جور نار

نهاية رجل من بلّور

نشرت

في

الإعلامي القدير نبيل بن زكري يتعرض لوعكة صحية حادة ميديا بلوس تونس

لم أكد أصدّق الخبر

ربما لأن نبيل بن زكري سبق له المرور بأزمة صحية خطرة منذ سنتين وخرج منها سليما معافى … فكان ظننا الساذج أنه مهما مرض فسيعود دائما إلى عافيته وابتسامته وعائلته وأصدقائه ومستمعيه … كنا نظنّ أن بنيته العملاقة وضحكته العريضة وصوته الفخم أقوى من المرض، أقوى من المستشفى، أقوى من الموت … كنا نظنّ أن الفناء لا يمكن أن يطال من نحبّهم وأن معدنهم أكثر صلابة من أن يُكسر في لحظات … كنا نظن أن نجما محبوبا يضاف إلى عمره من أعمار المتيمين به نازلين له عنها فداء وطواعية … كنا نظنّ أن دعواتنا له الدائمة بالشفاء والعودة ومزيد الإضاءة كمنارة ميناء، دعوات مستجابة … ولكن …

أستغفر الله العظيم …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

بلى، فقد استجاب لنا القدر الرحيم أكثر من مرة، وربك الأكرم دائما يجد لنا ألف سبب لكي نعيش ويعيش حبنا وأحبابنا … غير أن بعض البشر يتولّون بانتظام مهمة تدمير ما ينشئه المولى على أحسن تقويم … إرادات الشرّ والموت والقتل تتربص دائما بكل ما هو أصيل وجميل … بكل ما هو هبة ربّانية … شياطين الإنس التي تعمُر بها المؤسسات فتعشش هناك كالعناكب وتنشر الخراب حيثما حلّت … وقد رأينا عينات منها منذ جانفي الأسود من السنة الأكثر سوادا 2011 … رأيناها واكتوى بنارها كثيرون من رجال تونس ونسائها، وأحد هؤلاء الشهداء كان نبيل بن زكري …

كلمة “ثورجيين” المتداولة، كبيرة عليهم … وقد جاءت ضمن استعارات كاذبة من ثورة 1789 ولكن شتّان … ثورجيو فرنسا القرن الثامن عشر كانوا ثوريين حقيقيين ولكن أعماهم التطرّف في نشدان الطهر والكمال … أما ما تمّ توصيفهم بـ “ثورجيي” تونس 2011، فلم يزيدوا عن كونهم مجاميع من اللصوص والدراويش وتجّار التقوى، انقضّوا كالعقبان على حراك شعبي ليس منهم … بل انقضّوا حتى على الشعب نفسه وهم لا يؤمنون بشعب بل بجماعة أو طائفة من مريدي شيوخ البداوة والغبار … ولكن راقهم ذلك التلفيق الذي حدث قبل 42 سنة في إيران بين الرجعية واسم الثورة، فلبسوه وزادوا عليه ملابس مسروقة أخرى من قوامبس اليسار وقوى التحرر … فقاموا بنشل “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” و”شبه شبه” و “العدالة الاجتماعية” وغيرها من المصطلحات التي لا يفقهونها، وكانوا يعلنون في وقت قريب أنها كفر وعقوق ورجس من عمل الشيطان …

بلطجية 14 جانفي إذن، وهذا توصيفهم الأقرب … هؤلاء راحوا يهجمون على مؤسساتنا بالمطرقة والزنزير (بدل المطرقة والمنجل) ويُطيرون الرؤوس صالحها قبل طالحها … والدعاوى شتى … فلول، أزلام، عهد بائد، تجمّع، ثورة مضادة إلخ … وفعلوا مع مؤسسة الإذاعة هذا الفعل الكريه بأن قضوا على نخبة عريقة عمرها الجملي يفوق السبعين سنة وقتها … أسماء كثيرة عالية القيمة راحت تختفي تباعا، وبأشد الأشكال وحشية … معوّض مولدي الهمامي مثلا طلبه على الصباح في منزله ليعلمه بخبر إعفائه كالآتي: “لقد طيّروك من مكانك، وحللت أنا بدلا عنك” … والله العظيم، وصديقي مولدي ما زال حيّا أطال الله عمره شماتة فيهم …

أما نبيل، فقد عومل بطريقة فيها الكثير من الفظاظة وعمى الألوان … الرجل لم يكن في سيرته غير العمل الطيب وصداقة الجميع فضلا عن كفاءة وشعبية لا نظير لهما … واسألوا عنه تاكسيستية البلاد من رأسها إلى أخمص قدميها … واسألوا عنه عمال الليل وفقراء السهر ومهمومي أثقال النهار … ومع ذلك تم إبعاده بل وتوجيه أفظع التهم إليه وأكثرها شعبوية … إنك كنت رئيس شعبة … للجهلة وقصيري النظر هذه كانت تهمة يمكن أن توصل صاحبها إلى الإعدام كما حصل مع جيلاني الدبوسي … ولكن من يعرفون نبيل وما فعله أثناء ترؤسه لشعبة الإذاعة والتلفزة لا شك أنهم سيراجعون حسابهم …

لم يحقق الرجل لنفسه أية منفعة من ذلك المنصب السياسي بل بالعكس … في غهده تحولت تلك الشعبة إلى مزيج من النقابة المهنية والتعاونية الاجتماعية … وكل الذين حكيت معهم من تلك الفترة يُجمعون على أن نبيل لم يحارب أحدا، ولم يحفر لأحد، ولم يكتب تقريرا أو وشاية بأحد … بل أولا اختارته القاعدة العريضة من موظفي وأعوان الإذاعة والتلفزة … وثانيا كان شغله الشاغل الإنصات لمشاكل أولئك العاملين والسعي لحلّها واحدة فواحدة، بسعة باله الأسطورية … إما بالتدخل لدى الإدارة أو بالمساعدة المالية من صندوق الشعبة … وكم فُتحت بيوت وعولج مرضى وقُدّمت هدايا ومُسحت دموع وسُدّد احتياج بمناسبة كل عيد أو ضائقة أو خطب جلل …

لن أزيد أكثر عن سيرة هذا الرجل النبيل وفي القلب كلام كثير عنه وعن معرفتي به مذ كان في الثمانينات طالبا وقارئا وفيّا … إلى نجاحه المستحق في مناظرة انتداب مذيعين … إلى محظات كثيرة ما ابتعد خلالها عني وما ابتعدت عنه … في القلب كلام متلاطم، ولكنّ فيه جرخا غائرا ودمعة حرّى ومنديل سفر …

رجمك الله عشيري الودود … رحمك الله أيها الضاحك الباكي من ظلم الطالمين … وصادق التعازي إلى أسرتك الطيّبة..

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version