يحاول بعض ساسة هذه المرحلة ايهامنا بأن أوضاع البلاد جيدة ولا خوف من الأيام القادمة…كما يحاول بعض هؤلاء ايهامنا أن البعض الآخر يريد شرا بالبلاد، من خلال ما يأتيه من معارضة للسلطة القائمة ونقد ما تأتيه…
هنا أسأل بكل ما يعنيه المنطق والعقل…ماذا أضاف لنا تحوّل الخامس والعشرين من جويلية؟ وما الذي تغيّر في سياسة الدولة مع الأوضاع السائدة والأزمة التي تعاظمت واستفحلت؟ لا شيء غير تحوّل مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحة حرب بين المهللين بما بعدالخامس والعشرين، والرافضين لما جاء به يوم 22 سبتمبر…فلا حديث عن التنمية…ولا عن مشكلات البلاد…ولا عن الحدّ من نسب العجز أو معالجة قضايا البطالة…فكل وسائط التواصل اليوم أصبحت منصات لإطلاق الصواريخ هذه “التعبيرة” التي جاء بها ساكن قرطاج وأصبح الشعب المغلوب على أمره ينتظرها مع كل إطلالة رئاسية فايسبوكية، كانت، أو تلفزية، لينطلق في وصلة تصفيق وتهليل…أقول كل مواقع التواصل أصبحت ساحة تستباح فيها الأعراض…فغابت أخلاقيات النقد…وتحوّل النقاش إلى تشهير…والنقد إلى شتيمة…والاحتجاج إلى هتك أعراض…والحوار إلى تهوّر…
هذا ما كسبناه منذ الخامس والعشرين من جويلية ولا شيء غير هذا…فالجميع انخرط في وصلة انتقام وثأر من القديم…وتحوّلت فضاءات التواصل إلى قاعات محاكمة لكل من ليس منا ومن لم يكن منّا…وفتحت أبواب السجون لكل من يعارض المدّ الشعبي الذي يمشي وراء ساكن قرطاج…وأغلقت أبواب السجون أمام كل من تلوّن بلون هذا المدّ الشعبي وأعلن البيعة …والغريب في أمر كل هذا أن منسوب الحقد بين جميع مكونات المشهد السياسي والاجتماعي ارتفع بشكل ملحوظ، وأصبح يشكّل خطرا على وحدة هذه البلاد واستقرارها…والأغرب من كل هذا أن هذا المنسوب يتغدّى من خطب ساكن قرطاج التي لم تخلُ يوما واحدا من شيطنة للخصوم ورفضا كاملا للآخر ولمن يختلف خطابه عن خطاب ساكن قرطاج…
لا أحد ممن هم حول الرئيس شعروا بخطر ما يجري بالبلاد وكأني بهم نصحوا الرئيس باللامبالاة وبالردّ على كل ما يأتيه خصومه بطريقة فيها الكثير من التهكّم والإساءة والتعالي…هؤلاء نسوا أن المكسب الوحيد الذي وجب الحفاظ عليه من فوضى الربيع العربي المزعوم هو حرية الرأي والتعبير والقبول بالآخر ودونهم سنأخذ طريق الدكتاتورية والاستبداد…وعلينا إعادة تشخيص الأمراض المزمنة التي ورثناها من ما قبل الخامس والعشرين جويلية…خاصة أن ما وقع في ذلك اليوم لم يكن مرفوضا من الجميع بل ربما كان في شكله الأول الذي لم يخرج عن إطار الفصل 80 من الدستور مقبولا من جميع الأطراف حتى تلك التي تضررت منه …فالجميع كان شاعرا بالورطة التي تعانيها البلاد بعد انتخابات 2019 والمأزق التي تردّت فيه الأوضاع عموما…والجميع كان يريد إيجاد مخرج لما نحن فيه حتى بعض من تسببوا فيه…
لكن هل أوجدنا حلولا لما استحوذنا على جميع السلطات من أجله؟ هل أصلحنا بابا واحدا من الأبواب المعطوبة؟ هل أكملنا تشخيص جميع الأمراض التي تنخر جسد هذه البلاد؟ هل أوجدنا الحلول أم غابت عنّا كل الحلول؟ ألم ندرك إلى حدّ الساعة أن وضع البلاد شبيه بذلك الجرح الذي أهملناه وتركناه لمصيره دون علاج فاضرّ ببقية الجسد…
