كلّ نار

هل كل إنجازاتكم تغيير الأسماء؟

نشرت

في

للكوميديان الشعبي الراحل نصر الدين بن مختار نكتة تقول إنه سيأتي زمن يصل فيه غلاء بعض المواد إلى درجة غير مسبوقة … إلى درجة مثلا أن يقصد أحدنا مطعما و يطلب “كسكروت بالتن”، فإذا بصاحب المحلّ يمسك نصف خبزة و يفتحها و يضع بين شطريها ورقة مكتوب عليها “تن” و يسلمك ذلك فتدفع الثمن و تمضي راشدا، أو تأكل بالهناء على عين المكان … و ممكن أن تطلب شيئا من الزيتون أو الهريسة أو فلفل بر العبيد فيقول لك الرجل “حاضر” و يأخذ تلك الورقة و يخنتب عليها بالستيلو: زيتون، زيت زيتونة، مغرفة هريسة، قرن فلفل … و يمكن حتى أن يأخذ بخاطرك و يغيّر الوجبة بأكملها لو شئت و بنفس التقنية … فينقلب الصندويتش من الحار إلى الحلو، و من التن إلى المعجون، و يمكن حتى تحويل وجهته إلى العسل الحرّ لو أردت … و دائما بمجرّد تدوير قلم حبر على ورقة …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

تذكرت هذه الحكاية و ترحمت على صديقي العظيم و قلت ما أقدر الموهبة الكبيرة على استكشاف المستقبل و كأنها تمارس العِرافة ! … فها أن الرجل رغم رحيله منذ قرابة الثماني سنوات، ينظر بعينيه الذكيتين في كفوف أيدينا و يحصي بالمناسبة “الكفوف” التي سنأكلها في قادم الأيام و حاضرها … للسوق قوانينها طبعا، و لكن سوقنا الفوضوية كسرت أعناق القوانين و تربعت فوق حطامها … تلك سوق التجارة، فما بالك بمرشي السياسة و الحكم و ازدحام الباعة و السمسارة و القشارة على أرضه و أبوابه كل ينادي على سلعة … و كل يبتكر أصفى و أرقى و أعلى أنواع الغش و ذرّ الرماد مرهما للعيون …

من مبتكرات جيلنا السياسي الثالث (كما أجيال الهجرة) أنهم يوهمونك بالحركة و هم قاعدون مثل تماثيل بوذا … و يمثلون عليك دور البنّائين و هم إلى حرفيي الدهن أقرب … تغمض عينيك بين يوم و ليلة، فتجد منشآت جديدة و مؤسسات و منجزات تفتح فمك لتهتف عند رؤيتها: الله أكبر … و لكنك بعد فركة جفن واحدة تنقلب من الله أكبر إلى الله يهلككم و الله يحشركم و الله يمكر مع مكركم و هو خير الماكرين … بل شرّ المعاقبين ما دام واجدا تحت سلطانه فراعين جددا و طغاة زمن و حواة يسرقون ملابس المتفرج و هو يضحك منتشيا كالأبله السعيد …

خذ عندك … منذ عشر سنوات لم يفعل الحكام الجدد شيئا يتعلق بوقف الشعوذة التي يمارسها أصحاب مدارس السياقة و شركاؤهم في الفساد ممتحنو النقل البري الذين لطالما عانت منهم أفئدة و انثقبت جيوب و بكت عيون و ارتجفت أطراف … قفير من مصاصي الدماء يمارسون الابتزاز العلني و يا ويلك إن لم تستجب لهم ففي انتظارك سقوط محتوم و قرار حاسم قاتل لا استئناف فيه و لا تعقيب … و ليس سرّا لدى الجميع بأن مهندسي النقل البري (و لست متأكدا من انتمائهم لمهنة الهندسة) فيهم نسبة مرتفعة من صبيان المافيا و المصابين بعقدة سادية يتلذذون جرّاءها من آلام الناس و تعب الشبان الصغار و ذهاب مال الساعات الطوال هدرا بمجرد خطإ يجبرونك عليه جبرا أو يختلقونه لك اختلاقا … أما إذا كنت من شطّار البلاد و سلّحت نفسك بمبلغ سمين أو توصية مغلّظة، فأنت ناجح و لو كانت معرفتك بالسياقة كمعرفة أبي الشمقمق بمكّوك شالنجر … و جاءت ثورة الكزّ التي عرفناها، و بدل أن يكشف دعاة (و أدعياء) مكافحة الفساد ذلك في ما يكشفون، اكتفوا بتغيير لافتة “سيارة تعليم” الموضوعة فوق سيارة النكد تلك، بلافتة “سيارة تكوين” … و هي طبعا تسمية خاطئة على طول الخط، فالشاب الذي يذهب هناك إنما يتعلم لكي يسوق عربة، و ليس بالضرورة رائحا لكي يتكوّن في صنعة من الصنائع … و لكن وزارة النقل فعلت ذلك هدية لأصحاب تلك المدارس، الذين يطالبون بنصيبهم من المنح و الامتيازات التي تعطيها أليات التربية و التكوين للمؤسسات المتخصصة في ذلك … و لو كان البحث العلمي مثلا أو التنقيب عن النفط يحظى بتلك الخيرات، لرأينا فوق سيارة “الأوتو إيكول” عبارة “سيارة بحث” أو “سيارة جيولوجيا” …

