جلـ ... منار

هيكل في ظل عبد الناصر (ج 2)

نشرت

في

اكتساب الثقة موهبة متأصلة عند هيكل، وفن يتقن قواعده، وكانت مواهبه الأخرى كثيرة ومتعددة، فتفوق على ثلاثة كانوا قد سبقوه إلى الاقتراب من كثيرين من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وعرفوهم معرفة وثيقة، إبان سنوات الإعداد لها، وكانوا ثلاثتهم يصادقون عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم (6).

<strong>محمد حماد <strong>

تفوق هيكل على إحسان عبد القدوس صاحب معركة «الأسلحة الفاسدة»، وتفوق على أحمد أبو الفتح (7) بكل معاركه حول قوانين «تعبيد الصحافة»، وتفوق على حلمي سلام صاحب الحملة على «فساد إدارة الجيش».

تفوق على الجميع، لأنه بلا شك كان يملك ما لا يملكونه، تفوق عليهم، لأنه كان مؤهلاً لهذا التفوق، ولأنه كان موهوباً بالفطرة ليتبوأ تلك المكانة.

**

كان هيكل مجرد صحفي بين صحفيين. لا هو أشهرهم و لا أخملهم. و لكنه بالقطع كان من أذكاهم. و قد صادفه حظه، و صادف هو قدره.

و لم يكن أياً من دعاة النظام السابق مؤهلاً لأن يكون داعية النظام الجديد خاصة لدى الرجل الأول في هذا النظام. كانت الساحة مليئة بأسماء تتقدم لتنال رضا النظام الجديد و رجله القوي.

مصطفى أمين حاول، و لكن عبد الناصر كان يشك في نواياه، لأنه كان مسموعاً و مقروءاً في نظام ما قبل الثورة.

كان الذين قاموا بثورة يوليو سنة 1952 قد طلعوا من المجهول، و لم يكن ليقبلوا التعامل مع هؤلاء الذين كانوا نجوماً في عصر ما قبل الثورة. و هكذا سقط واحد مثل التابعي. و تأرجح موقع وموقف مصطفى أمين. و الآخرون جميعاً قصرت مؤهلاتهم عن أن تدفع بهم إلى الموقع الأثير لدى رجل النظام الجديد.

وحده هيكل، دفعته جملة مصادفات إلى حيث يمكنه أن ينفرد بتلك المكانة و ذلك المكان. لم يكن ملوثاً قدر ما كانوا ملوثين. لم يكن منخرطاً قدر ما كانوا منخرطين. لم يكن ذا لون سياسي قدر ما كانت لهم ألوان و انحيازات. و اللون السياسي يجذب كما أنه ينفر.

و كان مؤهلاً أكثر من غيره لتقدير و تفهم و التعبير عن أفكار القادم الجديد. بدا كأنه واحد من القادمين الجدد، عمره قريب جداً إلى أعمارهم. يوم الثورة كان عمره حوالي 29 سنة، و هم أكبر بسنوات معدودة، لا تزيد على الخمس و الست سنوات.

كان معهم من نفس الجيل، من نفس الطبقة، من الشرائح الدنيا للطبقة الوسطى. كانوا تواقين لصناعة مجد الأمة. و لتخليد أسمائهم في التاريخ. و كان تواقاً لصناعة مجده و تخليد اسمه في التاريخ. لم يكن مثلهم ثورياً. و إن كان مثلهم يأمل في عهد جديد يتيح له و لطبقته ما حُرمت منه طويلاً.

**

من حسن حظ جمال عبد الناصر أنه وجد واحداً مثل هيكل بالقرب منه. و من حسن حظه أيضاً أنه وجد مفسراً و معبراً عن سياسته بهذه الروعة التي وجدها في هيكل الكاتب و الصحفي.

كان عبد الناصر فوق قمة الهرم، في أعرق سلطة دولة في العالم، و هناك فوق تلك القمة لا أحد غير العزلة و الوحدة، و لا شيء غير صقيع القمة. و في هذه العزلة، و في تلك الوحدة، و في ذلك الصقيع يصبح واحد مثل هيكل هدية من السماء.

وقد لامس هيكل هذا الصقيع بيديه، و كتب عن ذلك مرة قال: «كنا ليلتها على ظهر باخرة الحرية، في وسط الأدرياتيكي قادمة من يوغوسلافيا، بعد اجتماع بين عبد الناصر و تيتو(8) ، و كانت الثورة في العراق قد قامت يوم14 يوليو سنة 1958، و فى وسط طريق العودة، و نحن بعد في الأدرياتيكي، جاءت الأنباء بحشود الأسطول الأمريكي السادس في البحر الأبيض و بالإنزال الأمريكي على شاطئ لبنان.

و فكر جمال عبد الناصر أن يقطع عودته إلى الإسكندرية، و فكر في وسيلة يطير بها إلى موسكو يتباحث مع القادة السوفييت في التطورات الجديدة، لكي يستطيع تقدير موقفه بجلاء و يقين، قبل أن يعود إلى منطقة الشرق الأوسط، و العواصف المتحفزة للهبوب عليها.

و دعانا إلى مكتبه على ظهر الباخرة الحرية: الدكتور محمود فوزي و أنا، ثم طلب رأينا في فكرته بأن يطير إلى الاتحاد السوفيتي، و أعطانا ربع ساعة، لكي نعود إليه بجواب.