مشكلتنا الأولى هي أننا لم نذهب إلى لتشخيص السليم في قراءة ما وقع بالبلاد على مدى العشر سنوات التي مرّت…التفتنا إلى أحقادنا وتركنا الأهمّ والمهمّ جانبا، وجعلنا من بعض الأسماء أهمّ مشكلاتنا ونسينا أن مشكلات البلاد أكبر من كل الأشخاص والاسماء…فانسقنا دون أن ندري إلى ما وقعنا فيه سنة 2011 من فوضى ورغبة جامحة في الانتقام والثأر من كل من حكموا قبلنا…فاليوم لم نلتفت للإصلاح وإعادة البناء بل التفتنا في حركة “مسكّنة” ومخدّرة لأتباعنا للانتقام من خصومنا وتشتيت شملهم، لنفس الغاية التي خرّبوا هم بها البلاد، الانفراد بالحكم غدا…فالتعلل بما وصلت إليه البلاد من خراب للانتقام من خصومنا وابعادهم عن طريقنا وفسح المجال واسعا امامنا في انتخابات قادمة، لن ينفع البلاد في شيء ولن يخرجنا من القاع الذي سقطنا فيه…والتعويل على دغدغة عاطفة الأتباع والترفيع من نسبة الحقد الذي يملأ صدورهم على خصومنا باختلاق الروايات الخيالية التي لا عقل يصدّقها، لن يُرضي عنّا أتباعنا يوم يستفيقون من سكرتهم وإغماءتهم، ويدركون بعد فوات الأوان أن لا شيء تغيّر في أوضاع البلاد وأوضاعهم، وأن العاطل بقي عاطلا… والفقير ازداد فقرا… والمريض لم يجد الدواء…
فالرئيس مطالب اليوم بإتيان ما لم يـأته من حكموا قبله…و الاكتفاء بشيطنة القديم ومحاكمتهم والتشهير بفشلهم لن يفيد البلاد في شيء…فالأتباع الذين يصفقون اليوم، ويهللون لكل ما يأتيه مولاهم في حربه على خصومه سينقلبون عليه يوم يدركون أنهم لم يكسبوا شيئا من وصلتهم “التهليلية”… الرئيس مطالب اليوم أيضا بحسن إدارة الأزمة…والابتعاد قدر الإمكان عن تقسيم الشعب والبلاد، من خلال ما يأتيه في خطبه “الناسفة” وحديثه الدائم عن منصات صواريخه الدستورية، والحال أنه جمّد نصف فصول الدستور الذي انقلب به على الدستور…فالرئيس انقلب على الدستور بما جاء بالدستور… وعلى الرئيس اليوم أن يعي أن المسكّنات التي يوزّعها يمنة ويسرة من حين لأخر على أتباعه سينتهي غدا أو بعد غد مفعولها، فالجميع على بينة من أن حكومة بودن هي مجرّد حكومة تصريف أعمال يرأسها ساكن قرطاج…كما عليه أن يعلم أنه بالتقليص والحدّ من سلطات القصبة وتحويل أغلبها إلى قرطاج إنما حشر نفسه في زاوية المسؤول الأول الذي سيتحمّل تبعات كل فشل منتظر…فكل فشل ولو كان صغيرا سيخرجه من المشهد تماما وسيجعله عرضة لما يعيشه خصومه اليوم، لذلك فهو اليوم مطالب بالاستماع إلى الجميع حتى خصومه…وعليه أن يجمع الجميع حوله وعدم الاكتفاء بجوقة المصفقين الذين سيهربون من المركب يوم يدركون أن الفشل سيكون خاتمة مطاف هذه العهدة…لذلك وأكثر من ذلك على الرئيس أن يقرأ التاريخ جيدا…وعليه أن لا يأمن كثيرا لمن هم حوله، وهو الأدرى بمن كانوا حول خصومه يوم كانوا يجلسون على كراسي الحكم، فهؤلاء اليوم يحومون حوله وسيجدون منفذا يدخلون به أرض أتباعه دون أن يعلم بذلك…
أظنّ أن الرئيس يعلم جيدا أن الشعب عاش على الوعود والهراء والكلام الأجوف احدى عشرة سنة ولم يغنم شيئا بل زاد وضعه سوءا…ولا أظنّه سيصبر عشر سنوات أخرى ولا حتى سنة أخرى في وضع كالذي يعيشه اليوم…فخبزه اليومي أصبح شيطنة القديم صباحا…والتصفيق لمحاكمة مسؤول سابق مساء…ولا شيء في الأفق غير ذلك…هذا الشعب بدأ يملّ سياسة الحكم بالنوايا والوعود…فلا يكفي أن تكون نواياك طيبة حتى يُعاد انتخابك… أحلام هذا الشعب أكبر بكثير من مجرّد وضع معارض في السجن واكتشاف فساد في عربة لبائع خضر متجوّل أو في مزرعة بها خمس دجاجات وديك مخنّث…وهنا وجب على الرئيس أن يستمع إلى أوجاع الشعب قبل أن يستمع لتصفيقه وصراخه “الشعب معاك يا رئيس”…وعليه أن يسجّل في ذاكرته أن شعار “ارحل” جاء مباشرة بعد “الشعب معاك يا رئيس” لمن حكموا قبله…وعلى ساكن قرطاج أن لا يكتفي بسؤال “الدخان منين؟” بل عليه أن يبحث جدّيا من خلال تشخيص أسلم وأعمق في من اشعل النار التي كانت وراء تصاعد الدخان الذي سأل عن مصدره…يومها سيغيّر كل سياساته التي يأتيها اليوم…وغدا تونس أجمل لو عرفنا كيف نعيدها أجمل…دون أحقاد…ودون عقلية الثأر والانتقام…وضرب الخصوم لغاية في صناديق الانتخابات…واللبيب من بكلام موجع يفهم…