في باب آخر … نشهد كلنا أن السلطة القضائية في تونس مضروبة على يديها و ممنوعة حتى من أن تكون سلطة … و ها أن بلادا كاملة واقفة الآن بمصالحها و حقوقها و سير أعمالها، أولا بفعل إضراب القضاة الذين لم يتعاطف معهم تقريبا أحد … و ثانيا بمفعول القرارات العجيبة و الصمت الأعجب الذي يمارسه عدد من القضاة في حق جرائم و مجرمين و متهربين و إرهابيين و غير ذلك من سلسال المآسي التي نعيشها … كثيرون منا ينتقدون سير العدالة، و الحقوقيون و المعارضون يصفون ذلك بعدم استقلالية القضاء … و دون أن نتلبّس هذا الموقف أو ذاك، نقول إن القاضي التونسي أقل ما يقال فيه إنه مكتوف اليدين مقطوع الأطراف يعمل في ظروف من أردإ ما يكون و تتحكم في شغله و مصيره كم جهة نافذة و لا حماية له و لا حصانة رغم الزعم بأن قضاءنا محصّن … و يكفي النظر إلى حال محاكمنا و قاعات جلساتنا و تلال الملفات المطروحة أمام نظر أي من قضاتنا، حتى نفهم بعضا من معاناة مستشارينا الأشراف و معركتهم اليومية بين ظروف العمل و نزاهة الحكم … و بدل أن ننشغل جدّيا بوضع هذه المنظومة و نساعدها على مداواة جراحها و النهوض بيننا معافاة منصفة للحق دون أن يُكسر لها حُق … بدل ذلك، اكتفينا بتغيير اسم “دائرة المحاسبات” (و هي تسمية سليمة أنيقة مندمجة في تاريخنا العدلي العريق) و حططنا مكانها تسمية “محكمة ” المحاسبات … ناسين أن القضاء الإداري و المالي له خصوصية تختلف عن محاكم الحق العام أو محاكم الناحية … و لكن الجهل يعمل …

محطات ردح أخرى مارسنا فيها لعبة تغيير الأسماء و تبديل الطولة أو تزويرها لإيهام الناس بأننا نبني و ننجز … فمن إضافة اسم “الشعب” إلى “مجلس النواب” القديم دون إضافة و لو ياجورة إلى المبنى الموروث … إلى حذف صفة “العمومية” من عنوان وزارة الصحة و ليتنا أتممنا الجميل و سميناها وزارة الإضرار بالصحة … إلى التدليس المنافق لاسم جامع العابدين بقرطاج و كأنّ كرهنا للرئيس السابق جعلنا نعادي معه الكلمات المشتقة من العبادة … إلى تغيير لافتة دار التجمع بشيء لم أفهم معناه إلى اليوم و هو “عمارة الوطن” التي قد تصبح يوما “بالاص الأمّة” دون أن تربح البلاد شيئا … إلى “وزارة الإعلام” السابقة التي توزّعت مهامها القديمة بين الهايكا وتلك الوزارة التي ورثها علي الحفصي عن مهدي بن غربية عن كمال الجندوبي عن سيل طويل من العنعنات، دون فائدة تذكر … إلى منحة التواكل التي سماها نجيب الشابي منحة أمل، و تعاور غيره على برقشة اسمها من “منحة الكرامة” إلى “الغراسات و البستنة” إلى غير ذلك، و أهلكنا بها جيلا من شباب ثورة كان يعتصم وطنيا في القصبة 2 فأصبح يعتصم ـ محليّا ـ في الكامور قاطعا رزق شعب كامل … إلى شركات أقرباء النظام السابق التي صادرناها “بوه على خوه” دون سند قانوني أو منطقي، و قضينا على إنتاجها و الآلاف من مواطن شغلها، و وضعناها تحت هيكل وهمي اسمه “هولدينغ الكرامة” و ما هو في الحقيقة سوى جُمّاع من الموظفين الجهلة و كبار اللصوص أجهزوا على الفريسة و أكلوا منها ما أكلوا و البقية هاهي طعام للصدإ و الدود و الروائح الكريهة، روائح ما بعد 2011 خاصة …

