الهدية لا تُرَدّ، خاصة في السياسة… و أردوغان لم يتوقع أن يمنحه خصمه اللدود فرصة تسمح له باعتلاء منصة يقصف منها الجميع في دور حامل راية الإسلام و المسلمين … حقيقة لقد كان تصرف ماكرون بعيد العملية الإرهابية لا يختلف عن أي رد فعل انفعالي انتقامي مما يتهم به الشرقيون بصفة خاصة….و إلا فما معنى أن يفقد رئيس دولة في حجم فرنسا السيطرة على النفس و يأذن بعرض الكاريكاتور في الفضاءات العامة دون أن يتفطن أنه بعمله هذا صار يستهدف الإسلام لا التيارات الإسلاموية أو الإسلام السياسي مثلما دأب على ترديده باستمرار؟
لقد أعطى بهذا السلوك حجة قوية لأردوغان لكي يتدخل في الشأن الفرنسي كطرف معني بحقوق الجاليات المسلمة في فرنسا و ينسف بالتالي واجب ماكرون بأن يكون رئيسا لكل الفرنسيين أيا كانت دياناتهم أو معتقداتهم… أكثر من ذلك حيث استغل أردوغان اللحظة لتوظيفها في الداخل باعتباره حاملا لرسالة “تركيا العظمى” كما يقال في أدبيات القوميين و “الدولة العثمانية” كما يقال في أدبيات حزب العدالة و التنمية …
و ليس يخفى أن فرصة كهذه من شأنها أن تعطي زخما للمنضوين تحت الراية الأردوغانية لمزيد تعميق الشرخ المجتمعي و الاستقواء بمرجعيات الإسلام السياسي على حساب الدولة الوطنية و إحياء الخطاب المحرض على إعادة الخلافة من جديد عبر مشروع أردوغان و إمبراطورية تركيا العظمى.
لكن اللافت في المسألة أن أردوغان بسياساته المثيرة لقلق دول كثيرة من حوض المتوسط و لأوروبا عموما قد لا يكون مقدرا لجسامة المخاطر التي قد تنجر عن الاعتداد المفرط بالنفس كما يبدو أنه لم يستوعب التغيرات الجيوسياسية التي جرت في المنطقة و ليس اقلها سقوط حكم الإخوان في مصر والسودان وفقدانه التحكم في مصير ليبيا …
و إذا كانت سقطة ماكرون بمثابة هدية سياسية لأردوغان فإن اعتقاد أردوغان بأنه حقق بفضل ردة فعله نصرا استراتيجيا قد يزيده وهما بالعظمة و قد يدفع به إلى سوء تقدير حقيقة موازين القوى الدولية…فبينما يرى أردوغان نفسه زعيما صاحب مشروع إقليمي و عالمي فإن القوى العظمى كأمريكا و روسيا و الاتحاد الأوروبي لن تسمح له بتجاوز الرقعة المتاحة له …
و لعل بوادر الضجر من سياساته بدأت تظهر من خلال تصريحات مسؤولين كبار في الخارجية الأمريكية و من خلال التحذيرات الموجهة إليه من طرف أنجيلا ميركل…بل لعل أردوغان ما زال يستحضر استقبال البيت الأبيض خبر الانقلاب عليه بالترحيب والتصفيق …