رحلت عن هذه الدنيا الفانية الإنسانة،المطربة، الفنّانة زهيرة سالم…هي واحدة من أيقونات الأغنية التونسيّة، واحدة من نساء تونس اللّاتي آمنّ بأن تحقيق الهدف مسألة لا تقف أمامها العوائق و لا الحواجز و لا طول المسافات، هي امرأة اختارت الغناء و الفن و الموسيقى و عاشت من أجل ذلك، عرفتها عن قرب و جمعتني بها أواصر مودّة و تقدير، امرأة شجاعة و صريحة إلى أبعد الحدود ابنة للإذاعة و التلفزة بامتياز، حيث عرفت بين أروقتها و أستوديوهاتها في 71 شارع الحرية خطواتها الأولى، و النجاح تلو النجاح …
قد لا يعرف الكثيرون أنها من أفضل من يغنّي للمطربة فائزة أحمد كما هو الشأن بالنسبة إلى السيدة نعمة التي كانت من أفضل من يغنّي لليلى مراد … صاحبة موهبة، صقلتها في المعهد الرشيدي الذي كانت من أصواته النسائيّة المتميّزة على غرار رفيقات دربها السيدة نعمة و السيدة سلاف و المطربة عليّة. صوتها يحملك إلى حقول مدينة باجة، و نبراته تحاكي في صعودها و نزولها في قرارها و جوابها و مواويلها، سنابل مثقلة بالخير تتمايل في عزّة على وقع نسيم ربيعيّ، و زهور أقحوان و شقائق نعمان بلّلها الندى، فيه همّة من يشقّون الأرض و يسقونها من خلاصة عرق الجبين و السّواعد، و فيه شموخ جبال خمير، و كبرياء نهر مجردة ينساب رقراقا زلالا بين الحقول و السهول، و فيه الأجمل و الأبهى من الفصول الأربعة خضرة ربيع ينشر سجّادا زاهية ألوانه على مرمى البصر، و مندرة و صابة الصيف و اللون الذهبي الذي يميّز السهول و الوديان و المرتفعات، و سحاب الخريف الذي يمطر الأرض حياة و حركة و بركة، و شتاء الليالي البيض ثم الليالي السود ” اللّي ينبت فيها كل عود ” …
هذه هي زهيرة سالم، على مدى عقود شدّتنا إلى فنّها و إلى لون غنائها في ثرائه و تنوّعه ، تغنّت بتونس و بجمال طبيعتها و مدنها في أغان عديدة و مناسبات كثيرة … نراها تشحذ الهمم و تحث على العمل الصالح و الكــدّ في “اخدم بلادك يا خــدّام” مع كلّ من محمّد الفرشيشي و محمّد أحمد و كذلك في أغنية “يا نايم اصحى من النوم” و نراها تبدع في الأغنية الدينيّة من ذلك “القلب أصبـح واحة الإيمــان” و “سطع النّور” عن المولد النبوي الشريف. كما اشتهرت المطربة زهيرة سالم بروعة أدائها للون الليبي في الغناء، و الأمثلة في ذلك عديدة مثل “أنا وأنت ليش مظاليم “، و في هذا اللون تبقى أغنيتها ” أمّي يا أمي ” واحدة من أجمل الأغاني العربيّة التي تتغنّى بالأمّ. كما شدت بالألحان الكويتيّة ” انتهى حبّك“. و غنت باللهجة المصرية من كلمات حسين السيد و ألحان خالد الأمير ” فيه حاجة بضحكتو“.
كثيرة هي الألوان التي غنتها مطربتنا الراحلة ، و لعلّ ابرز مثال على نبوغها و نجاحها في المجال الفنّي أنّها غنت القصيدة الفصحى لكبار شعراء تونس مثل عبد العزيز قاسم، و منوّر صمادح، و عامر بوترعة، و محي الدين خريّف… كما شدت بكلمات أبرز شعراء الأغنية الدارجة في بلادنا مثل رضا الخويني، و أحمد خير الدين، و عبد المجيد بن جدّو، و حسن المحنوش….
أمّا الملحّنون فقد تعدّدت أسماؤهم و تنوّعت ألحانهم و نذكر منهم بالأخص محمد رضا، عبد الحكيم بلقايد، الشاذلي أنور، عبد الحميد ساسي، توفيق الناصر و أحمد القلعي…
في حوالي 500 أغنية كانت زهيرة سالم تنتقل بيسر و ثقة من الأغنية البدوية التي تصوّر لنا حياة الريف في بهائها على بساطتها و في عفويتها وتلقائيتها، إلى الأغنية الخفيفة المرحة التي تستطيبها الأذن و ترتاح لها، ثم إلى القصيدة الوطنية و أستحضر هنا رائعتها عن معركة بنزرت و التي تتغنّى بأبطال تونس ممن وهبوا الروح من أجل حرية شعبها، و هو عمل مؤثّر كلاما و لحنا و منه هذه الأبيات:
إلى من قضوا في سبيل العلم
و ماتوا لنشر الإخا و السلم
عليكم من الله أزكى النعم
و في خلده يستطاب المقام
هنيئا لكم يا رفاق الخلود
كرهتم من العيش ذل القيود
فسرتم إلى الموت سير الأسُود
لعزّة تونسَ بين الأمم
يطول الحديث و لا ينتهي عن الفنانة الكبيرة زهيرة سالم ابنة الإذاعة و التلفزة التونسيّة، و كلّ من عرفها لا يحمل عنها إلاّ جميل الذكريات و طيّبها، و في فترة من حياتها لم يمنعها المرض من مواصلة رسالتها الفنّية، بل بدا منها إصرار عجيب على مواصلة المشوار، لكن تلك هي مشيئة الله في خلقة و الموت حق.
رحم الله زهيرة سالم و رزق أهلها و ذويها و الوسط الفنّي جميل الصبر.