تابعنا على

جلـ ... منار

هيكل والسادات وكيسنجر …

نشرت

في

حضور هنري كيسنجر فى واجهة الإعلام الأمريكي لافت بذاته، كل ما يكتب عنه يثير اهتماماً وكل ما يصرح به يأخذ مداه فى الذيوع.

عبد الله السنّاوي
<strong>عبد الله السنّاوى<strong>

اكتسب سمعة استثنائية ما بين عامي (1969) و(1977) على عهدى الرئيسين ريتشارد نيكسون و جيرالد فورد مستشاراً للأمن القومي ثم وزيراً للخارجية بأثر نجاحه فى إنهاء حرب فيتنام وصناعة الوفاق الدولي والتقارب مع الصين..

ثم الدور الجوهري الذي لعبه فيما كانت يطلق عليها “أزمة الشرق الأوسط”.

بأية مراجعة عند الجذور لا يمكن تجاهل ذلك الدور فى إجهاض النتائج السياسية لحرب أكتوبر، ولا الأخطاء الفادحة التى ارتكبها الرئيس الأسبق أنور السادات فى تسهيل هذه المهمة.

المراجعة ضرورية حتى لا نتصور بالوهم أن السادات سابق عصره و كيسنجر رجل سلام.

فى كتابه “الأزمة: تشريح لأزمتين كبيرتين فى السياسة الخارجية” كتب كيسنجر نصا فى صفحة (110): فى الساعة العاشرة والنصف بتوقيت واشنطن يوم (7) أكتوبر بعد نشوب العمليات العسكرية فى سيناء بساعات تلقيت اتصالا مستغربا من الرئيس السادات على شكل رسالة موقعة من مستشاره للأمن القومي حافظ إسماعيل،

وصلتني خلال قناة المخابرات الأمريكية، الرسالة تخطرنا بموقف مصر السياسي فى الحرب، وبصرف النظر عن الإشارات التى وردت فيها عن ضرورة العودة إلى خطوط (1967)، فقد كان اعتقادنا بتحليل الرسالة أنها مجرد افتتاحية، وقد كان المهم فى نظرنا هو مخاطر الاتصال بنا على هذا النحو فى هذه اللحظة، ذلك أن معنى هذه المخاطر هو ما لم يقل:

1- إن الاتصال بنا معناه أن الرئيس السادات قرر أن يعتمد علينا.

2ــ و ان معناه أنه على استعداد بنواياه وسياساته أن يبتعد عن الاتحاد السوفييتي.

3ــ و انه قرر أن يهجر السلاح بما فى ذلك سوريا.

وكان تحليل عبارة الرسالة ــ على ما يضيف هنرى كيسنجر ــ يوحى لنا بوضوح أن السادات قرر عدم مواصلة الحرب بعد المدى الذى وصل إليه، ولم تكن هذه الاستنتاجات مجرد ظن، وإنما بدت نتائج حتمية من تصرفه فى هذه اللحظة على هذا النحو.

وكانت الفقرة الخطيرة فى رسالة السادات: “إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات، أو توسيع مدى المواجهة”.

وعلى الفور اتصل كيسنجر بـ”وليم كولبي” مدير المخابرات الأمريكية فى ذلك الوقت، الذى كان قد اطلع على الرسالة الخطيرة، وتساءل مستغرباً : “لماذا لم ينتظرو ا؟!”.

ثم يروى كيسنجر فى صفحتي (115)، (116) من كتاب “الأزمة” أنه نقل لسفير إسرائيل فى واشنطن “سيمحا دينتز” نص الرسالة التى يتعهد فيها الرئيس السادات بعدم تعميق مدى الاشتباكات، أو توسيع مدى المواجهة، وكانت تلك خدمة جليلة لإسرائيل أوقات حرب عصيبة].

كان ذلك ردا مفحماً بالوثائق على ما ذكره الرئيس الأسبق حسني مبارك فى أبريل (2005) أثناء حوار تلفزيوني طويل، من نفى قاطع أن تكون هناك قناة اتصال خلفية خاصة مع الأمريكان من خط تليفوني ربط بين السادات وبين مكان ما فى الولايات المتحدة.

