جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 1

نشرت

في

Coloriage Bébé #86595 (Personnages) – Dessin à colorier – Coloriages à  Imprimer

كنا بدأنا منذ أسبوع في نشر مذكرات الزميل الكبير عبد الكريم قطاطة التي وضع لها عنوان “ورقات يتيم” … غير أننا عند نشر أول حلقة على “جلنار” وقعنا على آخر ما خطه كرّومة وقد وصل مع قرائه على فايسبوك إلى العدد 80 … وكان أمرنا نشازا … فكيف يعقل أن نفتتح النشر بداية من منتصف المذكرات وربما من صفحاتها الأخيرة؟ … وهنا، وبإشارة ناصحة من الصحفي المحنّك، ارتأينا عدم امتطاء القطار وهو يسير، واخترنا العودة منذ المحطات الأولى كيلومترا كيلومترا و”أنڨارًا” أنڨارًا … عسى أن يكون ذلك احتراما لفضول من لم يقرأ … وإنعاشا لذاكرة من قرأ ...

ـ التحرير ـ

اليتم ليس فقط ان نفقد احد الوالدين او كليهما … اليتم ايضا ان نعيش الوجع ونحن نشاهد اوراق شجرة كم انتفعنا بثمارها واستظللنا بظلها …ان نشاهد اوراقها تتساقط الواحدة تلو الاخرى …

<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

اشياء بسيطة نمر بها على امتداد ايام حياتنا مر الكرام …الا اننا ومع تقدم العمر نوقن بعد فقدانها كم هي متجذرة فينا على بساطتها وكم نشتاق اليها دون جدوى لانها غادرتنا دون رجعة … الثابت ان لكل واحد منا ذكرياته مع دروب الحياة منذ نعومة اظافرنا … دروب قد تختلف من جيل الى جيل ولكنها ـ على الاقل بالنسبة لي ـ هي مزروعة في اعمق اعماقنا … ولانني اسير الواقعية في جل ما اكتب، استسمحكم ان اعود بكم الى واقعي منذ حللت ضيفا على صفحة هذه الحياة، يوم سبعة جويلية من سنة 49 حين كانت والدتي رحمها الله تقوم بشؤونها المنزلية اليومية، في (حوشنا) الذي يشترك في سكناه 3 اخوة …

كان الحال رمضان وكانت الساعة تشير الى التاسعة صباحا عندما احست والدتي بوجع الولادة …في البداية لم تعبأ بالامر، الا انها اسرّت لاختها (زوجة عمي) بان الامور اصبحت جدية …واسرعت خالتي الى القابلة العربي لتحضرها حتى تساعد والدتي على وضعي … الا اني يبدو كنت غير مطمئن للقابلة العربي التي كم ذهبت من ام ضحية محدودية معرفتها او كم ذهب وليد من غادي لغادي، فاثرت النزول دون مساعدتها …وما ان وصلت حتى وجدت 2 كيلو ونصف من اللحم الآدمي على اقصى تقدير في انتظارها حتى تقطع الحبل السري …الذي ببدو انه لم ينقطع ابدا بيني وبين امي التي هي كل حياتي وانا كل حياتها …كيف لا وانا الابن الذكر الاول الذي يهل على عائلتي بعد ان دفنت ذكرين واجهضت ثلاثة …كانت الفرحة في العائلة لا توصف، انه المجتمع الذكوري ..

وكانت اختاي تراقبان الحدث بكثير من المشاعر المتلاطمة … فرح ..غيرة… خوف من الأتي … ولم تكونا مخطئتين في مخاوفهما على الاقل بالنسبة للاخت الكبرى …البكرية …لان مجيئي وظروف تنشأتي دفعت ضريبتها هي عندما اجبرها الوالد رحمه الله على المكوث في المنزل للاهتمام بي، مما حرمها نعمة الدراسة … نعم هكذا يتصرفون في المجتمع الذكوري …في نفس هذا المجتمع لم يكن هنالك انذاك تحديد النسل، فبورقيبة لم يهل بعد .. لذلك كانت امي رحمها الله كاغلب النساء من فصيلة الارانب …يدو في يد خوه … ومثل أولئك النساء كان يطلق عليهن صفة (غيالة) اي انها ما ان تخرج من الاربعين بعد الولادة حتى تجد نفسها حاملا .. خاصة ان جل الرجال انذاك قابلينها يالياطاش … جلهم بطالون والبطالة تعمل بعمايلها …والغيالة من سوء حظي ينقطع عنها در الحليب لرضيعها …

نعم نشات وانا رضيع على بيضة مسلوقة كل صباح وعلى شريحة تين مجفف امزمزها كامل اليوم … فحتى دقيق الحليب الامريكي (الهدية للشعب التونسي) لم يحل ركبه بعد … والغريب انه وفي مثل تلك الظروف وفي قلة ذات اليد قاومت ونشات … عمر الشاقي باقي … كان والدي اجيرا يوميا احيانا في °المرمة° واحيانا اخرى في °ماكينة الزيتون° (معصرة الزيت) وتارة في °المرادم° لصنع الفحم … وفي غالب الاشهر بطالا … امي كانت تقول عنه كسلان ولكن عندما كبرت وعرفته عن كثب ادركت انه سريع الغضب لاتفه الاسباب، مما سبب له علاقات متوترة مع اغلب الذين اشتغل معهم … لذلك كنا مصنفين ضمن العائلات المعوزة، فحتى حوشنا تتقاسمه عائلات ثلاث وساعود في مقال مقبل الى حيثيات هذا الحوش الرهيب وتفاصيله الاكثر رهبة …

