دُمّـنار

وداعا زهيرة … لكن سمفونية جيلك لن تموت

نشرت

في

بعد نعمة ها هي زهيرة تودعنا والفن في سكون و انزواء و تبرؤ مما يسمع و يرى …غادرتنا روحها و هي تسترق الخطى نحو الراحة الأبدية غير عابئة بالصخب و بسطوة فن العضلات المفتولة و العبارات المسلوخة. و دون السقوط في المقارنات غير المجدية و من منطلق أن الجمال جمال و أن القبح قبح أرى أن من حق الأجيال الناشئة حديثا أن تعرف شيئا آخر غير الذي يفرض عليها اليوم .

<strong>محمد الواد<strong>

أجيال تبدو لنا و كأنها منساقة خانعة راضية بما كتب لها من مشاعر و أحاسيس خارجة من فرن الركاكة و الابتذال…لكن الحقيقة هي غير ذلك، إذ ما أن يضطر أحدهم للتعبير عن نبل الشعور حتى يسارع إلى الاستلهام من شاعر حقيقي أو من مغن مبدع لأن المتاح أمامه غير قادر على إسعافه … هو ليس الحنين إلى الماضي بل الحنين إلى الجميل المعبر و لا غرابة أن نعاين هدا الاستثمار الكاسح لأغاني أم كلثوم و عبدالحليم و نجاة الصغيرة و غيرهم ليعبروا بدلا عنهم عن كوامن العشق و الهيام و دغدغة مشاعر الحبيب …

و حين أعود إلى الفنانة الراحلة زهيرة سالم أتذكر أن هذه السيدة كانت بنت بيئة يتنافس فيها المتنافسون من أجل إبراز أجمل ما فيهم في تصالح هادئ مع ذواتهم و مع مجتمعهم….فنانون يستلهمون أعمالهم من بديع ما قيل في الحب و الوطن و مسقط الرأس و من مباهج الحياة ….غنوا عن الصبح و الليل و الشمس و الوادي و عن باجة و صفاقس و منزل تميم و سوسة و جمال و المهدية و الكاف و بني خلاد …غنوا عن الفلاح و البستاني و عن العنب و الزيتون و البرتقال و البنفسج و الياسمين و غنوا عن تونس الأم في خشوع المتعبدين.

كنت حين تلحظ نجاحا شعبيا لأغنية أدتها نعمة ستتوقع إصدارات قريبة لعلية و سلاف و زهيرة سالم في تنافس محموم على قلب المستمع المعشوق لكنك لا تسمع سبابا و شتائم و كلاشات لأنها مسيئة للفنان و تحط من قيمته في عيون الناس. لذلك كانوا أنصاف آلهة و يعاملون من رئيس الدولة إلى ابسط موظف كسفراء للجمال و النبل و الترفع عن الابتذال … وشخصيا كانت لي لقاءات مع أكثرهم و كنت حين أستعد لحوار صحفي أشدد الحرص على أن أكون في حجم المهمة و تمام القدرة على أنني جدير بمحاورة فنان حريص على سمعته و صورته.

و أذكر من باب الطرافة أنني لما كنت في خطواتي الأولى في عالم الصحافة كلفت بتجميع بعض الأخبار عن الفنانين و وجدتني وجها لوجه مع الفنان الهادي الجويني….نعم الهادي الجويني و ما أدراك..بادرته بالحديث فأصغى و هو يبتسم ابتسامته العريضة العذبة و استأذنته في إجراء حوار معه فقال لي دون تردد: الله يبارك ولدي هاو نومرويا و مرحبا بيك في كل وقت … و ما أن غادرت مقر الإذاعة حتى انتابني إحساس بالندم على تسرعي و عن جرأتي الزائدة عن اللزوم … أحسست بأنني قد أحرجته و أن حياءه منعه من أن يسألني إن كنت جادا في طلبي و من أكون و لصالح أية جريدة أعمل؟

بقيت هكذا بين أخذ و ردّ، و ما راعني إلا و يتم الإعلان عن وفاة الهادي الجويني بعد أيام قليلة … ظلت الحكاية نقطة سوداء، غير أنها علمتني أن الصحافة لا تغفر إضاعة الفرص التاريخية …

وداعا زهيرة، لكن سمفونية جيلكم لن تموت …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version