت) وتجد رئيسا جمهوريا يفوز في الانتخابات بعدد أصوات يفوق عشرات المرات عدد منخرطي حزبه …
بعد السياسة، جنى الجناة على أوجه كثيرة من حياتنا ومُثُلنا… عبثوا بهذه الأوجه وتفّهوها وأفقدوها معانيها الأصيلة وكسروا ثقتنا بها كما ينسف القرصان بوصلة سفينة منهوبة… فعلوا ذلك بالدولة (هياكل الدولة وصدقيتها كموضوع التلاعب بجوازات السفر)… وبالوطنية… وبالسيادة … وبالمجتمع المدني… وبالهيئات الدستورية … وتلاعبوا بالقيم التى تربّينا عليها وتربّت الإنسانية كلها … مثل الصدق، والأمانة، والشرف،أو العمل سواء كقيمة حضارية أو كمصدر شريف للرزق … كما جنوا على العدالة … ثم على الحرية … ثم على معيشة التونسيين ومعتادهم … لقد أجرموا حتى في حق أعيادنا الوطنية وعلم بلادنا وتاريخنا الطويل العريض …
.عبثهم بالدولة حكاية صارت بلقاء مشهورة، كما يقول زياد ابن أبيه… سواء كصورة مهابة في أعين مواطنيها ودول الخارج … أو كمؤسسات محايدة تبقى على حيادها حتى في أحلك أزمنة العهد السابق … للدولة كلمة واحدة والتزام لا يردّ، بوثائقها الرسمية، بتصريحات مسؤوليها، بتعهداتها مع الداخل أو الخارج … دائما أنت تتعامل مع كائن غير مرئي ولكنه منصف لك أو عليك … لذلك كانت شهائدنا العلمية مقبولة في الخارج، وجواز سفرنا مرحب به في أي مكان بالتأشيرة وخاصة من دونها … لذلك أيضا كانت طلباتنا لدى المؤسسات المالية الدولية مسموعة وملبّاة … وكانت حدودنا مصونة حتى ولو كانت على مشارفها حروب أهلية تطحن الجيران … وكانت عملتنا مستقرة إلى حد كبير مهما التهب النفط أو ارتفع سعر الدولار…
مع قدوم عشرية الظلام ودهاقنتها تحوّلنا من واحة استقرار واستمرار، إلى عشّ دبابير أو إلى مادة نووية لا يثبت لها حال… فأعطيت المناصب العليا لأجهل خلق الله وأكثرهم رطانة وبؤسا… وحلّ اهتزاز المواقف محلّ الحكمة وبُعد النظر… لم نكن في محور اصطفاف وراء أحد ولو ظاهريا … ومهما تأججت الأوضاع إقليميا أو دوليا، كانت تونس على الدوام متأنية القرار محسوبة الكلمات، إلى درجة أننا في شبابنا كنا نثور على ذلك وننعته باللغة الخشبية وموقف اللاموقف… ولكن الزمن مرّ وها أننا مع كثيرين في العالم نترحم على أيام ومواقف بورقيبة والشاذلي القليبي والحبيب بولعراس ومعهم صفوة وزرائنا وسفرائنا وحتى ولاتنا …
بعد 2011، أصبنا بساسة وقحي العمالة صيّاحين بأعلى أصواتهم أنهم إما أعوان لقطر أو خدم عند تركيا أو عبيد للمغرب أو غلمان لليبيا أو أذناب للجزائر (التي سمّوها بكل انبطاح “شقيقتهم الكبرى” رغم أنها طوال 90 بالمائة من تاريخها كانت ولاية تونسية، هي وليبيا) … ومن الغد، تجدهم ينسون هذا كله ويهرولون كالجواري بكبرائهم وزعمائهم نحو الحدائق الخلفية لمرضعتهم فرنسا …