جور نار

هل أصبح كل ساسة البلد أقرب إلى دعاة طغيان، منهم إلى دعاة ديمقراطية؟

نشرت

في

تعيش اليوم تونس أخطر مرحلة تواصل في تاريخها…فبعد أن حوّل فيروس الحقد والخراب والبطالة أكثر من نصف الشعب التونسي إلى ما تحت خط الفقر، وبعد أن وضع وباء الانتهازية الذي يقوده عدد كبير من ساستنا البلاد في وضع مأسوي يخجل منه أجدادنا لو علموا بما نعيشه اليوم…بعد هذا وذاك وكل هذا وذاك…أصابنا داء عضال لا أظنّ أننا سنجد له لقاحا، أو دواء يشفينا منه، فأغلب مكوّنات المشهد السياسي من أعلاها إلى أوسطها وصولا إلى اسفلها، انحدرت إلى أسفل القاع الأخلاقي…

محمد الأطرش

حرية الرأي التي طالما طالب بها أشباه ساستنا، وأشباه بعض الحقوقيين أيام حكم العظيم بورقيبة رحمه الله، والوطني بن علي رغم ما أتاه رحمه الله وجازاه، أصبحت اليوم تداس بالأقدام وبالأقلام…فأعراض الناس أصبحت تُباع وتُشترى في أسواق الفايسبوك والتويتر وغيرها من فضاءات التواصل الاجتماعي…فما يقع اليوم لم تعشه تونس في عهد بن علي رحمه الله، ولم تصل حتى إلى نصف ما وصلت إليه الساحة السياسية اليوم من انحدار وارتفاع خطير لمخزون شعبنا من النفايات اللفظية السامة والقاتلة…فساسة اليوم يعملون جاهدين على خلق الانقسامات بين كل أفراد الشعب يوميا، من خلال حملات تشويه وشيطنة كل من يخالفهم الرأي، أو حتى من يبقى على الحياد…

اليوم إن لم تكن معي فأنت ضدّي…وإن بقيت على الربوة وعلى الحياد فأنت ضدّي… والغريب أن لا أحد من عصابات الحقد اليوم يمكنه أن يثبت ولو بنسبة واحد بالمائة صدق ما ينسبه عن خصومه…والأغرب في ما تعيشه الساحة هو الانحدار الأخلاقي الرهيب لما يُكتب…فإن كتبت كلاما جميلا عن خصم أحدهم أصبحتَ خصما له وأصبحتَ عميلا في نظره وأصبحتَ بيدقا لخصمه…وفي لمح البصر ينقلب حالك، فبعد أن كنت رجلا شهما ومناضلا لا يشق لك غبار تصبح في نظر البعض إرهابيا ومجرما وسفاحا…دون حجة ولا إثباتات…وأتحدى أن يثبت أحد أفراد عصابات فيسبوك السياسية شيئا مما ينشره عن كل خصومه…وأتحداهم أن يأتوا بدليل واحد عمّا ينشرونه عمن يخالفونهم الرأي…أو عمن أوصاهم أسيادهم بالنيل منهم…

هل أصبحت البلاد بلا أخلاق وبلا قانون؟؟ فهذا يكتب نصا يهتك به عرض امرأة محصنة فقط لأنه قبض ثمن فعلته تذكرة طائرة أو عشاء فاخرا بما تيسّر من خمر معتّقة…والآخر وقد تجاوز سن العقل والحكمة ورفع عنه القلم يكتب تشويها لخصوم سيده الغبي بمرتب شهري…والغريب أن عصابات الفايسبوك لا تفرّق بين الخبر والرأي…فالخبر حين لا يكون في صالحهم، يصبح في نظرهم شتما وتهجما عليهم والرأي حين يكون محايدا لا يخدم صالحهم يصبح في نظرهم هتكا لأعراضهم…فإلى أين نحن سائرون بما نراه اليوم وما يفعله بعضنا؟…فالعدائية والعدوانية أصبحتا ظاهرتين سلوكيتين واسعتي الانتشار في تونس…وكأني بالجميع يريد تصفية حسابه مع الجميع…والغريب أن بعضهم لا يزال يتشدّق بالديمقراطية…فهل ما تعيشه تونس اليوم ديمقراطية؟؟

