جور نار

هل تونس خضراء فعلا؟ (10)

نشرت

في

كنت من المدمنين على متابعة “تور دي فرانس” (دورة فرنسا) للدراجات … لا، ليس غراما بالملكة الصغيرة و تلولها الكثيرة و عجلاتها النحيفة و كرسيها المثلث الذي لا يكاد عصفور يجلس عليه … أبدا، فمع احترامي لهذه الآلة و مريديها و الناصحين بها رياضة و شغلا، لم أمتطها أول مرة لا في سن العامين أو الثلاثة كما يقع لأطفال اليوم، و لا الخمسة كما كان في عصرنا، بل لم يحصل لي الشرف إلا عند الـ 18 سنة حينما اشتريت واحدة في سن جدتي و من ذلك الموديل (كادر 700) الذي لا يقل ارتفاعه عن متر و نصف و يلزمك سلّم أو معين للصعود … و قد عانينا ـ شقيقي عبد الرحيم و أنا ـ أسبوعا بحاله قبل أن نروّض الهيكل المعدنيّ الحرون، و نتلقّى دونه سلخا من رُكَبنا و جلود أيدينا بقيت آثاره إلى اليوم …

عبد القادر المقري

نرجع إلى دورة فرنسا للـبسكلات … كنت أتابعها بحرص، و مع ذلك لم يكن يهمّني الدرّاجون و لا المتسلّقون و لا رقم التوقيت و لا صاحب القميص الأصفر … يمكن يكون ذلك في نهاية التتويج فأتعرف على الفائز كأي فائز في بطولة عالمية مّا … أما المنعرجات و الكوكبات و التناوب و نظام الفرق التي تحمل أسماء ماركات تجارية تُفقد اللعبة كل نكهتها، فذلك يدخل من هذه الأذن ليحرج من الأخرى … محطّ نظري في تلك الدورة كان دائما على جانبي الطريق لا في وسطه … تلك الحقول اليانعة و ذلك المدى الممتدّ و الأفق الصافي من غير سوء … القرى الصغيرة و المداشر التي تتوالى كحبّات جوهر في عقد نظيم … الضيعات والمساكن الريفية النظيفة السويّة المصونة رغم قِدمها البادي للعيان … وقبل الجميع، سكّان تلك المناطق بهندامهم اللائق وسحناتهم الباسمة و هم يرحبون بالحدث و أبطاله بكل ثقة وسعادة و عزة نفس …

مشكلتي مع المظهر التونسي متعددة و لكن أهمّها مشهدان مأساويّان كبيران … منظر مدننا من الطائرة حين نكون في السماء، و منظر أريافنا من كل الزوايا حين نكون على الأرض … و بتجربة صغيرة و حتى نبقى في نفس الإطار، كانت لدينا نحن أيضا دورة للدرّاجات تشق البلاد من شمالها لجنوبها … و كانت كاميرا التلفزة ترافقها وتصوّر المتسابقين ولم يكن هناك مفرّ من تصوير المشهد العام فماذا نرى؟ …

أوّلا عندك الأحياء القصديرية (أو الياجورية) التي لا تخلو منها مدينة تسلّمك إلى جارتها … لا تحلو منها مدينة ولا قرية ولا حتى تجمّع سكني من ثماني عائلات … دائما عندك منازل غير تامّة تعلوها صفّة من الآجرّ الأحمر غير متساوية كأسنان مشط مكسور … تخترقها بضعة أعواد حديد صدئة تنتظر عبثا تحويلها إلى أعمدة خرسانية … يعني مشروع “طابق” علوى لإسكان الولد الأكبر حين يتزوّج، ولكن لم يكتب له المكتوب في امرأة ولا حتى في شغل … وقد اختفى من سنتين ناس تقول حرق لإيطاليا، ناس تقول في ريف حلب وبعضهم رآه في مركز إيواء الوردية و ربّك أعلم …