و أكثر ما يستفزّك هو ما حصل منذ أيام في عاصمتنا الثانية “صفاقس” التي تئنّ بأحمال حالها مدينة ثم ولاية ثم ملتقى لنصف ولايات الجمهورية دون أن نعطيها مددا كي تنهض بأدوارها و تعيننا على حمل أذن القفة كما يقال … فالصفاقسية الكرام تعوزهم مرافق كثيرة و صارت بناهم التحتية تضيق بما يفد عليها من ملايين الناس و لا مبالغة … و هات مثلا المجال الصحي … كان بصفاقس مستشفيان مصنفان ضمن المستشفيات الجامعية … الأول قديم من عهد الباي (الهادي شاكر) و الثاني أضيف على الأول في الثمانينات و سمي كغيره على اسم الزعيم بورقيبة … و لن نعود كثيرا إلى الظروف السياسية و التاريخية التي فرضت فصل الثاني عن الأول و إفراده بكيان خاص رغم أنهما متلاصقان كإصبعيْ اليد الواحدة … قصة طويلة هي ذات القصة التي تتكرر اليوم في شكل مهزلة … و قد عانى كلا المستشفيين من هذا الفصل المتعسف بين جناح للأقسام الطبية و جناح للأقسام الجراحية و بعض المرافق الأخرى التي لا يستغني أحدها عن الآخر … و حصلت من وقتها مشاكل و نزاعات و تعطيلات لا تحصى لمصالح المواطنين جرّاء هذا التقسيم الاعتباطي السياسوي …

و جاءت هذه اللاثورة و تخيلنا أن مشاكل البلاد ستنحلّ و منها مشكل شاكر / بورقيبة كما قلنا … غير أن وضع الصحة العمومية في صفاقس زاد تدهورا و توترت العلاقات أكثر و أكثر و هبط مستوى الخدمات و لم نجد طبعا من شماعة نلقي عليها مصائبنا سوى النقابات و الإطار الصحي … و يبدو لي أن فكرة “النظام العسكري” الرائجة اليوم كحلّ سهل (أو مستسهل) لسوء سير البلاد … يبدو أن فكرة العسكرة جاءت مع تعيين مدير برتبة ضابط لأحد المستشفيين المذكورين … و قد حصل ذلك فعلا و منذ سنين، و مع ذلك لم تتقدم الأحوال قيد أنملة و لم ينفع معها ضباط و لا جيش و لا حتى الأسطول السادس …

و بدل أن نتعظ من هذه الهرطقات و نتشجع و نعالج الملف بروية و تدقيق و استماع لأصحاب الشأن من مرضى و مهنيين و متعاملين مباشرين مع منظومتنا الصحية … بدل هذا، واصلنا السير في غيّنا و في انتهاج نمنامة العسكرة ناسين أنه حتى المستشفى العسكري بتونس هو في أصله توسعة لمسنشفى حبيب ثامر المدني العريق … و لم ينهض بعد أن صار عسكريا إلا بفضل أبناء الصحة المدنيين و لم تقم له قائمة إلا بعد أن عين له الدالي الجازي (و قد شغل تباعا وزارتي الصحة العمومية و الدفاع) إدارة مدنية في مستوى اختيارات رجل دولة كبير مثل الجازي رحمه الله ..