“أكيد الذى يكتب هذا الكلام هو شخص ضد الرئيس السادات ــ قاصداً الأستاذ محمد حسنين هيكل ــ ثم إنه لو كان للرئيس السادات مثل هذه القناة السرية لتم الكشف عنها، فالأمريكان لا توجد لديهم سرية، بل كانوا قالوا وتحدثوا عن هذه الاتصالات مائة مرة، وخرجت الوثائق التى تتضمن الاتصالات عبر هذه القناة، ففى أمريكا لا يوجد شيء يتم فى الخفاء”.

كان ذلك النص، الذى ترجمه “هيكل” بنفسه، حاسماً فى السجال الذى دار أيامها على صفحات جريدة “العربي”.

وقد استعنت بتلك الترجمة فى الرد على مبارك.

وفق وثيقة أخرى لـكيسنجر ــ كشف عنها هيكل فى حديث متلفز ــ أن وزير الخارجية الأمريكي قال لمجموعة العمل الخاصة به: “أرى أن السادات وقد عبر قناة السويس لن يفعل أكثر من الاكتفاء بالجلوس هناك.. وأنا لا أعتقد أنه سوف يقوم بتعميق مدى عملياته فى سيناء”».

لم يكن كيسنجر يخمن، أو يرجح، ولا الوحي هبط عليه فى مكتبه وسط مجموعة عمله، بل كان على يقين كامل، فلقد أخطره السادات بنواياه والعمليات العسكرية ما زالت جارية.

لم ينشأ ذلك الاتصال عفو الخاطر، ولا بتقدير سياسي مفاجئ أخطأ التصرف.

الحقيقة أن السادات كان متشوقا لفتح قناة اتصال مع “ساحر الخارجية الأمريكية الجديد” دون أن يجد طريقا مأمونا إليه فيما كان كيسنجر نفسه شغوفاً بلقاء هيكل بتأثير ما قرأ له وما سمع من أن لهما نفس طريقة التفكير.

ضايقت السادات الطريقة المستقلة التى تصرف بها هيكل دون أن يراجعه بالاعتذار للمستشار الألماني “فيلى براندت عن قبول اقتراح للقاء كيسنجر بعيدا عن الأنظار.

كان رده على المستشار الألماني: “هذا ليس وقته”.

بأثر ضيقه منح السادات فى الأيام الأخيرة من عام (1972) الضوء الأخضر لرئيس تحرير الأخبار “موسى صبري” لكتابة مجموعة مقالات أرادت أن تقول: «”القلم الوحيد”، كما أطلق عليه، أوشك على الأفول، وأن العهد الجديد له رجال جدد ليس بينهم ذلك القلم الذى “يضفى على نفسه أهمية ليست له”.بدا رد هيكل، كما لو أنه على السادات لا على موسى صبري” الذى لم يشر إليه.

كان عنوان المقال: “أنا وكيسنجر.. مجموعة أوراق”

وقد أسند كل حرف فيه إلى وثائق ومراسلات وشهود قرب خروجه من “الأهرام” تأكد لديه أن أسلوب التفاوض، الذى يتبعه السادات سوف يؤدى إلى تنازلات فادحة لا لزوم لها، فكتب بطريقة شبه مباشرة عن اعتراضاته بتاريخ (18) يناير (1974) مقالا تحت عنوان: “أسلوب التفاوض الإسرائيلي” جاء فيه: “من القواعد العلمية للتفاوض ألا يتعرض للتفاصيل، وليس القرار النهائي، شخص يملك سلطة واسعة، ذلك لأن هذا الشخص سوف يكون دائما مطالباً بتنازلات يعرف الذين يفاوضونه أن أمرها على الأرجح بيده”.

فى الفترة ما بين (5) أكتوبر (1973) حتى أول فبراير (1974)، قبل حرب أكتوبر بيوم إلى قبل خروجه من “الأهرام” بيوم، كتب مجموعة مقالات أسست لقطيعة نهائية ضمها فيما بعد كتاب: “عند مفترق الطرق”.

أراد أن يقول: “إننى أختلف”، وهذه أسبابى التى أتحمل مسؤوليتها ونتائجها.

