جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 30

نشرت

في

Gibraltar, Un Pont entre deux Mondes

عبد الكريم قطاطة:

الواحد منّا قد تداهمه اقدار بحلوها ومرّها لا يمكن تفسيرها الا بـ”اقدار”…. في خاتمة سنتي الاولى كمربّ بمدرسة سبّالة اولاد عسكر ..كان كل همّي ان اطّلع لغد مهني افضل ..

<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

نعم وحسب شهادة متفقّدي السيّد الديماسي نجحت في الاختبار الاوّل… ونلت اعجابه واعجاب جلّ الزملاء الذين كانوا في بداية علاقتي المهنية بهم غير مدركين لحماسة هذا الشاب الغض الذي اندس بين صفوفهم برؤية مخالفة لرؤيتهم التقليدية للتربية ..بل كان البعض منهم لا يُخفي سخريته من هذا الابن الضال عن شريعتهم البيداغوجية …الاّ انهم وللامانة اصبحوا بعد اشهر قضّيناها معا سكنا ومهنة يكنّون كل الاحترام والاعجاب ..اومع ذلك كنت قلقا من وضعيّتي المهنية (مدرب صنف ثان) وهو اسفل درجات الترتيب الاداري في ميدان التربية… وقلقي الاشد كان متمثّلا في: كيف سابني غدي وانا مرتّبي لا يتجاوز 32 دينارا ..؟؟ وخاصّة امام ما ينتظرني مع بنت الناس وهي التي عقدت معي عقدا على انّها ستكون لي ولا لغيري …

كانت تدور برأسي عشرات الافكار التي هي اقرب للهواجس …وفتحت السماء ابوابها وانبلجت انوار الاقدار ..في صائفة 1969 وقع الغاء امتحان الجزء الاول من الباكالوريا وسّمح للمعاهد بامتحان استثنائي للراسبين في امتحان الجزء الاول من الباكالوريا في شهر سبتمبر 69.. كي يجتازوا المواد الرئيسية لدروس الخامسة حتى يتمكنوا في صورة نجاحهم من مواصلة دروسهم بالسنة السادسة (سنة الباكالوريا انذاك)… كان منعرج الامل …لان نجاحي في ذلك الامتحان كان بالنسبة لي يعني المرور حتما الى مدرب من الصنف الاول وهذا يعني ان مرتبي سيقارب الاربعين دينارا شهريا … وهذا المبلغ يّعتبر هاما في تلك السنوات …

قمت بمراجعة سريعة لتلك المواد وتقدمت في بداية سبتمبر لتجاوز الامتحان …في منتصف شهر سبتمبر جاءني ساعي البريد (جارنا سي علي غربال رحمه الله) ليحمل معه برقية تعييني للسنة الدراسية 69 ـ70 …وقبل ان يمدّني بها رجاني ان اخصّص لابنتيه بعض الساعات لتمكينهما من دروس اضافية في مادة العربية بنحوها وصرفها خاصة ….وقبلت عن طواعية المهمة فافضال معشر الغرابلة عموما عليّ كبير ..اذ اني كنت اختصر مسافة خروجي الى الساقية من جنانهم… وكانوا يقبلون ذلك منّي عن طيب خاطر منذ سنتي الاولى الى نهاية تعليمي بمعهد الحي .. سلمني البرقية فاذا بالادارة الجهوية للتعليم بالقصرين تعلمني بأنه وقع تعييني بالمدرسة الابتدائية بعين الحمادنة …؟؟؟ كنت مندهشا من هذه النقلة …سالت عن عين الحمادنة وموقعها في جغرافية ولاية القصرين فعرفت انها منطقة ريفية جبلية وتبعد زهاء العشرين كلم عن تالة ..