لا أبدا فما نعيشه اليوم هو دكتاتورية الفضاءات الاجتماعية بعد أن عشنا طيلة السنوات الأولى التي تلت 14 جانفي دكتاتورية واستبداد الشارع…فاليوم امتلأت فضاءات التواصل الاجتماعي بالحسابات العدائية والعدوانية، وهي في مضمونها تختلف عن الرأي والخبر…وهو ما لم يفهمه بعض الهمج أو بعض المرضى من ساستنا، فتراهم يبحثون عمّن يقوم عوضا عنهم بالأعمال القذرة من خلال سلوكيات تهدف إلى المضايقة أو التهديد، أو استخدام التخويف والترهيب لإسكات صوت أي مستخدم آخر لا يتوافق مع توجهاتهم السياسية …فالفايسبوك في تونس اليوم انقلب من مكان حوار ونقاش إلى ساحة حرب لا أخلاق فيها، فكم من بيت خربته الألسن الخبيثة وكم من صديق فارق صديقه فقط لأن بعضهم نجح في خلق الفتنة بينهما…

واليوم وأكثر من أي وقت مضى فإن الدولة وهي التي تشارك بأتباعها ما يقع في هذا الفضاء، مطالبة بتنظيم هذا الفضاء ليحافظ على مكانته التواصلية والمعرفية…من خلال قانون ينظّم سلوكيات كل المشاركين في هذا الفضاء التواصلي…فالدولة ليست مطالبة فقط بتنظيم حركة المرور بالشارع، وبالحفاظ على الأمن في المدن والقرى، وبملاحقة المجرمين بل أيضا بالحفاظ على أمننا الأخلاقي على مواقع التواصل الاجتماعي…ولا أقصد بالحفاظ هنا ممارسة القبضة الحديدية بل أقصد بتنظيم وتقنين سلوكيات الساكنين والزائرين لهذا الفضاء …فلا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار النقد أو مناقشة بعض الآراء جريمة، أو نشر الأخبار المؤكّدة والموثوق من صحتها جريمة، لكن مقابل ذلك وجب تجريم كل سبّ وتشويه وتجريح وثلب للأشخاص سواء كانوا من العامة أو من الخاصة….فالمواقع العدائية غزت فضاءات التواصل، وقد تتسبب في قادم السنوات في فتنة قد لا نقدر جميعا على إطفاء نارها…

اليوم بعض المعارضين لسياسات الدولة ولساكن قرطاج يخلطون بين المعارضة السياسية والمعارضة الفوضوية العنيفة، فتراهم يدعون إلى العنف اللفظي ضدّ أتباع النظام أو المنظومة الذي لم يبق منها غير ساكن قرطاج بعد أن “انقلب” على شريكيه في ما يُسمى بمنظومة 2019 …والعكس بالعكس يقع أيضا فأتباع “مولانا” ساكن قرطاج يأتون خطابا خطيرا ومخيفا ومفزعا على مواقع التواصل الاجتماعي بجميع أنواعها ومسمياتها…والخطر في كل ما يقع اليوم في تونس…هو أن من يستخدمون هذه الوسائل لغايات عدوانية وعدائية نجدهم في السلطة كما في المعارضة…وجميعهم يعتقدون أن رأيهم هو الأصوب …وأنهم وحدهم على حقّ…وكأنهم من الملائكة وغيرهم من الشياطين…وكأنهم الأقدر والبقية من الجهلة والأغبياء…هؤلاء جميعا حاكما ومحكوما هم في حقيقة الأمر وبخطابهم هذا أقرب إلى دعاة طغيان منهم إلى دعاة ديمقراطية…وفي بلادنا الموجوعة اليوم يتساوى الحاكم ومن يعارضه والمحكوم ومن يعارضه في تشويه المفهوم الحقيقي للديمقراطية…

نصيحتي لجميعهم مما قاله في أحد الايام شكسبير: “لا تُوقدوا ناراً في دواخلكم تجاه آخرين، كي لا تحرقكم”…

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version