و خرجنا نفكر معاً، ثم عدنا بعد ربع ساعة، و قال الدكتور فوزي للرئيس: «إنك وحدك تستطيع أن تجيب على هذا السؤال بتفاعلك الداخلي مع الحوادث، و باتصالك العميق بالجماهير العربية، هذا سؤال يتولى الجواب عليه «إلهام الزعامة»، و لا يتولى الجواب عليه «حساب المنطق»، قرر بإحساسك ماذا تريد؟، و ما تقرره سوف يكون الصواب»، و أصغى الرئيس جمال عبد الناصر في سكون، ثم كان قراره وحده بالسفر. و كان تعليق هيكل: «أحسست بالوحدة المروعة عند القمة».

أحس هيكل بالصقيع الذي يعانيه من هم فوق القمة. و لعلها لم تكن المرة الأولى التي يلمس تلك البرودة عن قرب، و لكنها بالنسبة لنا تدل على وعيه المبكر بما يعانيه صاحب القرار من وحدة و عزلة، و مسؤولية، و أمانة ناءت بحملها الجبال. و لا شك عندي أن وعي هيكل المبكر بهذه الحالة جعله يرسم لنفسه دوراً إلى جانب الرئيس، دور يكون مفيداً فيه، بأكثر ما يكون مجرد عالة على صاحب القرار

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

* محمد حماد: كاتب و صحفي مصري، مؤلف كتابي “الرئيس و الأستاذ” – “دراما العلاقة بين الكاتب و السلطان‏ و قصة الدستور المصري”، و نائب رئيس تحرير‏ صحيفة العربي السابق‏

(6) صلاح سالم (1920 ـ 1962): ضابط مصري، تخرج في الكلية الحربية سنة 1940 و هو في الثامنة عشرة من عمره. تخرج في كلية أركان الحرب سنة 1948، و شارك مع قوات الفدائيين التي كان يقودها الشهيد أحمد عبد العزيز، و هو الأخ الأصغر لجمال سالم، انضما إلى تنظيم الضباط الأحرار، ثم صارا عضوين بمجلس قيادة الثورة بعيد 23 يوليو سنة 1952، تولى وزارة الاعلام في بداية الثورة، و اشتغل بالصحافة حيث تولى الاشراف على صحيفتي الشعب و الجمهورية، و تولى رئاسة مجلس ادارة دار التحرير للطباعة و النشر، و رأس تحرير جريدة الجمهورية. كان صلاح سالم أول من توفى من أعضاء مجلس قيادة الثورة، حيث توفي في سن صغيرة عن عمر 41 عاما في 18 فيفري 1962 بمرض خبيث، و تصادف موته مع الانتهاء من الأعمال التنفيذية للطريق الذي أطلق اسمه عليه، و أصبح من أشهر شوارع القاهرة.

(7) في كتابه: « لمصر لا لعبد الناصر» ص 72 يذكر الأستاذ هيكل أن أحمد أبو الفتح كان قد تعرف إلى جمال عبد الناصر عن طريق صهره ثروت عكاشة الذي كان عضواً مرموقاً في حركة الضباط الأحرار، و يعترف هيكل بأن: «صوت الأستاذ أحمد أبو الفتح كان من الأصوات المسموعة لدى مجلس الثورة في الفترة الأولى، فقد كان دوره وسط مجموعة الشباب التقدمي الجديد الذي ظهر في حزب الوفد و على اليسار من التيار الرئيسي فيه، دوراً ظاهراً و من هنا كان طبيعياً أن يكون الأستاذ أحمد أبو الفتح حلقة الاتصال بين النظام الثوري الجديد و بين حزب الوفد الذي كان حزب الأغلبية في ذلك الوقت. و مع بداية سنة 1953 بدأت الخلافات تدب في العلاقات بين جمال عبد الناصر و الأستاذ أحمد أبو الفتح لأسباب سياسية و أخرى نفسية و بعضها يعود إلى وفاء الأستاذ أحمد لأخيه محمود».

8) جوزيف بروز تيتو (7 مايو 1892 ـ 4 مايو 1980): رئيس يوغسلافيا في الفترة من 14 جانفي سنة 1953 حتى وفاته في 4 ماي سنة 1980 بعدما حكم يوغوسلافيا لمدة 35 عامًا، و انقسمت الدولة بعد رحيله بحوالي تسع سنوات. بدأت مواقف تيتو من القضايا العربية منذ لقائه مع الرئيس جمال عبد الناصر، و وقفت يوغسلافيا بجانب مصر و أيدتها في قرار التأميم، و ظهر موقفها الداعم لمصر في الأمم المتحدة، و كان تيتو من الداعمين للوحدة العربية بين مصر و سوريا سنة 1958 و إعلان الجمهورية العربية المتحدة. و ساند مصر في حرب الاستنزاف التي أعلنها الرئيس عبد الناصر ضد الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، و قام تيتو بزيارات عديدة إلى مصر، و جرى خلال تلك الزيارات توحيد الجهود ضد الاستعمار و الصهيونية، و حتى بعد رحيل عبد الناصر سنة 1970، ظل تيتو وفيا لخطه الأول و لم يحد عن دعم القضايا العربية العادلة حتى رحل في 4 ماي سنة 1980.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version