أسباب الاختلاف مع “السادات” لم تكن شخصية ولا عابرة، فقد عكست ضمن ما عكست خيارات متناقضة فى استراتيجية الإدارة السياسية لحرب أكتوبر.

أومأ إلى ما يجرى خلف الأبواب الموصدة: “إن الفارق بين الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي والفكر الاستراتيجي العربي هو أن الإسرائيليين يلعبون الشطرنج، فى حين أن العرب يلعبون الطاولة”.

لم يخف السادات ضيقه بالرسالة المضمرة، معتقدا أنه المقصود شخصياً بلعب الطاولة معتمداً على حظ الندر، لا الشطرنج حيث التفكير فى حركة بيادقه.

قبل أن يصل كيسنجر القاهرة لأول مرة طالع ذلك المقال.كانت المفارقة أنه أبدى إعجاباً شديداً بمنطقه عندما قابل هيكل.

بعد نحو ثمانية أشهر من مغادرته “الأهرام” اتصل به السادات طلباً للتواصل من جديد.

شارك بصورة أو أخرى بالمفاوضات مع هنري كيسنجر فى المحاولة الأولى لفك الارتباط الثانى، وقد جرت بأسوان فى شهر مارس من عام (1975).

“لم تنجح هذه المحاولة، ولم أكن شديد الأسى على فشلها، بل إننى أحب أن أتصور أنه كان لى نصيب ــ ولو ضئيل ــ فى إفشالها”.

لم يخف هيكل إعجابه بقدرات كيسنجر، لكنه حذر طويلاً وكثيراً فيما يشبه الإلحاح من الوقوع فى أفخاخه وإضاعة ثمار العمل العسكري والتضحيات التى بذلت فى ميادين القتال.

عارض خيارات السادات وأسس أسبابه على وثائق مؤكدة سندت الحركة الوطنية المعارضة لاتفاقيتي “كامب ديفيد».

لم يكن السادات داهية ولا سابقاً لعصره.

بتعبير هيكل: “لا بد أن نحفظ للأوصاف حرمتها”.

ولم يحتج كيسنجر لأى مجهود كبير لتأسيس ما تسمى حتى الآن بـ”عملية السلام”، التى أوصلتنا إلى “سلام القوة” والتطبيع المجاني ونزع مناعة العالم العربي.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

«مسرحة بلا مسرح”.. ومفاوضات بلا أفق!”

نشرت

في

عبد الله السنّاوي:

مرة بعد أخرى تعود مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة إلى نقطة الصفر، كأننا أمام عرض ارتجالي بلا نص معروف، أو أفق منظور.

عبد الله السنّاوي

بتعبير الدبلوماسي المصرى العتيد الدكتور محمود فوزى: “أرى أمامي مسرحة بلا مسرح، أصوات وأضواء وحركة ممثلين دون أن يكون هناك نص يضبط الحركة، أو بوصلة تقول لنا ماذا يحدث؟.. ثم ماذا بعد؟”.

كان ذلك توصيفا ساخرا من موقعه نائبا لرئيس الجمهورية عندما بدأت ما أطلق عليها “عملية السلام” إثر حرب أكتوبر (1973) – حسبما روى لي الأستاذ محمد حسنين هيكل.

الأجواء تتكرر على نحو هزلي هذه المرة.

الفارق بين الحالتين هو نفسه الفارق بين “هنرى كيسنجر” و”أنطونى بلينكن”.

كلما بدا أن هناك تقدما بالمفاوضات يضع حدا للمأساة الإنسانية المروعة في غزة تتبدى أسباب وذرائع جديدة لإفشالها جولة بعد أخرى.

في كل مرة تنسب الإدارة الأمريكية مسؤولية الإفشال إلى الجانب الفلسطيني وتعفي رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” من أية مسؤولية رغم مواقفه المعلنة، التي تناهض التوصل إلى أي اتفاق.

حسب “بلينكن” هناك خطة جديدة لإنهاء الحرب بصفقة تبادل للأسرى والرهائن تحظى (90%) من نصوصها بالتوافق عليها!

