هرِمْنا … ولم تهرمْ خارطة المسالك والشُعَب المدرسية في تونس !
نشرت
قبل سنتين
في
يغيب عنّا أحيانا بل دائما أن تلاميذنا يقتاتون من مائدة قديمة ومتهالكة للمعروضات الدراسية تجاوز عمرها أكثر من ثلاثين سنة، ولكن يبدو أن دولتنا ليست في عجلة من أمرها حتى تبادر هياكلها ووزاراتها وحُكّامها بإتيان شيء ما يسمح بتنويع الأطباق المقترحة وإضافة شيء من البهارات والتوابل حتى يستساغ تناولها وهضم محشوّاتها. وإن ما يؤلم في الأمر أن أجيالا كاملة دُمّرت آمالها بالكامل خلال العقود الماضية نتيجة الإخلالات البيّنة في المنظومة الحالية المتآكلة والاعوجاجات الثابتة التي أعطت ميدانيا بؤرا ضئيلة يرتادها المتميّزون والمُنشَّطون اصطناعيا مقابل جُزر تزداد اتّساعا سنة بعد أخرى يُعمّرها التائهون وعابرو السبيل المدرسي وفاقدو السّند.
أُلخّص شخصيا أهم الإشكاليات في المآزق التالية التي لا يُكلّف الخروج منها سوى حسم التساؤلات التي ترافقها في اتجاه تطويق المضاعفات السلبية المسجّلة، والمضيّ بأوسع شريحة ممكنة من التلاميذ نحو آفاق “غير تقليدية” تُمكّن إجمالا الأجيال القادمة من عبور مرحلة الخمس سنوات قبل العشرين، بأكثر ما يمكن من اقتدارات تأهيلية صلبة (وهي مرحلة كل الزوابع والمخاطر والانزلاقات والتّيه وانقطاع حبل النجاة الذي تمثله مؤسسات التعليم والتكوين بصورة عامة). واعتقادي أيضا أن حسم هذه التساؤلات لا يُكلّف خزينة الدولة المنكمشة عبئا كبيرا أو اقتراضا من جهات تودّ ذلك، لكونه بوّابة مواتية لإملاء خياراتها التربوية والمحافظة على مكتسباتها اللغوية والثقافية عموما.
أهم المآزق التي أودت إليها المنظومة الحالية
______أولا : لم نحسم السؤال التاريخي المحيّر والمتمثل في : هل نؤسس لتخصّصات دقيقة قائمة الذات منذ المراحل الأولى للتعليم الثانوي (أو لبدايات تخصص ضيّق) ويواصل التلميذ تطوير إمكانياته في نفس تلك الاختصاصات تقريبا في التعليم العالي، أم نمضي في بعث مسالك مشتركة للتكوين العام (التي يمكن أن نسميها كذلك حقولا عامة للتكوين مثل الإنسانيات والعلوم والفنون والتكنولوجيا…) ترافقها مراجعة هيكلية جذرية لمنظومة التعلمات الاختيارية، أو ما أسميه شخصيا بالتلوينات المختلفة والمتنوعة في علاقة بتسهيل الاندماج المتدرّج والمرن في عروض بعينها في التعليم العالي، أو تطوير ملمح أو شغف أو مهارة مّا يريدها التلميذ حتى وإن كان لا ينوي اختيار توجيه جامعي مرتبط بها عضويا ؟
_______ثانيا : التصنيف الحالي للمسالك والشعب – في ذهن الناشئة كما في ذهن المجتمع- يُعتبر أقرب إلى الكاريكاتور والاختزال ويخنق المشهد التكويني في ثرائه وتنوّعه وانفجاره على نطاق كوني (كأن نقول ان الرياضيات تقود إلى الهندسة، والعلوم التجريبية تُفضي إلى الطب والاختصاصات شبه الطبية، والإعلامية إلى الرقميات وشعبة التقنية تُحيل على الميكانيك والكهرباء… أما الاقتصاد والآداب فلهاتين الشعبتين وضع خاص لأن جمهورهما كاتم لسرّه ومغلوب على أمره)… وهو تصنيف في قطيعة كليّة مع الواقع وحقيقة ارتباط هذه العروض بالمآلات التي يتصوّرها العامة من ناحية، وغير منسجم بالمرّة مع الطموح المجتمعي نحو التأسيس لمدرسة مُنصفة وغير نخبوية وذات قدرة عالية على تمكين الأغلبية الساحقة من التلاميذ من “زاوية خاصة بكل فرد فيهم لتحقيق الذات” من ناحية أخرى.
