جور نار

هل يهذّب نفسه، مهذّب؟

نشرت

في

لقد أخطأ الممثل مهذب الرميلي خطأ جسيما حين حشر نفسه في قلم لا دراية له به، على ما يظهر … لا أقول السياسة فالسياسة في زمننا “الألفين وحداشي” جعلها بعض نخبنا مهنة شبيهة بالمحلّ العمومي العلني الذي أغلقته مؤخرا بلدية العاصمة … بل قل في التفكير الإنساني الشامل الذي لعقود ميّز جامعتنا التونسية و جعلها منبر تنوير و مكتبة عقل و منطق و منهج.

<strong>عبد القادر المقري<strong>

ربما من سوء حظّ الرميلي أنه ارتاد “الإيزاد” خاصة و الجامعة عامة، في فترة تقحّلت فيها هذه القلعة الخصبة و تأرجحت بين طغيان الفكر اليميني المتطرّف في الثمانينات، و دروشات حفلات النوبة و الحضرة في التسعينات … مرحلتان أفضت كلاهما إلى الأخرى و عرف الاستبداد كيف يجفف خلالهما منابع الجدل المثمر و المطالعة المتسعة و العمل النقابي التقدمي لصالح ميليشيات العمى و العنف … و أحلّ التكفير محل التفكير، و المودودي و قطب مكان هيغل و ماركس و نيتشة، و خطب الشيخ كشك بدلا عن أشعار فؤاد نجم و محمود درويش و مختار اللغماني و الطاهر الهمامي …

لذلك لا غرابة في أن يسقط هذا الممثل لدى أول امتحان جماهيري له في مادة القضية الفلسطينية … قضية طلبتنا بامتياز منذ بدايتها، سواء كانت روافدهم ثوريّة أو محافظة، يسارية أو يوسفية أو حتى زيتونية من عمق الجامع الأعظم … و كتب فيها التونسيون ملاحم أدبية و ميدانية و أيضا تنظيرية لا تحصى … و لم يخلُ اجتماع و لا بيان في آخره من سطر أو أكثر عن فلسطين بكافة محطاتها و مواجهاتها من حريق الأقصى إلى مطار اللد إلى تل الزعتر إلى صبرا و شاتيلا إلى حمام الشاطئ إلى غزة إلى غزة إلى غزة …

و يبدو أن بطل “الحرقة” لم يحضر أية أمسية شعرية بمسرحنا البلدي حيث كان سميح القاسم و محمود درويش و هارون هاشم رشيد و أحمد دحبور على هذه الأرض التي “تؤنس”  يحضنون علمنا الأحمر مع الكوفية الفلسطينية و يتساءلون كيف نشفى من حب تونس فهي “كانت حبيبتي و ستبقى وردة الحب في كتاب الزمان” و يقرّون بأنه “ما من بلد عربي إلا و خرجنا منه مطرودين، وحدها تونس ودّعتنا و قد اختلطت الدموع بالدموع” …

لو حضر الرميلي هناك أو أي مكان آخر و لو قرأ و لو فقرة صغيرة من مدونة الشعر و النثر الفلسطينيين و هي الأضخم و الأفخم عربيا على مدى القرن العشرين … لو قرأ أو سمع أو رأى و لو نزرا من مواقف الفصائل الفلسطينية التي كانت تواجه الاحتلال بالصوت و اليد و الحجر و البندقية و يسقط في مواقعها أسياد لينهض أسياد … لما وجد يوما أن من طموح الفلسطيني أن ينسف معبدا أو يمنع عبادة أو يحتجز مصلّين … حتى عند حريق الأقصى، حتى عند حفريات الهيكل المزعوم، حتى في انتفاضات صلاة الجمعة، لم يُسمع إمام فلسطيني واحد يدعو إلى دمار الشعائر الموسوية أو إتلاف صحف موسى …

لو عرف بعضا من هذا، لعرف أيضا أن المواجهة ليست بين دين و دين … و أن هذا الانحراف كان من صنع العدوّ أساسا في دعاواه، و أن المتطرفين في كلا العقيدتين هم من يحرّضون على هذا، و الغريب أن لا أحد منهم واجه الآخر يوما، خاصة لدى ازدهار هذه الموجة الظلامية في العقود الأربعة الأخيرة … فلا طالبان، و لا داعش، و لا النصرة، و لا كتيبة عقبة ابن نافع، و لا الزرقاوي، و لا البغدادي، و لا بن لادن، و لا الملاّ عمر، سددوا طلقة واحدة إلى حكومات إسرائيل، أو شاركوا في واحدة من آلاف المواجهات التي تحدث معها يوميا طيلة سبعين عاما …

لقد أخطأ مهذب الرميلي … و لكن يخطئ أكثر منه من يروّجون أنه ممثل صغير نكرة لا يساوي شيئا في دنيا المسرح و الدراما … بالعكس، هو أستاذ أجيال و ممثل موهوب و مرهوب … و بالمنطق الفني المجرّد، أثبت أنه خير من يخلف عملاق فن التمثيل العربي الراحل أحمد زكي، شكلا و صدق أداء … لا مبالغة في ذلك، و هناك آراء تقول إنه بالإمكان أن يصبح قامة عالمية لو أراد …

و هذا ما يؤسف أكثر … و هذا ما يجعل مسؤولية فعله أكبر، و خطيئته أفدح …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version