قبل أن يردف بأن هناك نقطتين جوهريتين معلقتين: محور فيلادليفيا والأسرى المشمولين بالصفقة، حتى يكون بوسع إسرائيل ترتيب أولوية الإفراج عن رهائنها وأسراها والاعتراض بنفس الوقت على أي اسم فى قوائم الإفراج الفلسطينية.

على مدى جولات تفاوض متعاقبة لم يتطرق نتنياهو إلى محور فيلادليفيا بطلب السيطرة العسكرية الإسرائيلية عليه بذريعة منع تهريب السلاح من سيناء إلى غزة.

لماذا الآن؟

هذا سؤال ضروري.

إفشال المفاوضات داع أول.

غياب الردع داع ثان.

ما يحدث تجاوز بحق مصر وأمنها القومي لا يمكن تقبله، أو الصمت عليه.

إنه خرق صريح ومباشر لاتفاقية “كامب ديفيد” وبروتوكولاتها الأمنية، التي تمنع التمركز العسكري في ذلك المحور دون ترتيبات مسبقة، أو موافقة عليه من الطرف الآخر.

بقدر مماثل بدا الاحتلال الإسرائيلي لمعبر رفح البري من الناحية الفلسطينية خرقا لاتفاقيات وتفاهمات د”.

المعنى السياسي المباشر أن مصر لم تعد وسيطا في المفاوضات.

إنها طرف مباشر وأمنها القومي على المحك.

في مؤتمرين صحفيين متتاليين، أولهما بالعبرية والآخر بالإنجليزية، بدا “نتنياهو” مأزوما بفداحة إثر مقتل (6) من الأسرى الإسرائيليين.

لاحقته اتهامات واسعة حملته مسؤولية مقتلهم وجرت تظاهرات غاضبة في تل أبيب دعت إلى عقد صفقة تبادل للأسرى والرهائن دون إبطاء.

حاول دون جدوى إعادة صياغة أهدافه من الحرب، تقويض قدرات “حماس” أولا، وعودة الرهائن ثانيا، وألا تعود غزة مرة أخرى مصدر تهديد للأمن الإسرائيلي ثالثا.

تخلى واقعيا عن هدف إنهاء “حماس” بعدما ثبت استحالته.

قلص وعوده بإرجاع جميع الرهائن إلى بيوتهم بالضغط العسكري وحده.. الأمن له الأولوية حتى لو عادوا جميعهم في توابيت.

ولمح مجددا إلى إعادة احتلال غزة، دون أن يقولها مباشرة خشية رد الفعل الدولي.

لم يجد أمامه للدفاع عن نفسه غير اصطناع تناقض بين عودة الرهائن والأمن الإسرائيلي، والتحرش المتكرر بمصر!

تجاوز كل حد واعتبار، وهو ما يستحق الرد عليه بالأفعال، لا بالأقوال وحدها.

أقل رد ممكن: تعليق اتفاقية “كامب ديفيد” على ما لوحت مصر سابقا.

بقوة الحقائق لا تحتمل إسرائيل ذلك، إذ ينظر لهذه الاتفاقية كأهم حدث في تاريخ الدولة العبرية بعد تأسيسها، كما قالت وقتها صحيفة “الجيروزاليم بوست” الإسرائيلية.

ولا تحتمل مصر التجاوز بالإهانة والاستخفاف دون ردع مناسب.

بكل حساب جيواستراتيجي فإن الإدارة الأمريكية ليست بوارد أن تسمح بانهيار جوهري في استراتيجيتها بالشرق الأوسط.

لسنا فى موقف ضعف رغم كل الأزمات الداخلية والإقليمية.. ولا إسرائيل المنهكة عسكريا والمأزومة داخليا في مركز قوة.

لا تقدر إسرائيل على حرب إقليمية إلا إذا حصلت على دعم عسكري واستراتيجي كامل من الولايات المتحدة.

ولا تحتمل حربا دينية مفتوحة إذا أفضت اقتحامات المسجد الأقصى المتكررة من وزراء فى حكومة نتنياهو إلى النيل من سلامته.

هو نفسه كشف منذ شهرين أنه سيعارض أي اتفاق.

كان ذلك قبل طرح ذريعة “محور فيلادليفيا.