في آخر الشهر جمعت “زودي وزوّادي” قاصدا عين الحمادنة ..كانت اخر محطة لي بوسائل النقل التقليدية هي تالة …عندما سالت عن عين الحمادنة قيل لي ..انها هنالك ..اشارة بالاصبع وهنالك عند الريفي تعني بعض الكيلومترات ..سالت عن وسائل النقل للوصول اليها قيل لي نعم متوفرة ..اعدت التساؤل اين اجد سيارة اجرة (تاكسي او لواج)… قيل لي ان كنت ترغب في سيارة اجرة خفيفة انتظر بعض الوقت وستتمكن منها واذا كنت تترقب سيارة اجرة لواج فانت على بعد امتار منها …انتظرت سيارة التاكسي ولم تأت ..توجهت الى محطة اللواجات فاذا هي “بالكرك” عديد السيارات الرابضة والتي تنتظر الحرفاء مثلي ..ما ان وصلت حتى تعالت الاصوات ..القصرين ..صفاقس ..الكاف ..فاجبت بكل سذاجة .: عين الحمادنة… نظر لي احدهم باستغراب وسأل: عين الحمادنة ….؟؟؟ نظرت اليه باستغراب اكبر وكأنني ارتكبت حماقة واعدت القول: ينعم عين الحمادنة …_ اقترب منّي صاحب سيارة الاجرة وقال: يظهرلي انت موش من هنا ..يا ولدي عين الحمادنة راهي في الجبل ….انت عمرك شفت تاكسي والا لواج يمشيو للجبل ؟؟؟؟

وبعد هول الصدمة سألت ..كيفاش انجم نوصلها …؟؟ اجاب على الفور: تكري بغلة ! …كنت اظن انه يمزح مستهزئا … ولكنه اعاد القول: اش اسمك انت يا خويا ..؟؟ قدمت بطاقة هويّتي فاردف: يا سي عبدالكريم راني مانيش نفدلك ..عين الحمادة يوصلولها بالبغال والاحمرة .. واتنجم تكري بغلة .. وسوق البغال قفانا ..؟؟؟ وتصوّروني ‘رطل ونصف لحم) راكبا على بغلة ..؟؟ وانا الذي لم استعمل يوما وسيلة النقل هذه والتي هي بحق وسيلة تقليدية جدا …وفعلا فعلت …كنت طوال الطريق منغمسا في اشياء عديدة ..لماذا عين الحمادنة ..؟؟ هل ساستطيع العيش في قرية جبلية لا حياة فيها ؟؟ وكنت انظر الى السماء …نظرة امل ورجاء وخوف ..وكانت جغرافية السماء محجوبة عنّي بسحاب ليس كالسحاب الذي اعرفه … سحاب اسود اللون وكأنه يحاكي ما بداخلي من الوان قاتمة ..وكان صاحب البغلة يردد دائما “ان شاء الله معوّمة”…

لا اتذكّر بالضبط كم بقينا في السفرة للوصول الى مدرسة عين الحمادنة حيث اعلمت في الاثناء قائد الرحلة ان محطتي هي المدرسة بصفتي مربّيا … وكلّ ما اتذكّره انه كان شديد الافتخار بي وهو يوصل معلّما الى قريته ..ولا يمكن لي ان انسى انه وعند الوصول الى خاتمة الرحلة رفض وبكلّ شدّة ان ياخذ اجرة نقل حمولته ..لا لأن الحمولة كانت من الوزن الخفيف جدا والتي ربّما تفاعلت معه البغلة في سيرها وزهوها ورقصها لأني لم ارهقها…. بل ربّما هي تصوّرت انها لم تحمل شيئا يذكر …. هو رفض اخذ الاجرة لانه يعتبر ذلك مهانة له ..فكيف لرجل من قرية عين الحمادنة ان يأخذ اجرة من “سيدي المعلّم” ؟؟؟ عيب وعار وقلّة رجولية …هذه الامور ليست من شمائلهم …هذه الشمائل التي بدأت تنقرض عندنا نحن سكّان المدن وحتى بعض الاماكن الريفيّة (بدا يلحقها طشّ الحضارة المزعوم) …

عند الوصول الى المدرسة استقبلني مديرها وهو رجل في الخامسة والثلاثين من عمره… سلّم عليّ بكل بشاشة واحترام قائلا ..اهلا بولد بلادي …وهذا يعني انه صفاقسي ..سي الطريقي هذا المدير الشاب سألني عن تجربتي في التدريس ..عن موقف المتفقد منّي دون ان يعلّق وكأنه كان يردّد في داخله “اش جيّبك لهوني” …كنت اعرف حسب ما يرويه الزملاء انذاك ان تعيين معلّمين في المدارس النائية يعني نقلة عقاب… وعندما حللت بمدرسة عين الحمادنة تساءلت ..لماذا اُعاقب ؟؟ الم يقل سي الديماسي انه سيظلمني اذا منح لي ما استحق كعدد في سنتي الاولى …؟؟؟ كانت هذه الاسئلة واخرى تغمر مُخيّخي وترهقه … ولم استفق الا وسي الطريقي اعدّ العشاء …كسكسي بالخرشف… (الخرشف هي نبتة برية توجد في تلك الجهة) …انغمست في الاكل بعد يوم كامل دون غذاء …ورغم اني لم اكن يوما من عشاق الكسكسي فاني اكلت وبشراهة …دخّنت سيجارتي واستلقيت على فراش اعدّه لي سي الطريقي و(غطست)… الرحلة اخذت منّي اي مأخذ تعبا جسديّا وفكريّا ..كان ذلك في حدود الساعة الثامنة ليلا ..

