ساقية الدّائر كانت بالنسبة لي في تلك السنة (الرابعة آدابا) نقطة تحوّل كبير في علاقاتي الاجتماعية ..اصبحت اختلط بعديد الاعمار والمستويات التعليمية وتعرّفت على ما يسمّى انذاك بكبار الحومة اعني كبار اسماء الساقية من التجار والخبّازة والجزارين وكافّة المهن واالاثرياء المعلنين والمتسربلين وراء ثياب رثّة بالية ولا همّ لهم الا كنز المال وهؤلاء تقول فيهم عيّادة ومثيلاتها ...
يعيشون فقراء ويموتون اغنياء …وكم هم في منتهى الغباء بالنسبة لي ..على عكس ذلك كنت اعشق المرحوم سالم يعيش احد اثرياء الساقية الذي كان يمتطي “كاليسه” وجبّته القمراية ومشموم الياسمين “يدرجح على وذنو ” وهو يتجوّل في ساقيتنا ..هذا عاش غنيّا ومات غنيّا اذ انه وهب قطعة ارض لمتساكني الساقية حتىتكون مقبرة للجميع، شريطة ان يكون هو اول المدفونين فيها ..وكان له ذلك ..رحمه الله ..اي اعمل لآخرتك ولا تنس نصيبك من الدنيا … عرفت كل هؤلاء دون قطيعة مع البسطاء فكرا او مالا .. ربّما لانّني واحد منهم وربّما ايضا لانني كنت ومازلت اعتبر جميع البشر اخوة لي ..السنا جميعا ابناء آدم ؟؟؟…
دعوني قبل ان اعود الى كبار الجومة في الساقية احك لكم عن بداية قصّتي مع التدخين والذي لازمني لحدّ يوم الناس هذا ..في الشهر الثاني من تلك السنة تعرّفت على زميل في الدراسة دمث الاخلاق قليل الكلام حاضر البديهة .. نجيب الجبالي وهو نجيب اسما ودراسة … نجيب صديقي هذا، كان قد بدأ عزفه على اوتار السيجارة قبلي وكنّا كلّما ذهبنا الى حانوت “قميحة” وهو الحانوت الوحيد في جمهورية معهد الحي انذاك حيث كانت طريق العين موطن معهدي تختزل في المعهد ومستشفى الهادي شاكر والقنطرة والمقابر المحيطة بها ..فقط … اليوم عمارات هلبة ودكاكين هلبة ومعاهد هلبة وتزوفير هلبة وزايدة ڨلبة … واووووووووووووووووووووف من زحمة الطريق الف هلبة ..
كنا اذن انا وزميلي نجيب نذهب احيانا متى كانت الميزانية تسمح لشراء كسكروت …لا تذهبوا كثيرا بخيالكم ..الكسكروت انذاك كان يعني ربع خبزة وقليلا من الهريسة وكعبتين زيتون ونصف حلقة زيت ….كنّا على فقره نلتهم سيدك الكسكروت التهاما.. كأثيوبي لم يذق الطعام منذ اشهر …وكنّا نستمتع ربّما بشيء من المازوشية بحرارة الهريسة …كان نجيب يطفئ حرارتها بسيجارو كواكب (نوع من السجائر الفاخرة مقارنة بالارتي والحلّوزي) ..وكنت انا اطفئها بـكعبة حلوى نعناع … كان كلّما اشعل سيجارته انظر اليه بعين نصفها مندهش ونصفها راغب في الاكتشاف …ذات مرّة سالني نجيب .تحبّ تجرّب ؟؟؟ اما راك تحصل …ولأنني كنت معتدا بنفسي مزهوّا بقدرتي على التحدّي اخذت معه نفسا حتى اثبت له اني استطيع ان اجرّب دون ان اقع في الفخّ ..لكن دوّيو …اللي ذاقو لعبت ساقو …
ربّما ايضا انذاك التدخين يعني اكتساب نوع من الرجولة ..رايت في كريّم ذلك الذي تعملق على سنّه وخرج من كهف الطفولة ..وكنت ابرّر تدخيني بـ”اشبيه هوما ارجل منّي” …؟؟؟… لا والاغرب من ذلك اني تجاوزت المدخنين بامرين: اوّلهما اني اخترت نوعا رفيعا نسبيا “المنته” واضفت للسيجارة كعبة الحلوة التي لازمتني لحدّ الان ..الحلوى بالنسبة لي هي تقضي على ما تبقيه السيجارة في الفم من مرارة التدخين، ثمّ وهو الاهم ان تبعد شبهة التدخين عن عيادة وسي محمد …باهيشي زادة ..؟؟ المقصوف عبدالكريم عنطز وولّى يتكيّف .. وتقوم القيامة .؟؟؟ ونجحت هذه الحيلة في ردم كل شبهات جريمتي عن عمّار 404 لزمن متقدّم …