حسب مسودة الاتفاق المقترحة تبدت أفكار أمريكية غير مقنعة وغير متماسكة للالتفاف على تلك الذريعة، كالتفرقة بين الأجزاء المكتظة وغير المكتظة بالسكان في ذلك المحور، أو فكرة إنشاء قوات دولية لا تشارك فيها الولايات المتحدة!!

في اللحظة الحالية تبدو الإدارة الأمريكية لأسباب انتخابية أكثر حماسا عن أية مرة سابقة للتوصل إلى اتفاق، لكنها لنفس الأسباب تبدو أضعف من أن تمارس ضغوطا حقيقية على إسرائيل للتوصل لصفقة.

تدرك أن نتنياهو»اول شراء وقت حتى نوفمبر المقبل، أملا في صعود دونالد ترامب حليفه التقليدي للبيت الأبيض، لكنها لا تفعل شيئا غير الإلحاح الدعائي على أن الاتفاق وشيك.

الحقائق تعلن عن نفسها والكلام التفاوضي يدور بنفس الدائرة، كأنه مقصود أن يقال إن هناك مفاوضات وهناك أمل في وقف الحرب وعدم تمددها إلى حرب إقليمية لا تقتضيها المصالح الأمريكية.

لا “نتنياهو” مستعد للمضي في أية تسوية، إذ إنها تعني مباشرة خسارة منصبه، ولا المقاومة الفلسطينية مستعدة بنفس الوقت أن تخسر كل شيء، أو أن تضفي شرعية على احتلال غزة مجددا، أو أن يعود نتنياهو لمواصلة حرب الإبادة والتجويع بعد أن تكون قد تخلت عن أقوى أوراقها، ورقة الأسرى والرهائن.

ما يحدث بالضبط انفلات قوة تطلب إبادة شعب بأسره في غزة والضفة الغربية معا، تتجاوز القانون الدولي، تدمر البنى التحتية لجعل الحياة مستحيلة والتهجير القسري ممكنا.

التصعيد عنوان رئيسي لا يمكن تجاهل تبعاته رغم أجواء المسرحة في مفاوضات بلا أفق.

ـ عن “الشروق” ـ المصرية ـ

أكمل القراءة

جلـ ... منار

“الملاك يهبط في بابل”

نشرت

في

وفاء سلطان:

ليس كل كتاب أقرأه ويعجبني معناه أنني اؤمن قطعا بكل ماجاء فيه.

لكنني حتما أستفيد من كل فكرة أقرؤها، لأنها تساهم في توسيع مداركي اتفقت معها أم لم أتفق.

وفاء سلطان

انتهيت لتوي من قراءة كتاب أهدتني إياه ابنتي بالتبني الشابة الجميلة Zara Otaifah

الكتاب بعنوان:

The Three Waves of Volunteers

And The New Earth!

(الدفعات الثلاث من المتطوعين والعالم الجديد)

……..

الكاتبة فيلسوفة أمريكية مختصة في علم التنويم المغناطيسي.

على مدى عدة عقود قامت بتنويم الكثير من مرضاها،

واستطاعت، بناء على قولها، أن تقرأ اللاوعي عندهم وتتعرف على حيوات سابقة عاشوها،

وبالتالي وصلت إلى قناعاتها المذكورة في الكتاب،

والتي لست بصدد شرحها، ولا يهمني أن تؤمن بها أم لا. حتى لو كان الكتاب محض خيال،

ما أعجبني فيه هو وضوح الفكرة وجمالها الإنساني.

إذ لا يوجد عبارة واحدة فيه تحتاج إلى رجل دين (مشعوذ) كي يفسرها ويحاول أن يغطي قبحها بما هو أقبح منها!

هذا من جهة ومن جهة ثانية، لا يمكن لعبارة واحدة أن تسيء إلى أي جزء من هذا الكون، بل على العكس

تتدفق نهرا من المشاعر الطيبة في نفس القارىء

وترتقي بروحه فوق قبائح المعتقدات سواء بالوعي أو باللاوعي عنده!

……..

كل الكتب التي تحكي عن هكذا تجارب تشرح أننا نأتي إلى الحياة لنتعلم درسا، نموت ونعود إليها لكي ندفع

ثمن أخطائنا، وبالتالي لنستمر في التعلم واكتساب الحكمة، حتى نصبح مع الزمن مجرد أرواح نقيّة طاهرة تسبح في عوالم أرقى من عالمنا الأرضي!