استفقت في الصباح على مشهد لم اره من قبل في حياتي ..مدرسة عين الحمادنة عبارة عن جزيرة تحيط بها المياه …نعم وكما قال صاحب البغلة “معوّمة”… الامطار اثناء سباتي كانت غزيرة طوفانية …واصبحت عين الحمادنة منقطعة عن تونس اعني عن كل ما جاورها …واستمرت الامطار ذلك اليوم واليوم الموالي واصبحت الامور مخيفة للغاية ..انذاك حمدت الله على اننا كنا في موقع جبلي ..كنت ارى الاودية التي تحيط بنا في هيجانها المستمر ..انها فيضانات عام 1969 التي اجتاحت كامل البلاد التونسية …. كنا في المدرسة قابعين في في بيوتنا ليلا نهارا ..ومن حسن حظّنا ان الحانوت الوحيد الموجود في عين الحمادنة كان بجانب المدرسة .فكنّا نتسوّق معه حاجياتنا الغذائية والتي اصبحت منذ اليوم الثاني لهطول الامطار محدّدة بـالسردينة المعلّبة والبسكويت …. نعم السردينة طبقنا الوحيد وناكله بالخبز …وخبزنا انذاك البسكويت …_ لا تندهشوا …الجوع يوكّل الحجر ….

ليلة اليوم الرابع من وجودي بعين الحمادنة جاء احد الزملاء وهو من سكان المنطقة ليعلن عن عزمة للذهاب غدا الى تالة لقضاء بعض الحاجيات وليستفسر عن حاجات الزملاء ..وقفزت فكرة الذهاب معه فجأة الى ذهني ..وقلت له ساكتري بغلة وارافقك الى تالة …نظر اليّ مبتسما واجاب: اما بغلة ….؟؟ ..الدنيا كلّها وديان تجري ..اشكون يغامر ببغلتو .؟؟ _ .. سألته: على شنوة ماشي انت ؟؟؟ فجاء الرد سريعا: على الكرعين ..توة ثمة كان تاكسي نمرو 11 ..وهو يعني الرجلين … همهمت قليلا داخلي ثم قرّرت: ماشي معاك على ساقيّ ….نظر اليّ بدهشة وانزعاج وقال …اشبيك يا سي عبدالكريم، راك موش في “صفاڨس” (بثلاث نقط فوق القاف) متاعكم … تحب تمشي فيها..؟؟؟ راهي وديان ماشي نشقّوها ..؟؟ نظرت اليه وقلت ..توة انا هنا حيّ زعمة .. ؟؟؟.ميّت في حبس كيف البقعة هذي والا في وادي موش كيف كيف .؟؟؟..قرأ عزمي الشديد على المغادرة فاردف ..مرحبا بيك اما راهو الامور موش ساهلة كيف ما تتصوّر ….واتفقنا على موعد …كان الموعد السادسة صباحا ..وانطلقنا …

زميلي هذه سي الهادي كان بحق غاية في الحفاظ على امانته… كنت كعصفور نحيف يحتمي بايدي سي الهادي الغليظة المتينة كلّما شققنا واديا …ربما احترامه لزميله قد يكون هو الذي منعه من حملي على كتفيه …كانت رحلة شاقة جدا ..وكنت احيانا اغمض عينيّ حتى لا يعتريني الاغماء امام المياه المنهمرة من كل صوب ..ومثّل ذلك اليوم رقما قياسيا في حياتي.. اذ انّي قضّيت اثنتي عشرة ساعة مشيا على الاقدام ..وصلنا الى “العاصمة” تالة السادسة مساء وسالت زميلي سي الهادي عن اي نزل ابيت فيه ليلتي من شدّة التعب… ضحك زميلي واعادها: يا سي عبدالكريم راك موش في صفاڨس متاعكم _ عرفت لتوّها ان لا نزل على الاطلاق بتالة ..سالته اين سننام اذن؟ قال: في الحمّام ..دخلنا الحمّام لا لنستحم فالمُهلك مثلي تعبا لا يقدر اطلاقا حتى على الاستحمام…المهم يغم راسو ويتمرقد…وكانت ليلة ليلاء عاث فيها وفينا البق والقمل كما اشتهى …

