دفءُ نار

منصف الخميري: هذه ثورة لا تثُور *

نشرت

في

الأشياء التي تحدث في العالم و لا تتسبّب في إرباكات كبرى لا تستحق أي شكل من أشكال الصّبر و الاحترام.” الشاعر المُقاوم صديق إيلوار و أراغون و بيكاسو،  رينيه شار

و هو الذي قال أيضا إن “المستحيل لا نبلغه أبدا…لكنه يظل المصباح الذي نستدلّ به”.

<strong>منصف الخميري<strong>

ما حدث نهاية 2010 و بداية 2011 في تونس لم يكن ثورة مَحْضة لأن الطّفحة البركانيّة سرعان ما أدركها كبار المُدبّرين بمُدوّنيهم و أموالهم و مُخابراتهم و عُملائهم فظلت تراوح مكانها و تخبو كأنها سراب متباعد أضحى مع مرور الأيام و السّنوات صعب المنال، و لم يكن في ذات الوقت مؤامرة خالصة دُبّرت بليْل في الغرف المخابراتيّة المظلمة لأن الغالبية العظمى من التونسيين (بمن فيهم كبار المستثمرين و الصناعيين و المسؤولين آنذاك) كانت تدرك جيدا أن نظام بن علي كان في حالة موت سريري أمام مؤشرات بلغت مداها الأقصى في البطالة و الفقر و الفساد و تغوّل العائلة الحاكمة و التي لم يواجهها حاكم قرطاج بأكثر من التفرّغ تماما لملاعبة وليّ العهد و إنفاق الأموال المجنونة في سبيل إبهاجه و إسعاد أيّامه.

كانت في المحصلة النهائية و في كلمة واحدة فرصة تاريخية ثمينة جدا أُتيحت أمام التونسيين لإعادة ترتيب أوضاعهم و بناء صرح جديد يُثمّن مكتسبات الماضي و يئدُ إلى الأبد إخفاقاته و جوانبه الدّامسة.

لقد نجحت الثورة التونسيّة (رغم فشلها) حسب رأيي المتواضع، في :

  • جَعْل التونسي يُواجه حقيقته العارية دون مُواربة أو مساحيق. فاستفاق فجأة على حقيقة أن شعار “تونس تحتل المراتب الأولى افريقيا و عربيا في مجالات التقدم التكنولوجي و تطور قطاع الزراعة و محاربة الأمية…”  كانت مجرد وهْم يُسوّغ بواسطتها النظام سياساته و تتوهم بموجبها العامّة أن “التونسي الحر الأصيل” يكاد يتفوق على كل شعوب العالم في كل شيء. و صحا بعد الثورة على طبائع فيه لم يكن يعرفها على النحو المطلوب مثل الاستئثار عوضا عن الإيثار  و روح الغنيمة بدلا من الاستثمار في العزيمة و تغذية ثقافة التواكل و الكسل عوضا عن الجهد و العمل و كذلك عطش أسطوري لإراقة الدماء و تكبّد مشاقّ التنقّل آلاف الكيلومترات لملاحقة اليزيديات في عفرين و الكرديات في كوباني عين العرب بسوريا الشقيقة.
  • دفعنا لإدراك أننا لسنا أفضل من أشقائنا في الخليج و لسْنا أكثر تعلّما وثقافة من إخوتنا في المغرب العربي و مراتبنا العالمية المتأخرة في كل المجالات شاهدة على هذا إلا في ما حَبَتْنا به الطبيعة و ما توارثْنَاه عن أجدادنا مثل زراعة الحبوب و الزيتون و بعض المربّعات من التّين و اللّيمون.
  • إشعارنا بأننا لسْنا شعب بُناة كما الألمان أو اليابانيون بعد كارثة الحرب العالمية الثانية المُدمّرة، لأننا هدّمنا بجهد و شجاعة كبيريْن بناية متداعية للسقوط لم تعد تفي بحاجياتنا الأساسية من الرّفاه الأدنى و العِزّة و العيش الكريم، و كنّا أكثر عجزا فيما بعد من أن نُعيد بناء بيت جديد نتمتع تحت سقفه بما أضحى يمثّل حدّا حياتيا أدنى لدى أغلب شعوب العالم كالحق في الغناء والبكاء و تقبيل الحبيب في الطريق العام و كتابة الشعر الإباحي و التهكّم من أميّة الوزراء و الفقهاء و تمجيد أبطال البربر دون أن تُلاحقنا قوانينهم القروسطيّة أو نُرْمَى بمعاداة العروبة و الإسلام.
  • تذكيرنا أن أغلبنا مواطنين و موظفين و مسؤولين كنّا نخشى عصا السلطة أكثر مما نخشى سلطة ضمائرنا و نمتنع عن خرق القوانين المرورية خوفا من كاميرات المراقبة الأمنية أكثر بكثير من رادارات قيم ثقافة القانون و المواطنة و المراقبة الذاتية التلقائية، و نحرص على عدم تعطيل المرفق العام و تقديم الخدمات الإدارية المطلوبة خوفا من “مطرقة مَا” تسقط فوق رؤوسنا و ليس اعترافا بحق المواطنين المقدّس في قضاء شؤونهم في كنف الاحترام المطلق لكرامتهم و حقوقهم الأساسية.