هذا الكتاب لم يشذّ عن هذه القاعدة.

الفكرة الجديدة فيه: أن هناك أرواحا نقية لم يسبق أن أتت إلى الأرض لتخطيء وتتعلم.

هذه الأرواح تتطوع بين الحين والآخر لتأتي إلى الأرض من عوالم أخرى، كي تساهم بطاقتها الجميلة في التخفيف من حدة كوارثها.

وجودها على الأرض يحملها عبئا ثقيلا في بعض الأحيان

تعجز عن حمله فتقرر العودة.

……..

وهذا، وفقا لرأي الكاتبة، يشرح الكثير من حالات الانتحار

ويشرح أيضا وجود حالات لأشخاص لا يستطيعون إطلاقا أن يتكيفوا مع جنون البشر.

ويعزز صحّة المثل الشعبي: لو خليت خربت

طبعا، علميّا لست متأكدة من استنتاجات الكاتبة،

ولا اؤمن بحرفيّتها.

لكن لا أستطيع أن أنكر الدور الذي لعبته في تعزيز قناعاتي وسلوكياتي،

والتي ملخصها أن عليّ أن أتعامل مع كل شخص ألتقي به كروح كونية متحررة من أي خلفية دينية أو ما شابه.

وأن أية محاولة لأميّز نفسي عن الآخر دينيا، فكريا، ماديا، علميّا أو لأي اعتبار آخر، هي محاولة عنصرية تسبب اضطراب الروح وبالتالي هزمها

……..

لقد استعرت تعابير (مضطربة ومنهزمة) من كتابين،

إحداهما للعالمة الروحانية الأمريكية Salvia Brown

التي تسمي هكذا أرواح

Troubled Souls

في كتابها On The Other Side

والآخر للمفكر الأمريكي Don Baker

الذي يسميها الأرواح المنهزمة defeated Souls في كتابه

What Happy People know

……..

نعم عندما تتخندق ضد الآخر تضطرب روحك وتنهزم،

وكذلك تساهم أيضا في اضطراب روح الآخر وهزيمتها.

من هذا المنطلق بت أرفض وأكره المعتقدات، التي تخلق عالما مهزوما ومضطربا حتى النخاع

أكمل القراءة

جلـ ... منار

مع اقتراب الذكرى 20 لرحيله… ياسر عرفات في جنين

نشرت

في

صبحي حديدي:

مادة ياسر عرفات (1929ــ2004) في غالبية الموسوعات الغربية التي تؤرّخ لـ”النزاع العربي ــ الإسرائيلي” تشدد على دوره في “عملية السلام” من مؤتمر مدريد، ومفاوضات أوسلو واتفاقياتها، وصولاً إلى كامب دافيد والتفاهمات المختلفة مع رؤساء حكومات إسرائيلية أمثال إسحق رابين وبنيامين نتنياهو وإيهود باراك؛ أكثر من تركيزها على مواقعه القيادية، سواء داخل حركة “فتح” أو منظمة التحرير الفلسطينية أو السلطة الوطنية في رام الله. وهذا تفصيل مفهوم الدوافع بالطبع، لا تخفى عنه مفارقات التاريخ بين حين وآخر، أو عموماً في واقع الأمر.

صبحي حديدي

على غرار المفارقة التالية: مع اقتراب الذكرى الـ20 لرحيل أبو عمّار، تشهد اليوم محافظات جنين وطولكرم وطوباس، والضفة الغربية والقدس إجمالاً، حروب اجتياح إسرائيلية لا تضرب عرض الحائط بقسط كبير من بنود اتفاقيات “عملية السلام” على امتداد مراحلها، فحسب؛ بل تحيلها، فعلياً، ومعها العملية بأسرها، إلى حبر باهت على ورق بالٍ. الأخبار، حتى الساعة، تشير إلى استشهاد أعداد إضافية من الفلسطينيين، بما يرفع عدد الشهداء في الضفة الغربية إلى 667 منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

وإلى جانب حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، وامتدادها على أكثر من مستوى واحد إلى الضفة الغربية والقدس المحتلة، فإنّ الحال الرسمية للسلطة الفلسطينية عموماً، ورئيسها محمود عباس خصوصاً، تحيل بدورها إلى شخص عرفات، وإلى مفارقة قائد قال لا كبيرة، حاسمة ومبدئية ومشرّفة في كامب دافيد، صيف 2000، أمام الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون ورئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود باراك؛ إزاء محمود عباس، القابع في أروقة “المقاطعة” أو الخطيب أمام البرلمان التركي، أو طالب التوسط من ولي العهد السعودي.

