هذا ما يكاد ينشده أنصار الرئيس و أعداؤه في نفس الوقت و خلال أيام و ربما ساعات … عيل صبر الجميع و هم ينتظرون بزوغ شمس الإثنين 26 جويلية 2021 الذي لم يأت بعد … ما زلنا بتوقيت تلك الليلة نعيد و نستعيد قرارات تجميد برلمان جامد بطبعه و ميّت في نظر الجميع منذ دهر، و إقالة حكومة مُقالة مستقيلة من يومها الأوّل … و ما زلنا ننام و نصحو على وعيد بلا غد، و تهديد بلا مستقبل، و متّهمين دون أسماء …
كأغلب أبناء شعبنا، لست مع نظرية الانقلاب و هرطقات المشتعلة في ملابسهم النار … بالعكس، فقد راقتنا تلك الضربات الجراحية التي تم تسديدها لمن طغوا في البلاد، أو تمّ البدء في ذلك، أو هكذا شُبّه لنا … و لكن المشكلة أن المسلسل الجميل بدأ بحلقة واحدة و وقف هناك … فلا البرلمان انتقل نهائيا إلى رحمة الله و عوّضناه بما أحسن منه، و لا الحكومة السابقة تركت مكانها لحكومة لاحقة، و لا النيابة العمومية (التي صار رئيسنا رئيسها) شرعت في اصطياد الرؤوس الفاسدة رأسا فرأسا … و هذا يذكّرني بمعارض قديم لنظام بلد جار يتخبط في الفوضى منذ نصف قرن … إذ قال مرة: لم نعد نريد دولة عادلة أو ظالمة ، “نبّي” دولة فقط …
لم نكن أيضا من المهووسين بوجود برلمان بعدما كرّهنا مجلس الخيانة و الإرهاب في كل ديمقراطيات الدنيا، و لكن ماذا تريد؟ … شرّ لا بدّ منه؟ نعم … ترف لا بدّ من وجوده؟ نعم … زائدة دودية موجعة و لكن ضرورية؟ نعم … منذ فلاسفة التنوير إلى اليوم، أي منذ مائتين و خمسين سنة، لم تجد البشرية شكلا للحكم أصلح من مشهد بثلاث سلطات تراقب كل منها الأخريين … قل عنها إنها نظام سيّء، قل عنها استُخدمت من قبَل المستبدّين و المافيوزية و العائلات و الأقليات، قل عنها سمحت للنازيين و ملوك المخزن و حشّاشي طالبان و كارتيلات كولومبيا بأن تأخذ حكم الدول و تحتجز الشعوب … قل عنها ما شئت، و لكنك لن تهندس نظاما أفضل أو تخترع عجلة مربّعة الشكل …
شهر و نصف الشهر مرّا على ذلك الإعلان و تلك الخرجة الليلية التي عشناها … و لكن ما حصل بعدها كان هزيلا حقا، فمداهمة مصنع حديد أو مستودع بطاطس أو حتى “قنّارو” دجاج لا يمكن أن تصنع سياسة دولة أو تغيّر واقع بلد أو تقيم العدل أو تؤسس العمران … كان يمكن لذلك أن يثمر لو تلته مجالس وزارية و تكليف هياكل المراقبة المحترفة بإتمام الشغل … بل كان ممكنا التركيز على سلامة هذه الأجهزة و تلافي نقائصها و تدعيم جولاتها بدوريات أمنية مدجّجة، و يقيني أننا بعد زمن سنقتلع الفساد و الفاسدين كما يُقلع الكُرّاث … جهاز المراقبة الاقتصادية، جهاز التفقد الضريبي، مصلحة الجمارك و غير ذلك كثير في بلدنا مما لا ينتظر سوى التنظيف و التعزيز و التفعيل … و يقابل ذلك مرفق قضائي قلنا مائة مرة إن في تعافيه ضمانا لمرور البلاد من العصر الحجري إلى عصر الأنوار … و ليس هذا مستحيلا لو توفرت فقط إرادة، و الإرادة هنا سياسية لا غير … أي إرادتك أنت يا رئيس …
بيدك أيضا إهداؤنا برلمانا خيرا من السابق، و بمسافات … الجميع يطالبك بإجراء استفتاء، و الناس مستعدة للوقوف يوما آخر في طوابير مكاتب الاقتراع و لكن على ماذا؟ … دستور جديد أم قانون انتخابي جديد؟ لك الاختيار بين الأول و الثاني أو حتى فكرة ثالثة لو شئت … و لكن ما المانع في أن تشكّل لجنة من خبراء يعرفها و يحترمها الجميع و تكون لك عونا على رسم مشهدنا القادم … و أهمّ من هذا، تبعد عنك تهمة العازف المنفرد التي ما فتئت توجّه إليك هذه الأيام، حقا أو باطلا … ما المانع من أن نعرف وجوه و أسماء من يعملون معك و أي فريق يقود تونس … و ما المشكل في أن يكون لك مستشارون من مختلف الأجيال، بعيدا عن منطق الأزلام و عقدة العهد السابق و أمراض الراكبين على ثورة لم تقع، و المنتحلين ثورية هي براء منهم، هم عتاة الرجعية و النماذج المتخلّفة للمجتمعات …
فباستثناء من أُدينوا بجريمة مّا، لم توجد كفاءة عالية لم تشتغل سابقا و هي معتقدة أنها تقوم بواجبها و قامت به فعلا … مئات الآلاف اشتغلوا زمن بن علي من منطلق خدمة الدولة لا الشخص و لا العائلة، و لم يرتكبوا جرما شخصيا و لم يحققوا لأنفسهم فائدة حراما، فما ذنبهم لو جنحت سفينة لا دخل لهم في مسك دفّتها؟ … أنت نفسك كنت جزءا من منظومة ذلك الماضي، فهل نلومك لأنّك درست و درّست و تقاضيت راتبك من نظام يقال عنه اليوم ما يقال؟ … أنت و أنا و جميع خرّيجي المدرسة التونسية من الخمسينات إلى اليوم، فهل نشطب كل هؤلاء و نعوّضهم ـ كما حصل ـ بخرّيجي السجون و العنف و بيادق السفارات و العائشين على فتات الأجانب؟
باق من الزمن لا ندري كم شهر و كم أسبوع و كم يوم … ميزانية 21 التكميلية تنتظر، و ميزانية 22 تنتظر، و التلميذ ينتظر، و العامل ينتظر، و البطّال ينتظر، و الفلاّح ينتظر، و شركاؤنا في الخارج ينتظرون… و ليس في هذا بالضرورة تدخّل في شؤوننا، فذاك حقهم علينا كما لنا عندهم حقوق و تلك سنّة العلاقات الدولية … الجميع ينتظر، و ساعة الحائط وحدها التي لا تنتظر …