ترافقنا ـ زاهي وهبة و انا ـ في رحلة إلى إيطاليا للمشاركة في ندوة ثقافية عن شعر محمود درويش وازاحة الستار عن لوحة تذكارية للشاعر في ساحة مدينة Polignano a Mare بالجنوب الايطالي.
تأخرت الطائرة التركية في بيروت لمدة ساعة فسبقتنا طائرة “اسطنبول – باري” واضطررنا أن نبقى في المطار لليوم التالي نتسلّل من بين خيوط الليل الى هجعتنا:
إنها عين حسدتنا !
وزاهي يعيد حُكمه وحكمته بلا ملل طوال ليل الانتظار ثم يبدأ من حيث ينتهي .
طوّل بالك يحدث ذلك في كل شركات الطيران وخاصة في ذروة انتقال المسافرين بموسم الصيف .
المهم وصلنا ليلاً الى مدينة باري الايطالية.
وفي اليوم التالي في الزقاق الضيّق إِنْزَلَقْتْ وَتَدَرِكَبتْ على درج حجريّ في زحمة الصور التذكاريّة وَتَرَضْرَض جسدي وانكسرت يدي اليمنى من جرّاء السقطة الملعونة وأخذوني الى طوارىء مستشفى المدينة وبقينا خمس ساعات ننتظر إجراء صورة الأشعة وعملية تجبير اليد. وزاهي يلازمني في الانتظار البليد في المستشفى .
يقول الكلام وكأن صوته أصيب بنزلة برد. والمعنى الليلي زاد عن احمال العين والحسد والهُجاس من القادم. وكم صلّى زاهي صباحاً ونحن نزور صرح كنيسة القديس نقولا شفيع مدينة “باري” ينذر للحج نقولا النذور باحثاً عن سلام ضائع. وينسحب الهدوء الى داخل الكنيسة هارباً من الزحمة والشمس الحارقة. وكم نهرني لنزع “قبعتي” في حضرة تمثال القديس وانا الساكن منذ نعومة أظفاري في رواق الكنائس. لم اسمع منه فحدث ما حدث وانقلبت. هل هِيَ “نقمة” الحاج نقولا لاني لم أخلع قبعتي ؟!
وتوالت الأيام وانا أحمل يدي برباط معلّق على كتفي وزاهي يساعدني في تدبير أموري الأوليّة البسيطة ويخفّف عنّي ثقل الوجع وكتب قصيدة متقشفّة من بيتين .
شكراً يا صديقي على كل شيء وقد لا يكون لديك ما تخسره سوى امرأة ضاعت من شبّاك قصيدة .الحياة رائعة ان وضعت عنها المطلق المستحيل، وغنمت ما في حملها من كنوز، هي لحظة إشراق ندركها في آخر المساء بعد أن يتهدّل وجه النهار. لو لم تكن الحياة إلا امرأةً وكتاباً وخيالاً وقصيدةً وموسيقى، لكان ذلك يكفيها كي تتبرّج في مديح زينتها، وترميك بطرف ثوبها ضاحكة وانت تعاكسها، او تراودها أو تبكيها. فليس لك ما تأخذ منها غير برهة صغيرة وسريعة في آن.
أخطأتك الجائحة ، مرّت قربك ثمّ تجاهلتك. وحين صحوت من وقعها بدأت الخاطرات تمرّ سريعاً بين لحظتين من التأمل، والقلب معبأ بالانتظار وانت مستغرق في الانتباه الى ما تكتبه أقلام محمود درويش . فلديك الوقت الكثير من القليل. لا تجاعيد إلا ما في القلب. على صخرة عالية في فتنة المدينة ينكسر الضوء. تفتح التضاريس كوّة للشمس كي تهبط أكثر الى قاع رحلتها. نتطلع الى ما حولنا من نثر إلهيّ. يمضي الماء الى الماء ويترك خلفه سلالة تتعرّى تحت الشمس، لتكبر، ولتتسّع المساحة للصمت المكتوب على ورق، او لجنون كلام موحش.
من أولعك بالاوزان يا صديقي، وانت من الصغر في ريعان؟ أو من الشباب الأول في جريدة النداء؟ ألأنّ الامور في القصيدة ايقاع أغنية مَرِحَا، أم لأن الكلمات فيها تتحرّك راقصة فترقص داخلاً منشرحاً ؟ لعلّ الغناء زفّ لك القصيدة .عدنا الى الوطن “السعيد” عدنا الى المدينة وأهلها، فمن سيغنينا عنها ومن سيغنينا عنهم.