وهذه حال تعيد إلى بُعد خاصّ، خلاصته أنّ عرفات لم يكن أقرب إلى تجسيد مشروعيات فلسطينية وطنية شتى، سياسية وتاريخية ونضالية وحقوقية وقانونية وأخلاقية، فحسب؛ بل لاح مراراً أنه التمثيل الرمزي الأخير، عملياً، لتراث في الكفاح المناهض للاستعمار والإمبريالية بدأ بعد الحرب العالمية الثانية على امتداد آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وعُرف باسم “حركة التحرّر الوطني”. ولعلّ من المتفق عليه أنّ ذلك الكفاح اتخذ العديد من الأشكال والأساليب، وسار وفق خطوط عقائدية متباينة، وبلغ ذروته في الستينات والسبعينات، قبل أن يشهد محاقاً سريعاً حين أخذت الحرب الباردة تضع أوزارها، وانهار “المعسكر الاشتراكي” وتداعى نظام القطبين ليفسح المجال أمام هيمنة أمريكية ـ إمبريالية شبه مطلقة.

ومن الخير، والإنصاف المحض، ألاّ ينسى أحد ــ ويتذكّر الفلسطينيون خصوصاً ــ أنّ عرفات انتسب إلى تراث كفاحي تعدّدي مدهش، ضمّ أسماء أخرى شغلت نضالاتها النصف الثاني من القرن العشرين، واحتلّت مواقع أيقونية خالدة في ذاكرة الشعوب: ستيف بيكو ونلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، أميلكار كابرال في غربي إفريقيا، فرانز فانون في المارتينيك والجزائر، هو شي منه في فييتنام، جمال عبد الناصر في مصر والوطن العربي، كوامي نكروماه في غانا، أحمد سيكوتوري في غينيا، شي غيفارا في كوبا وأمريكا اللاتينية…

وممّا يُسجْل فضيلةً خاصة لصالح عرفات أنّ حركة التحرّر التي قادها لم تكن شبيهة أبداً بسواها: لم تكن القضية بعدُ على الخريطة، فضلاً عن أنّ “الشعب الفلسطيني” ذاته لم يكن موجوداً في عُرف قوى كبرى عديدة؛ وكانت الحركة في المنفى أساساً، ضمن بحر من الأنظمة الاستبدادية، التابعة أو المفرّطة في الحقّ الفلسطيني. خصمها الإسرائيلي، في المقابل، كان ويظلّ مخفراً متقدّماً للإمبريالية عموماً، وللولايات المتحدة خصوصاً: قوىّ حصين منيع نووي، مدلّل في الغرب بأسره، مرفوع فوق القانون الدولي، مستثنى من شرعة الأمم. وأخيراً، ولعله الاعتبار الأهمّ، أنّ حركة التحرّر الوطني الفلسطينية كانت في الآن ذاته نقيض حركة عقائدية واسعة النفوذ والتأثير هي الصهيونية، تزعم أنها “حركة تحرير” يهود العالم، وتتسلّح حتى النواجذ بعقدة الذنب التي حملها الغرب بعد أوشفيتز والمحرقة، وتحتكر عقدة الضحيّة الكونية الفريدة في عذاباتها!