في عائلتنا مثلا .لم نكن نملك من الفراش الا (بساط) وهو قطعة من القماش الداكن اللون حتى لا تظهر عليه مخلفات الاوساخ، محشو بقطع من القماش البالي … وهو للنوم اما الجلوس فهو اما على الحصير والاغلب على الحصيرة، وهي جزء بال من الحصير الذي يسدل عادة عند مجيء الضيوف …لم نكن نملك من ابسط ابجديات العيش الكريم الا القليل …فاللحم بالنسبة لنا هو مرادف لعيد الاضحى وفقط … والسمك نشتريه فقط عندما يصل بائعاه (الاخوان الشيتة وڨنبور هكذا كان يطلق على الاخوين عليلة في ساقية الدائر) أو عندما بجبران في الحقيقة في السادسة مساء على بيعه (بخ تف) لانهما لا يملكان ثلاجة لتصبيره الى الغد … فيتراوح ثمن كيلو الصبارص بين 5 و10 مليمات …

اما الغلال فنحن لا نحتاج لشرائها لسببين اولهما الفقر المدقع الذي تعيشه جل العائلات انذاك، وثانيهما ان قطعة الارض التي نمتلكها والتي لا تتجاوز مساحتها (المرجع) هي بالفعل مرجع لعديد الغلال … دلاع فقوس بطيخ لوز عوينة كرموس اجاص، دون نسيان شجر اللوز بانواعه (فخفاخ او مغزاز قسمطيني وزحاف) … نعم فما حاجتنا بسوق الغلال؟ ..وما يقال عن الغلال يقال عن الخضر، اذ تتربع امام الحوش (المطاير) لعائلات الاخوة الثلاثة، وفيها ما تشتهيه الانفس من كل انواع الخضر … معدنوس تابل بصل سلق فلفل… وويح لدجاج الجيران اذا عبر الحدود من فوهة (“فلة” صغيرة في الطابية التي بيننا وهو ماكان يطلق عليها اسم كعباشة) للسطو على ثروة خضرنا … الشيء الذي اجبر والدي على الفتك بالدجاجات المسكينات ذات مرة باستعمال دواء الفأر لابادتها …وشوية لا طاحت فيها الارواح ..غفر الله له ولجيراننا “دار بودوارة °…

اما عن يقية حاجياتنا العائلية في الماكل فكنا مثلا لا ناكل خبز المخابز الا في اليوم السابع والعشرين من رمضان… كنا نخرج لصلاة العصر ونقبع في صحن الجامع حيث يقوم الاثرياء بتوزيع الخبز على المعوزين … وهي فرصة لكافة افراد العائلة كي يصطفوا جميعا لنيل خبزتهم … وعلى ذكر خبز المخابز اتذكر جيدا ان والدي رحمه الله كان يخصص لي شهريا ربع خبزة بالطلوق من عند خباز ساقية الزيت (الفريخة رحمه الله) كهدية لي على نتائج امتحاناتي …الامتحانات في زمني كانت شهرية في التعليم الابتدائي… وبعد اربعة اشهر يدفع ابي ثمن الخبزة التي لم تكن امي رحمها الله راضية عن هذا التبذير … خاصة انني في نظرها لا استحق الهدية لاني لم اكن ‘محراثا’في دراستي بل وكانت تشتكيني دوما لمعلمي رحمه الله (سي البشير شراد) متذمرة من كثرة لعبي والذي كان يلاطفها ويقول لها دوما: سيبو يلعب لاياس عليه… وتعود عيادة الى منزلنا وفي قلبها غصة وتكتفي بالقول (كيف سيدي كي جوادو) …

اعود الى الخبز لاتم حكايتنا معه …كنا طوال السنة نتناول المبسوط والجرادڨ … الاول يعتبر (ليكس) لانه مصنوع من القمح وعادة ما يقدم للضيوف … والثاني مصنوع من الشعير وهو خبزنا في جل الاكلات …كنا ناكل ونبتلع ريقنا وعندما كبرنا قليلا كنا كثيرا ما نعلن عن غضبنا من هذا الجرادڨ والملثوث والمرقة الزورية (اي دون سمك) والحلالم والتشيش والزميت، اللي تمرجوا بيهم كبدتنا …يااااااااااااااااااه لمن عاصروني الا تحسون باليتم مثلي ونحن نفتقد لهذه الاشياء ؟؟؟؟؟ الان في زمن الملاوي والسندويتشات والاسكالوب ولحم الدند ولحم الدجاج الاصطناعي ولحم العلوش المستورد ولحم الحمار عند بعض الجزارين …ماذا تساوي هذا الاكلات امام “افّيّم تشيش” بالخضرة مزينا بقديد زمان ..؟؟؟؟ ماذا تساوي هذه الاكلات امام “افيم” حلالم مزدان بفلفل اخضر (من التقلية) رحمك الله يا جموسي … ماذا تساوي هذه الاكلات امام افيم بسباس حار ..؟؟؟

اعتذر لمن لا يعرف هذه الاكلات، لانو كل بلاد وارطالها … ولكن يمكن لكم ان تعوضوا ماذكرته من اكلات صفاقسية بما يضاهيها من اكلاتكم في ذلك الزمن ..؟؟؟ مرة اخرى ومثل هذه الاكلات تندثر شيئا فشيئا … وللامانة، البعض منها مازالت تجود بها على نخبي زوجتي او اختي التي تكبرني بعام وهي مختصة في الحلالم … بورك فيهما وفي امثالهما … اذن مرة اخرى ومثل هذه الاكلات تندثر من خواننا اليومي الا تحسون باليتم ..؟؟؟ اليست هي اوراق تساقطت من شجرة حياتنا فتركتنا يتامى …؟؟؟

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version