شغلت علاقة الأستاذ محمد حسنين هيكل بكلٍ من الرئيسين جمال عبد الناصر ثم أنور السادات، الفصل الأكبر والأبرز و الأكثر إثارة في تجربة «الجورنالجي» الذي أمضى قرابة ربع قرن و هو في موقع يحسده عليه الكثيرون، سواء من منافسيه من «الجورنالجية» أو من مناوئيه من السياسيين، و استطاع أن يحافظ ـ خلال هذه الفترة الطويلة ـ على مسافة و مساحة للاختلاف و التعبير عن رأيه الشخصي، حتى و هو يعبر بقلمه عن النظام، و فيما كان التوافق في الرؤى بين الأستاذ و الزعيم كبيراً، فإن الاختلاف سرعان ما طبع علاقة هيكل بالسادات.
لم تكن العلاقة في ظل عبد الناصر «سمناً على عسل» طول الوقت، بل جرت توترات كبيرة شابت مجرى العلاقة بين الزعيم و الكاتب، أكبر هذه التوترات ـ كما يسميها هيكل ـ كانت في اليوم الذي أصدر فيه عبد الناصر قرارا بتعيينه وزيراً للإعلام دون أن يفاتحه في الأمر … فأرسل له «رسالة اعتذار» عن المنصب، و كانت هذه هي الورقة الوحيدة المكتوبة التي رفعها هيكل إلى الرئيس عبد الناصر .. و استخدم عبد الناصر أنور السادات لكي يبلغ هيكل أن عبد الناصر قرر، و لا مجال لقبول الاعتذار، و أن المسألة ليست مسألة مفاتحة، و إنما هي قرار صدر، و انتهي الأمر … و قبل هيكل المنصب، و هي قصة طويلة ليس هنا مجال لروايتها بتفاصيلها المثيرة و المتشعبة.
كان هناك خط تليفوني مخصص ليكون حلقة وصل أساسية و حافظ على التواصل بين هيكل و الرئيس … عبر هذا الخط جرت مناقشات و استفسارات كثيرة، و كان هيكل ينتهي من المحادثة ليسارع إلى كتابة محضر عنها، و كان الموجودون عند قمة السلطة يعرفون بهذا الخط، الذي يصله مباشرة بالرئيس من دون قواطع أو فواصل تتحكم فيه، و يذكر هيكل أن السادات قال له ذات مرة: «لولا سلك التليفون لكانوا أتعبوك كثيراً».
و يشير هيكل إلى أن هذا التليفون كان معياراً لحالات التوتر في العلاقة، أحيانا لا يرن فيكون معنى ذلك أن عبد الناصر متضايق، و أحيانا لا أتصل به بسبب حالات من الضيق كانت تنشأ نتيجة حوادث معينة حصلت، و يقول: أشهد أن عبد الناصر كان نموذجا للرقة في معالجته لحالات التوتر التي تحدث، و باستمرار لم يكن يخرج ضيقه عن حدود معينة … و أتذكر مرة أنه كان متضايقا جدا من أمور كتبتها، و خلال مناقشة بالتليفون سألته إذا كان يريد أن أحضر إليه فأجابني: لا أريد أن أراك و أنا (متنرفز) نلتقي بعد أن تهدأ الأمور و نتفاهم.
**
كانت علاقة هيكل بالرئيس عبد الناصر واضحة، بسيطة، و غير مركبة، نشأت طبيعية بين زعيم يكرس كل يوم زعامته، و صحفي كفء يؤكد كل يوم مواهبه، بدأت و كل منهما في موقعه الطبيعي، و تطورت يشكل طبيعي، في البداية لم يكن محمد حسنين هيكل هو أقرب الصحفيين إلى عقل و قلب جمال عبد الناصر، فقد كان هناك صحفيون آخرون أقرب، إحسان عبد القدوس كان شديد القرب من عبد الناصر، و كان صديقاً له، وانتهى الأمر بعد اعتقاله، فبعُدت بينهما المسافات، وكان هناك أحمد أبو الفتح (1) الذي كان سبباً في سرعة تحرك الضباط الأحرار للقيام بالثورة عندما أبلغ صهره البكباشى ثروت عكاشة (2) بأن الملك يدبر أمراً ضد الضباط الأحرار و أنه ينوي أن «يتغدى» بهم، قبل أن «يتعشوا» به، و حالت وفدية أحمد أبو الفتح بينه و بين التعبير عن فكر و سياسة قائد الثورة، و انتهى أمره إلى مغادرة البلاد بعد إغلاق جريدة «المصري»، و محاكمة شقيقيه محمود و حسين.
و كان الأستاذ حسين فهمي (3) من المقربين إلى قلب وعقل عبد الناصر طوال السنين الأولى من عمر الثورة، و ظل عبد الناصر يحمل له وداً خاصاً على طول الأيام، و أذكر فهمي و هو يقول لي ونحن في شقته بالقرب من كوبري الجامعة بالجيزة: «هنا كان يرقد جمال عبد الناصر مستريحاً بعد مناقشات بيننا تدوم إلى ما بعد منتصف الليل، فيضطر إلى النوم قليلاً يذهب بعدها إلى مجلس قيادة الثورة».