في سنة 1991 نشر جون والاش وجانيت والاش كتاباً ضخماً بالإنكليزية تحت عنوان “عرفات: في أعين الناظر” وقع في أكثر من 540 صفحة، وكتب شمعون بيريس مقدّمة إحدى طبعاته؛ وانطوت فصوله على عناوين مثيرة مثل: “إماطة اللثام عن عرفات” “اللغز في الأحجية” “الجدار المقدّس” “أخوة وأعداء” “أيلول أسود/أيلول أبيض” “أقنية سرّية” “محرّمات كيسنجر” “من أوسلو إلى الخليل: مصافحات الأيدي وغصّات القلوب”…

في السطور الأولى، حيث جرت العادة أن يضع المؤلّف تصديراً خاصاً أو إهداءً، يكتب جون وجانيت والاش التالي: “القرد في عين أمّه غزال… مَثَل عربي اقتبسه مناصر لمنظمة التحرير، على سبيل شرح الفارق في صورة عرفات عند الغرب وعند الفلسطينيين”! وهنا فقرة أولى من تصدير الناشر على طيّة الطبعة المجلدة من الكتاب: “من مصافحة 1993 التاريخية مع إسحق رابين إلى التوتّر الراهن مع بنيامين نتنياهو، استأثر ياسر عرفات بمفاتيح السلام في الشرق الأوسط. ولقد حدث مراراً وتكراراً أن أُعلنت وفاته السياسية، ولكن الزعيم الفلسطيني كان ينهض ثانية مثل العنقاء لكي يتجاوز المعارضة. وبعد ستة أعوام من تحالفه مع صدّام حسين في حرب الخليج، يهلل له شعبه ويرى فيه صورة البطل، ويعتبر الكثيرون أنه صانع سلام. ومن خلال سلسلة اتفاقيات مرحلية انتقل من صورة المنبوذ إلى الرئيس والزعيم البرلماني للحكومة الفلسطينية. وجهوده جلبت له جائزة نوبل للسلام”.

وللمرء، غير المتغافل عامداً، أن يلاحظ هذا البناء الخلفيّ للصورة السلبية، أو لتضخيم الاحتمالات السلبية في معطيات محددة من الصورة:

ــ إذا كان عرفات هو الذي يستأثر بمفاتيح السلام في الشرق الأوسط، فإنه منطقياً واستطراداً صانع العراقيل والعقبات في وجهه، أو حتى كاره، السلام الذي لم يتحقق حتى الآن.
ـ وإذا صحّ أنّ وفاته السياسية أُعلنت مراراً وتكراراً، فإنه لم يكن يعود كالعنقاء لكي يتجاوز المصاعب والأزمات والمآزق، بل لكي يتجاوز… المعارضة! إنه إذن، منطقياً واستطراداً، رجل لاديمقراطي ما دامت روحه السياسية لا تُردّ إليه إلا لكي “يتجاوز المعارضة”!
ـ لقد تحالف مع صدّام. هل فعل، حقاً؟ وهل كان موقفه السياسي يندرج في صيغة “التحالف” أياً كانت حدود المصطلح السياسية القصوى؟
ـ ومع ذلك فإنّ شعبه يهلل له ويعتبره بطلاً. الترجمة الأخرى هي أنّ ذلك الشعب على شاكلة قائده: متحالف مع صدّام حسين، بل ويرى عنصر البطولة في ذلك التحالف!
ـ انتقل من صورة المنبوذ Pariah إلى صورة الرئيس، ليس لأنه استحقّ ذلك في نظر شعبه وبعد انتخابات ديمقراطية، بل بسبب “اتفاقيات مرحلية”! وهو ليس الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وقائد حركة فتح بل “زعيم برلماني” ليس أكثر!
ــ وأخيراً، ما الذي جلب له جائزة نوبل للسلام؟ “جهوده” وليس أفعاله وأقواله في سبيل السلام، وليست نضالاته وتضحياته التي جعلت ذلك السلام ممكناً وتلك الجائزة تحصيل حاصل، خصوصاً أنها مُنحت مُثالثة مع رابين وبيريس… الأمر الذي لا يشير إليه الناشر!

هذا محض أنموذج على تشويه صورة عرفات، وأمّا التاريخ فإنه لا يكفّ عن صناعة حضور عرفات في جنين وطولكرم وطوباس، كما في غزّة المدينة ودير البلح وخان يونس؛ أو حيثما يتعالى شعبه عن روائح جثة هامدة كانت تُسمى “عملية السلام”!

ـ عن “القدس العربي” ـ

أكمل القراءة

صن نار