و لكن في نفس الوقت، علّمتنا الثورة أن :

  • هنالك بدايات وعي بأن ما حدث قد حدث، و تبقى مهمّة تقييمه و تسليط الضوء على المناطق المظلمة فيه من مهام المؤرخين و الباحثين و أنه قد حان الوقت للتخلّي عن وَهْم أن السياسيين أشباه أنبياء و أن البلاد تسبح فوق بِرْكة من البترول و نبذ جميع  أوهامنا و أن لا خلاص لنا إلا بمزيد التعرّق و التعقّل و التعلّق بأحلامنا و مزيد التشبث بمدرستنا و جامعاتنا التي أنجبت خلال السنوات الماضية  كفاءات قابلة للتشغيل منذ يوم تخرّجها الأول و قادرة أن تدرّ ثروات ضخمة من الداخل و الخارج.
  • شعار “شدّ مشومك لا يجيك ما أشوم منّو” هو شعار لاتاريخي مسكون بالخوف و التوجّس و الخشية من مفاجآت المستقبل غير المعلوم. .. و أن شعار “المستحيل مصباح نستدلُّ به” لرينيه شار  المذكور أعلاه أكثر إيجابية بالمعنى التاريخي لاعتبارين اثنين على الأقل : لا يمكن اختزال عِزّة شعب و كرامته في بعض الأمن الليلي و انضباط الإداريين والمسؤولين أولا و أن الصعوبات و الكبْوات التي تُعيق مسيرتنا اليوم هي ظرفية وزائلة لا محالة ثانيا … لأن مجد الشعوب و تقدم المجتمعات لا يمكن أن يُبنى على قيم غابيّة لاحضارية مثل الاحتيال و الغدر و القتل و الفتك بالآخر و السرقة و الخداع و المكيدة… و خيانة الدولة لما تُؤتَمَن عليه.
  • أقول أخيرا إن التونسي الخيّر و الهادئ و الرفيع يظل أغلبيّا صُلب المجتمع و أكثر إشعاعا و ألقا (مقارنة بنقيضه) و هو الذي سينتصر على مدى منظور في النهاية، و إلا كيف تفسّرون الظواهر الغريبة التالية  :

أن تشقّ البلاد وحيدا طولا وعرضا وفي أحلك ليالي الشتاء على طريق لا توجد بها نقطة أمنية أو عسكرية واحدة، وفي أغلب الأحيان تصل إلى حيث أنت ذاهب دون اعتراضات معادية رغم بعض التوجّس و الريبة ؟

أو  أن تجرف مياه الفيضانات في 2017 معتمد مطماطة الجديدة و رئيس مركزها للحرس الوطني و هما يؤدّيان واجبهما تجاه التلاميذ و المواطنين العالقين في حركة بطولية كسّرت مقولة “إلا حياتك ما تلعبش بيها” الجبانة ؟

أو أن يمتنع عونا ديوانة بأقاصي البلاد على بعد 1000 ميل من كل منطقة آهلة كما يقول سانت اكزوبيري عن قبول رشوة بــمئات آلاف الدولارات مقابل السماح لمهربين باسترجاع محجوزهم من العملة الأجنبية ؟

… ويمكن أن أستعرض عشرات الأحداث المشابهة التي عشناها كتونسيين خلال السنوات الأخيرة (الدرس الملحمي ببنقردان و حادثة إنزال العلم الوطني بمنوبة و مسيرة 13 أوت 2013 …) و التي تُثبت أن “الفاسدين و الإرهابيين و المجرمين بأنواعهم” قلّة قليلة مهما تكاثروا و أنّ دفاعاتنا الاستراتيجية لها جذور ضاربة في أعماق الأرض و التاريخ و الوعي الجمعي و يصعب تصديعها مهما حاول المُناوئون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* من قصيدة “إذا كنت شعبا عظيما” للشاعر أولاد أحمد بتصرّف.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version