بعد أن غصنا أياما نتدفّأ بحطب أعمالنا الرمضانية منذ حلقاتها الأولى، وانتضينا سيوفنا قضاة أخلاق وحماة تعليم عمومي ما عاد عموميا، وأقسمنا ثلاثا على أن معاهدنا “مؤسسات تربوية” هائلة لا نظير لها حتى في أثينا العتيقة … بعد أن مرّت الزوبعة ورمضنّا أسبوعا على رؤوس قنواتنا، ها أن الرشد عاد أخيرا وأصبحنا ننظر بأعيننا ونسمع بآذاننا ونتذوّق ما يُبثّ …
أوّلا من الواجب تحية من أنتجوا شيئا ـ أيّ شيء ـ في زمن لم يعد فيه أحد ينتج … أحيّيهم جميعا بمن فيهم “للاّ” السندريلاّ التي في الظروف العادية لا تستحق أكثر من حاويات مصلحة النظافة ببلدية تونس … ولكن “مِن جدب الرجّالة” كما كان يقول أبي رحمه الله حين يضطرّ لسماع ثرثراتي وأنا صغير … إذن بورك كل الذين عملوا وسعوا لكي يوصلوا لنا إنتاجا قد يصيب وقد يخيب … لا مشكلة … و لا عزاء للمحطات التي تقاعست بتعلاّت شتّى وقدمت برمجة لائثة شائحة مقدّدة لا جديد فيها … هذه المفروض أن تندثر بحكم قانون الانتخاب الطبيعي، أو تؤخذ إلى المسلخ كالأبقار غير الحلوب … فهي تحتلّ الفضاء وتحتكر موجات الإرسال وتستهلك نقودنا، وفي النهاية تحضر بالغياب ويأخذ موظفوها أجورهم مع الجميع بكل قلة حياء …
لن أخوض كثيرا في المحتويات فهذه لها شرّاحها ومبرروها … ولكن ما لفت نظري أنه في غفلة منا جميعا وربما عن غير قصد من هذا البلد القابر للمواهب، هناك جيل من الممثلين العظماء بصدد الولادة عندنا … اي و الله وأكتفي الآن بالتعرض لعمل واحد هو الفلّوجة … من يرى هذا العدد من “التلاميذ” المالئين معهدا ثانويا بمشاكلهم، بحواراتهم المفاجئة، بتعابيرهم الصائبة، بأهمّ شيء يميّز الممثل الجيّد عن الممثل الرديء: لا يشعرونك أنهم يمثلون … يستنتج ذلك … وربما كان هذا من أسباب عاصفة الاحتجاج التي ذكرناها أوّله، فصدق الأداء هو الذي أوصل لنا المعنى، والمعنى أعجبنا أم لم يعجبنا، المهمّ أن الممثل أفهمنا بكلامه وحركاته ويديه وملامح وجهه وتحكّمه في كل هذا … الممثل أفهمنا الفكرة ولم يمرّ بجانبها كما يحصل مثلا في كوارث السينما التونسية …
تندمج إذن مع المشهد وتستحسن أو تستنكر، ولكنك أحيانا تتساءل: ولكن من أين جاء هؤلاء “الجنّ” وهم يمارسون دون تلعثم أو تصنّع، مهنة هي أصلها ليوسف وهبي وعمر خلفة و منى نور الدين وفاتن حمامة ومنى واصف؟ … ما هذه الوقاحة؟ … ولكنك تتراجع قليلا رحمة بهذه الزهور الغضّة وتقول ما أسخى عطاءهم وما أشجع وقفتهم أمام كاميرا لا يعرف بطشها إلا من تعامل معها … الشاب الذي صُدم حين علم بشلل ضحيته بعد حادث المرور، وتلك اللحظات التي عبّر عنها اقتلعت منّا وجعا عميقا وأيضا كلمة برافو … اسمه نسيم بورقيبة وقد تطوّر كثيرا عما كان عليه سابقا في “الفوندو”… “صحيت” يا ولدي، سيكون لك شأن كبير لو تتجنّب فخاخا سقط فيها لامعون قبلك …
نفس الكلام أسوقه عن الممثلة التي قاسمته تلك المشاهد (عفوا ما شديتش اسمها) وزميله في رحلة الضياع (فارس عبد الدايم) و”الأستاذة” سارة غضاب التي لا أفهم خجلها من لقبها الأصلي وتعويضه بلقب عامّ بارد هو “التونسي” وكأن بقية الشعب من إريتريا … على كل، هي ممثلة جيدة وتستحق أن نغفر لها الخطأ الشكلي هذا … وفي الحقيقة فقد تفوّق جميع الممثلون الشبان وحتى الأقل شبابا … محمد مراد طوّر أداءه بدرجة محترمة وهو أقرب الجميع إلى النجومية العربية لو يعرف كيف يتصرف في مسيرته … نضال السعدي صار بعدُ نجما وننتظر منه المزيد شريطة أن يبتعد عن التقديم التلفزيوني فهو مثل انضمام لاعبي الكرة إلى أندية الخليج … مال أكيد ومقبرة أوكد … أما الكبار كمحمد الداهش، ريم الرياحي، محمد علي بن جمعة، حسام الساحلي، صادق حلواس، شاكرة رماح … فكانوا كوادر العمل وبوصلة للناشئين ونعمت البوصلة … ولا أريد قول كلمة عن نعيمة الجاني احتراما لتاريخها …
جيل ما كنا لنراه لو استمررنا في تأليه مومياءات أخرى أكلت الأخضر واليابس وحتى المحجّر… وجوه (أو وجه واحد) تطغى على المشهد التلفزي منذ عشرين ثلاثين سنة بحق أو بغير حق، في أدوارها و غير أدوارها، مفروضة بالقوة والعنف والآن بالبديهة والأقدمية … ينفّرك حضورها أو يزعجك أو يقزّزك … كان عجبك … وكلما انزعجْت منها زادت حضورا، وكلما حضرت زادت غرورا، وكلّما اغترّت زادت رسوخا وتهافتا عليها … يا ربّي ما هذا؟ … عندهم الحق أحيانا جماعة التمثيل حين هرب معظمهم إلى اختصاصات أخرى وسطوا مثلا على مهنة التقديم الإذاعي والتلفزي … فهذه المافيا قطعت عنهم الماء والهواء … تماما كما حصل لهواة الموسيقى عندما هرعوا بالجملة نحو الراب … إذ هو الفن الوحيد الذي لا يجدون فيه بوشناق أمامهم …
تحية أخيرة للمخرجة الشابة سوسن الجمني، الشابة والصامدة أيضا والرصاص يتطاير في اتجاهها من أول يوم … كما أنها هي أيضا وجدت فرصة عمل وإقناع، حين أبعد الدهر عنها بشناقا ثانيا، من المختصين في وراثة الأرض وإرث السماء …