صديقي هذا ومعلّمي في دنيا التدخين اقلع عن التدخين لظروف صحية كادت تعصف بقلبه ..وعبدالكريم احتفل سنة 2016 بخمسينيته في دنيا التدخين …نعم خمسون سنة ولم افكّر يوما في الاقلاع عنه لم يعبّر لا قلبي ولا رئتاي عن قلقهما من سجائري … نعرفو تبرير واهي …_ وكلّما سالني احد الاطباء هل تدخّن اجيبه: لاااااااااااااا انا نتكيّف!… وبعيدا عن مضاره العديدة وبعيدا عن حرامه او حلاله ..وبعيدا عن عاطفتكم اسألكم هل تتصورون عبدالكريم “ما يتكيفشي ؟؟” توّة هذا انا .؟؟؟ …لست ادري ماذا اقول لصديقي وزميلي نجيب الجبالي، استاذ العربية المتميز …ربي يهديك او بارك الله فيك …السيجارة تعيدني حتما لسي مبروك الحمّاص …احد اطيب الطيبين من بسطاء الساقية ..كنا نحتال (جميع المدخنين) على ايجاد 10 مليمات لشراء سيجارة ..وفي هذه الحالة الاغنياء كثيرا ما يتبرعون على قليلي ذات اليد من امثالي بـ”بونتة سيڨارو” اي آخر ما يتبقى في السيجارة … بعضنا الاخر يعمل يومين او ثلاثة في المرمّة فقط من اجل ادخار ثمن قهوة وعلبة دخان وركشة هنالك …فهمتوها ..؟؟؟ توة تجي بالكشخي ..وكان الميسور يوزّع على المعسور دونحسابات ..دون مقايضة ..دون نحب منك حق 5 سواڨر…
ما اروع ذلك التكاتف الاجتماعي الذي لم نجده في ازمنة اخرى …ربما الحالة الشاذة الوحيدة كانت بعد 14 جانفي عندما قام الاهالي بدورهم في التكافل و كل واحد منهم اصبح يساهم حسب اختصاصه في الحفاظ على حومته من عصابات السرّاق والباندية ايام الانفلات الامني ….رغم ان عصابات السياسة الذين اتوا بعد نكبة 14 جانفي كانوا اشد بلاء من لصوص وباندية تلك الفترة الاولى …..بل هم محترفون جدا وجذورهم في الخارج تحميهم من غضب الشعب المسكين …والمغلوب على امره لعشرين سنة مقبلة على الاقل …اذا لم تحدث ثورة حقيقية اخرى …
سي المبروك كان يراقب عمليّة بيع وشراء السجائر في حانوته ..وكان طبيعا جدا ان يعرف نوعية سجائر كل واحد منا .. لم اكن من المدخنين بشراهة كما اغلب اصدقائي ..ثم سيجارتي ثمنا تساوي اثنتين من الكريستال او الارتي …ولكنها انذاك “مصيرفة” … كنت كثيرا ما احتال على عيادة بحاجتي لكتاب ما او لكراسة …لاخذ ثمن سجائري …وكنت يومها اقترض كتابا من احد الزملاء كي ابرهن لها اني اشتريت الكتاب المزعوم …تتفحّصه جيدا علّها تتذكّر يوما خطوط الغلاف لتعود بعد ايام سائلة عنه ولأقول لها قمت باقراضه لصديقي الفقير .._وكنت اتصوّر عندها اني عدّيتها عليها، ولكنّها تباغتني بـ: انت مكش فقير؟؟؟… ماهو اتسلف كيفو علاش تمعسني كل شهر بحق كتاب ؟؟؟ اصمت ثم ارد: مانيش قاعد نشري في الكتب الكل …انا وصحابي نتبادلو هوما يشريو البعض وانا كيف كيف (كل واحد شيطانو في جيبو …هكذا كنت اتصوّر) ..اما هي فكانت تغم داها في رداها وتهمهم: ماشفت حتى كتاب متاع صحابك اللي تحكي عليهم ويسلفوك كيف ما تسلفهم …يا لندرة يا وليدي وقتاش يهديك ربّي وتجي للثنية ..؟؟…ولانها تهمهم، نعمل روحي ما سمعتهاش في انتظار ملاكشة اخرى …
وجاء سي المبروك يوما ليختلي بي ويهمس حتى لا يسمعه احد … شوف يا كريّم (بضم الكاف) انت نحسبك ولدي ونعرف انو بوك عامل يومي ونهار يخدم وعشرة لا …ونعرف نفسك عزيزة وما تحبش تطلب دخانك من عند حتى حد ..وزيد دخانك انت ما يتكيفوهش … اسمعني وخلّيها بيني وبينك ..المنتهة اللي في حانوتي الكلّها على ذمّتك حتّى لين تنجح وتولّي تخدم…كان نجمّت اتخلّصني خلّص ..وكان ما نجمتش السماح بيناتنا ……يااااااااااااااااااااااااااااه شفتو ما معنى الزمن الجميل ؟؟….شفتو الرجولية والمواقف من انسان بسيط ولكنه عميق .؟؟….شفتو علاش طيلة عمري المهني كنت احب البسطاء…؟؟ لانهم اعمق من العميقين ولانهم اجمل واروع …هنيئا لهؤلاء …هنيئا لهم لاننا في جلّنا لسنا ببسطاء و”نمشكلوها برشة” …غير قادرين حتى على قول كلمات من نوع توحشتك …من نوع انحبك …من نوع ما احلاك …من نوع قداش نموت عليك …استحلفكم بالله الا ترون ان متعة الحياة في بساطتها تفكيرا وتعبيرا وسلوكا ؟؟؟ ..
ادعوكم ان تذهبوا لمن تحبون واسعدوهم ببساطتكم …لنحاول معا ان ندرك ان هنالك في حياتنا ما يسمّى بسنوات الضياع …فيها فوّتنا في جلّنا الفرص على ان نعيش حياتنا …..وفيها ضاعت اعمار البعض …وفيها غرق اخرون في سراديب الروتين … او الحرمان ..وفيها وفيها وفيها وفيها ….ولكن الاكيد والذي لا يجادل اننا في جلنا حرمنا انفسنا من التمتّع باشياء كم هي بسيطة ..ولكن كم هي هامة …كم من صديق ..اخ ….اب ..ام ..حبيب … جار …زميل …في حاجة الى كلمة واحدة تسعده أيما سعادة من نوع “مااخيبك” عندما لا نجرؤ على القول محلاك ..اليست الاشياء تعرف باضدادها …مااخيبكم …