ربما لأن نبيل بن زكري سبق له المرور بأزمة صحية خطرة منذ سنتين وخرج منها سليما معافى … فكان ظننا الساذج أنه مهما مرض فسيعود دائما إلى عافيته وابتسامته وعائلته وأصدقائه ومستمعيه … كنا نظنّ أن بنيته العملاقة وضحكته العريضة وصوته الفخم أقوى من المرض، أقوى من المستشفى، أقوى من الموت … كنا نظنّ أن الفناء لا يمكن أن يطال من نحبّهم وأن معدنهم أكثر صلابة من أن يُكسر في لحظات … كنا نظن أن نجما محبوبا يضاف إلى عمره من أعمار المتيمين به نازلين له عنها فداء وطواعية … كنا نظنّ أن دعواتنا له الدائمة بالشفاء والعودة ومزيد الإضاءة كمنارة ميناء، دعوات مستجابة … ولكن …
أستغفر الله العظيم …
بلى، فقد استجاب لنا القدر الرحيم أكثر من مرة، وربك الأكرم دائما يجد لنا ألف سبب لكي نعيش ويعيش حبنا وأحبابنا … غير أن بعض البشر يتولّون بانتظام مهمة تدمير ما ينشئه المولى على أحسن تقويم … إرادات الشرّ والموت والقتل تتربص دائما بكل ما هو أصيل وجميل … بكل ما هو هبة ربّانية … شياطين الإنس التي تعمُر بها المؤسسات فتعشش هناك كالعناكب وتنشر الخراب حيثما حلّت … وقد رأينا عينات منها منذ جانفي الأسود من السنة الأكثر سوادا 2011 … رأيناها واكتوى بنارها كثيرون من رجال تونس ونسائها، وأحد هؤلاء الشهداء كان نبيل بن زكري …
كلمة “ثورجيين” المتداولة، كبيرة عليهم … وقد جاءت ضمن استعارات كاذبة من ثورة 1789 ولكن شتّان … ثورجيو فرنسا القرن الثامن عشر كانوا ثوريين حقيقيين ولكن أعماهم التطرّف في نشدان الطهر والكمال … أما ما تمّ توصيفهم بـ “ثورجيي” تونس 2011، فلم يزيدوا عن كونهم مجاميع من اللصوص والدراويش وتجّار التقوى، انقضّوا كالعقبان على حراك شعبي ليس منهم … بل انقضّوا حتى على الشعب نفسه وهم لا يؤمنون بشعب بل بجماعة أو طائفة من مريدي شيوخ البداوة والغبار … ولكن راقهم ذلك التلفيق الذي حدث قبل 42 سنة في إيران بين الرجعية واسم الثورة، فلبسوه وزادوا عليه ملابس مسروقة أخرى من قوامبس اليسار وقوى التحرر … فقاموا بنشل “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” و”شبه شبه” و “العدالة الاجتماعية” وغيرها من المصطلحات التي لا يفقهونها، وكانوا يعلنون في وقت قريب أنها كفر وعقوق ورجس من عمل الشيطان …
بلطجية 14 جانفي إذن، وهذا توصيفهم الأقرب … هؤلاء راحوا يهجمون على مؤسساتنا بالمطرقة والزنزير (بدل المطرقة والمنجل) ويُطيرون الرؤوس صالحها قبل طالحها … والدعاوى شتى … فلول، أزلام، عهد بائد، تجمّع، ثورة مضادة إلخ … وفعلوا مع مؤسسة الإذاعة هذا الفعل الكريه بأن قضوا على نخبة عريقة عمرها الجملي يفوق السبعين سنة وقتها … أسماء كثيرة عالية القيمة راحت تختفي تباعا، وبأشد الأشكال وحشية … معوّض مولدي الهمامي مثلا طلبه على الصباح في منزله ليعلمه بخبر إعفائه كالآتي: “لقد طيّروك من مكانك، وحللت أنا بدلا عنك” … والله العظيم، وصديقي مولدي ما زال حيّا أطال الله عمره شماتة فيهم …
أما نبيل، فقد عومل بطريقة فيها الكثير من الفظاظة وعمى الألوان … الرجل لم يكن في سيرته غير العمل الطيب وصداقة الجميع فضلا عن كفاءة وشعبية لا نظير لهما … واسألوا عنه تاكسيستية البلاد من رأسها إلى أخمص قدميها … واسألوا عنه عمال الليل وفقراء السهر ومهمومي أثقال النهار … ومع ذلك تم إبعاده بل وتوجيه أفظع التهم إليه وأكثرها شعبوية … إنك كنت رئيس شعبة … للجهلة وقصيري النظر هذه كانت تهمة يمكن أن توصل صاحبها إلى الإعدام كما حصل مع جيلاني الدبوسي … ولكن من يعرفون نبيل وما فعله أثناء ترؤسه لشعبة الإذاعة والتلفزة لا شك أنهم سيراجعون حسابهم …
لم يحقق الرجل لنفسه أية منفعة من ذلك المنصب السياسي بل بالعكس … في غهده تحولت تلك الشعبة إلى مزيج من النقابة المهنية والتعاونية الاجتماعية … وكل الذين حكيت معهم من تلك الفترة يُجمعون على أن نبيل لم يحارب أحدا، ولم يحفر لأحد، ولم يكتب تقريرا أو وشاية بأحد … بل أولا اختارته القاعدة العريضة من موظفي وأعوان الإذاعة والتلفزة … وثانيا كان شغله الشاغل الإنصات لمشاكل أولئك العاملين والسعي لحلّها واحدة فواحدة، بسعة باله الأسطورية … إما بالتدخل لدى الإدارة أو بالمساعدة المالية من صندوق الشعبة … وكم فُتحت بيوت وعولج مرضى وقُدّمت هدايا ومُسحت دموع وسُدّد احتياج بمناسبة كل عيد أو ضائقة أو خطب جلل …
لن أزيد أكثر عن سيرة هذا الرجل النبيل وفي القلب كلام كثير عنه وعن معرفتي به مذ كان في الثمانينات طالبا وقارئا وفيّا … إلى نجاحه المستحق في مناظرة انتداب مذيعين … إلى محظات كثيرة ما ابتعد خلالها عني وما ابتعدت عنه … في القلب كلام متلاطم، ولكنّ فيه جرخا غائرا ودمعة حرّى ومنديل سفر …
رجمك الله عشيري الودود … رحمك الله أيها الضاحك الباكي من ظلم الطالمين … وصادق التعازي إلى أسرتك الطيّبة..