و لكن حسين فهمي لم يكن منضبطاً، و كان يعيش حياته أقرب إلى حياة الفنانين، و هي صفات لا يستسيغها عبد الناصر، ليس لأنه رجل عسكري فقط و لكن بصفته رجلا منضبطا في حياته الشخصية.
و هنا لابد أن نُذكر بأن موهبة هيكل الأولى هي «الانضباط» حد الصرامة، و هو يصف لنا كامل الشناوي (4) ، فيقول إنه «فنان قَلَبَ نواميس الكون، فإذا النهار نوم، و إذا الليل يقظة، و مغامرات، و حكايات لا أول لها ولا آخر». و كان هيكل يتهمه «بالبوهيمية»، و كان كامل الشناوي يتهم هيكل «بالنظام» أي بالانضباط، و لم يدر أن ما يتهمه به، هو أهم مواهبه التي صنعت ظاهرته فيما بعد.
و نعود إلى الذين كانوا ـ في البداية ـ أسبق من هيكل إلى عبد الناصر، لنجد أن أحداً من هؤلاء ـ و كانوا الأقرب إلى رجل الثورة القوي ـ لم ينجح في اكتساب ثقة عبد الناصر. و نُذكر مرة أخرى بأن «اكتساب الثقة» كان موهبة هيكل الثانية. و هي موهبة لا يباريه فيها أحد حسب رأي إحسان عبد القدوس (5) : «هيكل كان الصحفي الوحيد الذي كسب ثقة والدتي فقربته إليها إلى حد كبير ……………… (يتبع)
* محمد حماد: كاتب و صحفي مصري، مؤلف كتابي “الرئيس و الأستاذ” – “دراما العلاقة بين الكاتب و السلطان و قصة الدستور المصري” و نائب رئيس تحرير صحيفة العربي السابق
(1) أحمد أبو الفتح، رئيس تحرير جريدة «المصري» من سنة 1946 إلى سنة 1954.
(2) الدكتور ثروت عكاشة (1921 ـ 2012): ضابط و سياسي و يعتبر على نطاق واسع أهم و أشهر وزراء الثقافة المصريين. تخرج من الكلية الحربية 1939، و من كلية أركان الحرب 1948، حصل على دبلوم الصحافة كلية الآداب، جامعة فؤاد الأول 1951، و حصل على دكتوراه في الآداب من جامعة “السوربون” بباريس 1960، و عمل ملحقاً عسكرياً بالسفارة المصرية في بون ثم باريس و مدريد (1953 ـ 1956)، ثم سفيراً لمصر في روما 1957 ـ 1958.
عين وزيراً للثقافة و الإرشاد القومي 1958 ـ 1962، و ترأس المجلس الأعلى للفنون و الآداب و العلوم الاجتماعية 1962 و1966ـ 1970. كما ترأس مجلس إدارة البنك الأهلي المصري 1962 ـ 1966، و عاد مرة أخرى إلى التشكيلة الوزارية نائباً لرئيس الوزراء و وزيراً للثقافة 1966 ـ 1967، ثم وزيراً للثقافـة 1967 ـ 1970، حتى عينه الرئيس أنور السادات مساعداً لرئيس الجمهورية للشؤون الثقافية 1970 ـ 1972. من مؤلفاته و ترجماته: معجم المصطلحات الثقافية. الفن الإغريقي. الترجمات للمسرح المصري القديم. مذكرات ثروت عكاشة.
(3) حسين فهمي: الكاتب الصحفي الكبير و نقيب الصحفيين عدة دورات، و كان مقرباً من جمال عبد الناصر في فترة الخمسينات.
(4) كامل الشناوي: الصحفي و الكاتب والشاعر الشهير (1908 ـ 1965)، درس بالأزهر، و لم يلبث به أكثر من خمس سنوات فعمد إلى المطالعة و مجالس الأدباء، و درس الآداب العربية و الأجنبية في عصورها المختلفة. عرف برقة شعره الغنائي، غنى له محمد عبد الوهاب قصيدة “الخطايا” و “أغنية عربية”، وغنت له ام كلثوم قصيدة “على باب مصر”، وغنى له فريد الأطرش قصيدة “عدت يا يوم مولدي ” و “لا و عينيك”، و غنت له نجاة الصغيرة قصيدة “لا تكذبي”، و غنى له عبد الحليم حافظ حبيبها و “انت قلبي”، “.
(5) الكاتب و الروائي إحسان عبد القدوس كانت تربطه علاقة مركّبة بهيكل، جعلته يكتب عنه من دون تسميته في روايته «و غابت الشمس ولم يظهر القمر»، و يروي موسى صبري عن احسان قوله له: «طريقة هيكل هي أن يستولي على الرأس، استولى على رأس والدتي روز اليوسف، ثم استولى على رأس محمد التابعي، ثم استولى على رأس التوأمين مصطفى و علي أمين، ثم على عبد الناصر».