الغيّ الجديد تمثل في الاستيلاء على هدية من الصين الشعبية أرادتها متنفسا لمدينة في حجم صفاقس، و مكسبا شعبيا من حيث جمهور الخدمات و انتداب القائمين عليها من مهنيي أبناء الجهة، في مؤسسة جديدة ضخمة تلبي ما يحتاجه محيطها من خدمات صحية و مواطن شغل … و تكون منارة مشعة على المدينة و الولاية و كامل القطر … فإذا بنا نسطو على المعلَم و نطلق عليه تسمية سياسوية استعراضية (كعادتنا) و ننسف معانيه و أهدافه و بُعده المحلي و الجهوي و الوطني و حتى المغاربي في آن واحد …

الخطأ الأول، في تسمية المستشفى الجديد … المرحوم سليم شاكر كان وزيرا من أكفإ و أنزه من عرفنا و هذا لا شك فيه … و كانت وفاته المبكرة حال استرابة تقارب الاغتيال، و كثير منا (و أنا أحدهم) يعتبرونه عند الله شهيد واجب و من بررة الوطن … و لكن هناك مشكلة صغيرة … فقد سبق لصفاقس أن أطلقت اسم “شاكر” على مستشفاها الكبير الأول، و هو ما زال قائم الذات و معروفا لدى الصفاقسية و التونسيين عموما كنار على علم … فما رأيكم لو تصعد سيدة عجوز متعبة في سيارة تاكسي و تقول للسائق احملني إلى مستشفى شاكر … فهل سيسألها أي من “الشاكريْن” تقصدين يا حاجّة: سليم أم الهادي؟ … يمكن لنا أن نضع اسم الوزير الراحل على أي مستشفى في نابل، في تونس العاصمة، في مدنين، في سليانة، في أية مدينة فهو ابنها جميعا … و دون أن يقع خلط في التسميات أو في الأدريسات …

الخطأ الثاني أننا ننسب ما لا يحق إلى من لا يستحق … قلنا في مقال سابق إن لوزارة الدفاع إدارة للهندسة العسكرية هي من أنجع و أخلص ما يكون … فيها من المهندسين و المهندسين المعماريين و العملة المهرة و مكاتب الدراسات و أسطول التجهيزات ما يضعها في مقدمة مقاولات البناء و الأشغال الكبرى في بلادنا … إضافة إلى رصيد عقاري من أكبر ما لدينا في الجمهورية … و قد اقترحنا على رئيس الدولة (قائد قواتنا المسلحة الأول) مشروع إقامة مستشفى عسكري بكل ولاية من ولاياتنا بدل الثلاثة الموجودين حاليا … و هدفنا في ذلك أن يعاضد جيشنا مجهود التنمية كما اعتاد ذلك، و يدعم خارطتنا الصحية المتآكلة و التي رأينا ضعفها مؤخرا في حادثة جندوبة …

و لكن بدل أن يسعى الأستاذ إلى ذلك و نكون له من الحامدين المعترفين … حمل معه في سيارته الرئاسية لافتة قماش و منذ وصوله إلى صفاقس لتدشين هدية الأصدقاء، تحول المستشفى الصيني بقدرة قادر إلى “مستشفى عسكري” … دون أن يكون لجيشنا البطل المغوار يد فيه و لو كانت يد بالة أو بيوش … و بجرة قلم واحدة، أوصدت الأبواب الحديدية الثقيلة في وجوه مواطنينا القادمين من قفصة و قبلي و توزر و مدنين و قابس و تطاوين فضلا عن صفاقس و أحوازها، و المنتظرين المولود الجديد بفارغ الصبر و منذ حجره الأساسي … تحركت الأبواب في وجوههم و قامت على الثغور فرق الشرطة العسكرية، و اُشهرت أمام سحناتنا الواجمة عبارة: ممنوع إلا على العسكريين و عائلاتهم …

أهذا ما انتظرناه منكم طوال عقد من الزمان ؟ أهذا ما يريده الشعب الذي تفرقعون آذاننا باسمه على أنه يريد فماذا يريد؟ … بل ماذا تريدون أنتم و لو كنت مكانكم و حتّمت عليّ الظروف بأن أعطي للمستشفى الجديد هذه الصفة الحربية … لتحلّيت بقدر أدنى من الأمانة، و أطلقت عليه تسمية: مستشفى الجيش الأحمر الصيني … لا غير …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version