_______ثالثا : حوار الطّرشان بين التربية والتعليم العالي. بعد كل دورة من دورات الباكالوريا على مر كل السنوات الثلاثين الأخيرة تُحيل وزارة التربية عشرات آلاف ناجحيها الجدد في الباكالوريا إلى التعليم العالي، وتطالبه بتوزيعهم عشوائيا واعتباطيا حسب مقاييس وفلسفة وضوابط وإكراهات لا يتدخل أهل التربية فيها البتّة، وكأن التكوين الذي تمّ تأمينه على امتداد 13 سنة لا يعطي التربية أية أهلية لإبداء النظر في ضبط التوزيعيات وتحديد التوازنات. ويُذكر في هذا السياق أن مسؤولي التوزيع غير مطّلعين البتّة على برامج الابتدائي أو الإعدادي أو الثانوي، بل لديهم مجرد فكرة نسبية على محتوى اختبارات الباكالوريا وعناوين المواد المدرّسة في المستوى النهائي من التعليم الثانوي. أما التعليم العالي فله اشتراطاته ويمارس تقييما أحاديا لملمح كل نوع من أنواع الباكالوريا، فيُرفّع من نسب معيّنة إلى أقصاها في شعب معيّنة ويقلص من نسب أخرى إلى أدناها وفق تقييمات مرتجلة وتقديرات مبتذلة.
_______رابعا : غياب كامل لأية خطة وطنية في مجال التوجيه. لم أستمع شخصيا إلى أي مسؤول على المستوى الوطني يتحدّث في إشكاليات التوجيه وحتمية إيجاد خطة وطنية تعالج الاختلالات المسجّلة وترسم سياسة وطنية للنهوض ببعض المسالك وتعديل أخرى أو التخلي عن البعض منها … في سياق استحقاقات التنمية والتحولات العميقة الجارية في العالم على مستوى المهن والمؤهلات المطلوبة ومقتضيات التشغيلية. وللأسف فإن منطق تهرّب الدولة من واجبها التعديلي والإصلاحي هذا ينسحب على كل المرافق الاستراتيجية الحيوية الأخرى مثل زراعة الحبوب والتصرف في المياه واستخراج الفوسفات وإنتاج الطاقة والتصدي لظاهرة الهجرة الجماعية لأبقارنا نحو الجزائر الشقيقة.
_______خامسا : ضعف نسب التوجيه نحو الشعب العلمية والتقنية مقابل ارتفاع نسبة التوجيه نحو الاداب والاقتصاد والتصرف بما خلق اختلالا فظيعا أضر بالتربية وأربك التعليم العالي وهدّد الآفاق المفتوحة أمام أصحاب الشهائد العليا. فعلى سبيل المثال تصل نسبة التوجيه نحو الاقتصاد إلى 40 بالمائة في بعض الجهات مقابل نسب توجيه تحاذي الصفر نحو شعبة الرياضيات !
_______سادسا : غياب المعابر والتنافذ بين مختلف أضلع المنظومة التكوينية الوطنية (فالحاصل على الباكالوريا باستطاعته الالتحاق بعروض التكوين في منظومة التكوين المهني في مستوى مؤهل تقني سام لكن المتحصل على مؤهل التقني مهني – ما يعادل الباكالوريا- لا يستطيع الالتحاق بالتعليم العالي في اختصاصات تمثل امتدادا طبيعيا لما درسه المتكوّن، كما بإمكان طالب التعليم العالي تعديل مساره واختيار التكوين المهني بعد إجازة أو ماجستير أو كذلك أثناء دراسته الجامعية، لكن العكس غير وارد… لأسباب لا علاقة لها بمضامين التكوين والمؤهلات المكتسبة هنا وهناك بقدر ما ترتبط بأدمغة حاكمة غير مُهوّاة بشكل جيد.
______سابعا : أهمية العمل بآليّة الملف المهاري للتلميذ أو اعتماد جذاذات خاصة بكل تلميذ ترافق دفتره المدرسي طيلة مساره الدراسي (ترصد الميولات والقدرات وتسجّل المشاركات المتميزة…) ويُستفاد منها في التوجيه نحو بعض المسالك الخصوصية بالتعليم العالي كما هو معمول به بشكل محتشم اليوم في سياق ما يسمّى بتوجيه أصحاب المواهب. وفي ذلك إقرار بوجاهة المقاربات الجديدة التي تعتبر أن التوجيه هو مسار وسيرورة مدى الحياة أكثر منه عملية إجرائية يتيمة تجدّ مرة واحدة في مستوى دراسي معيّن .
أُنهي أخيرا بما قاله عالم الانتروبولوجيا والاجتماع الألماني أرنولد غيهلن بأن “الفكرة ليس لها من وقع أو أثر في التاريخ إلا إذا تجسّدت في شكل مؤسّسات” …وعليه، أقول انه محمول على دولة تعي كل هذه الإشكاليات والرهانات أن تبعث المؤسسات الضرورية لتجسيد ما تتبيّن صحّته وراهنيّته الملحّة في هذه الأفكار… من قبيل بعث لجنة التنسيق العليا بين الوزارات المعنية بالتكوين والمركز الوطني للإعلام والتوجيه العابر للوزارات والقطاعات، ووضع استراتيجية وطنية متوسطة وبعيدة المدى تبني خارطة جديدة للتعلّمات تواكب العصر وتقلّص من حجم جمهور غير القادرين على امتطاء المصاعد الكهربائية والرقمية المعقّدة بعد تعطل المصعد الاجتماعي التقليدي.