ثانيا، بنو وطننا مغرمون بتكديس أي شيء في أي مكان و قد يبقى هناك مائتي سنة دون أن يسأل عنه أحد … كومة ردم من بقية مرمّة، فضلات أبقار لم تعد صالحة حتى للسماد، نفايات مصنع أغلق و هرب صاحبه، مصب فوضوي للزبالة في العراء الطلق، حطام سيارة عملت حادثا هناك عام 60 … كل هذا تعاقب عليه كم ربيع و شتاء و صيف و مرّ الخريف بعده كما قال فريد … إلى درجة أن نبتت فوقه خمائل من البُكّ و أجيال من الشوك اخضرّت و اصفرّت و ماتت وطلعت من جديد …

و لا حديث عن المساكن التي هجرها أصحابها و تحولت إلى خرائب، و لا عن الدكاكين الوسخة المكتوبة بضاعتها بالدهن على الحائط و بخط بدائي، و لا عن الأحمرة الهزيلة التي تنوء بأوعية الماء الخاوية في أخصب مناطق الجمهورية، و لا عن قوارير و أكياس البلاستيك التي تملأ الأفق بعد أن قذفت بها السيارات العابرة و السكان القارّون، و لا عن الكلاب السائبة التي قد تلاحق الدرّاجين العزّل و ربما تعضّهم، و لا عن نصف دلاّعة سقطت من إحدى الشاحنات عندها ثلاثة أيام و بقيت في عرض الطريق …  

منظر الريف الجميل تعال نتكلم قليلا عنه:

الأشجار الوارفة التي تركها الاستعمار و كانت تعطي ظلاّ و نسيما، تمّ اقتلاعها و تحويلها إلى خشب و فحم و قرضات لزوم العيد الكبير … طبعا ما دام مهندسونا حكموا في التسعينات أن الكالاتوس مسؤول رئيسي عن حوادث المرور و تشقق الكياسات … هكذا، من دون كل بلاد العالم … و هي للآسف تعلة فاقعة للتغطية على صفقات و أرباح و قطط سمان … تعلّة جعلتنا نخسر ثروة طبيعية لا تتجدد قبل مائة عام، و دون مبالغة … هذا إن شرعنا في تجديدها !

الحقول اليانعة على الجانبين تنعش القلب و لكن في بعضها شيء من الكمد … لدينا الكثير من أراضي البور، قد تكون غايتها إراحة التربة (و لو أن هذه التقنية تجاوزها العالم من عشرات السنين) و لكن في معظم الحالات يتمّ “ترقيدها” حتى تدخل في المخطط العمراني لأية مدينة قريبة فتباع بالمتر … و هناك من باع و اشترى في ذلك فعلا، خاصة بعد 2011 و إنشاء كمّ هائل من المناطق البلدية الجديدة …

بلدنا يقع في شطر من الكوكب ينبت فيه الهندي، لا مشكلة في ذلك بالعكس … ولكن لماذا لا تكتسب هذه الشجرة بؤسا و سوء حال إلا عندنا؟ تنكسر منها أغصان فتبقى هناك، تموت منها أجزاء فتتحجّر هناك، تسقط منها أظلاف فتتراكم فوق بعضها البعض … أليست جزءا من زراعتنا؟ ألا تنتج ثمرة تعيش منها تجارة و يقع تصدير؟ إذن ألا تستحق تشذيبا و رعاية حتى تكون أفضل؟ … في الإنتاج و أيضا في تجميل بلادنا أمام المارين بها … أو هذا أيضا لا يهمّ أحدا؟

الأعشاب الطفيلية تتمّ السيطرة عليها و تهذيب منظرها إلا عندنا … ممكن أنهم يقاومونها داخل الحقول المنتجة، و لكن البقية؟ … تجدها على المسارب و الطرقات الفلاحية، و تجدها على جنبات الطرقات الأكبر من ذلك، و يشوي السدر الشوكي سيقان أيّ راكب قطار مدلدلة في لحظة سهو … في حين أن تلك النباتات في البلاد المتحضرة تجد عناية و ترويض لا أدري من … المهمّ أنها تعطي انطباعا متناسقا بدل “الغوفة” التي تزحف علينا بوحشية سنوات المطر …

نختم و نبدأ بالإنسان … الإنسان في الضفّتين: ريفهم و ريفنا، فلاّحهم و فلاّحنا، متابع دورتهم و متابع دورتنا، مشجّعهم و مشجّعنا، المصفّق على متسابقيهم و مصفّقنا … على ماذا؟

 يا رب لطفا به، إنه يعيش في تونس …

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version