لا يمكن لمن اشتغل بالإعلام أن يقبل أن يعيش الإعلامي أثناء قيامه بدوره تحت ضغط السلطة و هو ينتمي إلى سلطة و إن كانت رابعة فهي في قلوب الأحرار الأولى و سوف تبقى كذلك … خلنا أن تدخّل الساسة في الخط التحريري لوسائل الإعلام قد ولّى و انقضى بدون رجعة. و لكن يبدو أن من يحملون بين ضلوعهم حنينا لأيّام التسلّط و الغطرسة و التحكّم في رقاب الناس و أصواتهم، بقوا على أهبة للانقضاض على أول فرصة للعودة إلى الواجهة بأكثر شراسة …
الحكاية انطلقت من برنامج رام معدّوه التجديد و البحث عن أسلوب غير مألوف على عادة إذاعة المنستير منذ انبعاثها، اذ كانت القدوة و السبّاقة و المجدّدة و كانت تحلّق خارج السرب … برنامج “الرأي و الرأي المخالف” يطرح إشكالا معيّنا و يتولّى أحد طرفي الإعداد و التنشيط الدفاع عن الفكرة و يعدّ كل وسائل الإقناع للنجاح في مهمّته … و يقوم الطرف الثاني بدحض الفكرة و نقدها بكلّ الأساليب المتاحة، ثمّ يفتح المجال للمستمعين لتبنّي هذا الموقف أو ذاك …
و كان موضوع الحصّة الأخيرة يتمحور حول سؤال “هل أنت مع أو ضدّ التدخّل العسكري لإنقاذ البلاد؟” … و انقسمت الجموع بين قابل لفكرة و شكل البرنامج و بين رافض له، و انقسم الرافضون بين رافض توقيت البرنامج اعتمادا على حالة الفوضى التي تعيشها البلاد و بين رافض لها في المطلق … أما المدافعون فهم شتى، منهم من يستميت في الدفاع عن حرية التعبير و منهم من يدافع انطلاقا من موقف سياسي من التركيبة الحالية للسلطة، و منهم من يقف هذا الموقف لخوفه من عودة الرقابة و تدخّل الإدارة في الخط التحريري للإعلام بصفة عامّة … خصوصا أن القضية في اعتقادهم لم تكن لتأخذ هذا الحجم لولا تدخّل أحد النوّاب مندّدا بوسيلة الإعلام و بالفريق المنتج و اعتبر الأمر حثّا على الفوضى و نداء صريحا لانقلاب عسكري رغم أن نهاية البرنامج انتصرت لمدنيّة الدولة و الرفض القاطع لأي تدخّل عسكري … حتّى أن أحد المتدخّلين و هو عسكري متقاعد، نصح الشعب التونسي بالابتعاد عن الحلول العسكريّة و ترك الجيش في ثكناته بعيدا عن مستنقعات السياسة.
أمر غريب آخر برز في قلب هذه الفوضى … و هو تسرّع الرئيس المدير العام للإذاعات، بإيقاف مديرة الإذاعة و فريق البرنامج و رئيس مصلحة الإنتاج في انتظار نهاية التحقيق، أي حكم عليهم بالإدانة قبل ثبوت البراءة … و نحن نعلم أن صاحب المنصب بالنيابة (دولة تعيش نيابة دائمةǃ) لا دخل له في الموضوع الذي يخصّ لجنة التعديل أساسا … و إذا كان إيقاف فريق البرنامج يناقش، فما سبب إيقاف المديرة و هي حسب التنظيم الجديد لوسائل الإعلام إدارية غير معنيّة بمحتوى البرامج … و الأغرب من الغريب أن النائب المحترم الذي أثار البلبلة أو رافقها، لم يستمع على ما يبدو إلى البرنامج و إنما تابع الخبر من تعليقات الفيسبوك…
الخطر الحقيقي هو شطحات الساسة و البرلمانيين التي تهدّد استقرار البلاد، و ليس برنامج رأي في إذاعة قد نتّفق أو نختلف حوله .. فقليلا من الرشد و الحكمة رحمكم الله.