في الصباح تناولنا قهوتنا بشهية كبرى (ايييه احيانا القهوة تصبح لوكس اللوكس) وخرجنا معا ..قال لي سي الهادي الان ساطلعك على سوق تالة وعلى كل ما تريد معرفته فيها …مسكت يده وسلمت عليه بحرارة ورجوته ان يبلّغ تحيّاتي وشكري الى كل زملائي بالمدرسة… واعلمته اني ساغادر دون رجعة ولن اعود الى عين الحمادنة ليس رفضا منّي لاكون في قريتكم الجميلة ولكن المشكلة مبدئية بالنسبة لي لان نقلتي الى مدرستكم اعتبرها تعسّفية …كان سي الهادي في قمة الدهشة ثم علّق بقوله: واش ماشي تعمل وين ماشي؟ … قلت له ساذهب الى القصرين لاقدّم استقالتي من التعليم للادارة الجهوية هناك ..لم يصدّق، رجاني ان لا اتسرّع ..فاقفلت الحوار بـ” يعمل الله”… تعانقنا وقلت له لن انسى جميلك في رحلة الامس، لن انسى …

كانت الساعة تشير الى الثامنة صباحا وبعض الدقائق عندما امتطيت سيارة اللواج الى القصرين ..وصلت إلى مندوبية التعليم واعلمت سكريترة المدير الجهوي برغبتي في لقائه …لم انتظر قليلا حتى استقبلني ..كان وجهه متجهّما وكان عظيم الجثّة جاحظ العينين ..اعلمته بانه وقعت نقلتي الى عين الحمادنة بعد سنة بسبالة اولاد عسكر وان نقلتي هذه لا يمكن وضعها الا في خانة العقوبات وها انا استفسر عن عقوبتي … لم يتركني اكمل اطروحتي، وردّ وبكل صلف: شوف يا ولدي هاكة اش ثمة الكلكم ماذابيكم المدرسة بحذا داركم …ما عنديش حل تحب تقرّي في عين الحمادنة مرحبا، ما تحبّش شد داركم ..لم احاول البتّة محاورته ..انا لم ارتح لشكله منذ اول وهلة فكيف ارتاح لمنطقه ..وخرجت من مكتبه الى السكريتيرة طالبا منها ورقة بيضاء ..جلست على مكتب عون الاستقبال بعد اذنه وشرعت في كتابة استقالتي ..كانت استقالة في بعض الاسطر عبّرت فيها عن غضبي من المظلمة التي سُلطت عليّ وعن عدم رغبتي في المواصلة في الانتماء الى نظام تربوي جائر ..امضيت استقالتي وهممت بالتوجه الى مكتب المدير الجهوي ثانية ..في تلك اللحظة احسست بيد تربت على كتفي واستدرت …انها يد سي الديماسي …

اقدااااااااااااااااااااااااااار …

سلّم عليّ بحرارة وسألني: اش تعمل هوني ..اليوم انطلاق السنة الدراسية المفروض تكون في مدرستك …نظرت اليه بعين متألمة واجبت: نعم المفروض …ولكن يبدو ان بين المفروض والمنشود والموجود هنالك عوالم شاسعة ..اندهش وسأل: ما الامر ؟؟؟ اعلمته يتعييني بعين الحمادنة وبأن ذلك عندي هو نقلة عقاب وبأنه استنادا لمواقف متفقدي والذي هو انت سي الديماسي، انا لا استحق نقلة العقاب هذه… ولذلك ها انا اقدّم استقالتي للمدير الجهوي من مهنتي التي شرفتها ولم تشرفني بل عاقبتني ..اخذ سي الديماسي ورقة الاستقالة منّي… قرأها ثم اشار عليّ بالانتظار ..دقائق معدودة وخرج سي الديماسي وبيده ورقة عودتي لمدرسة سبالة اولاد عسكر واضاف: باش تعرف اني ما ظلمتكش و اني وقفت ضد قرار من ظلمك ..برّة ولدي ربّي يعينك ونحبّك كيف ما نعرفك …وعدت الى سبالة اولاد عسكر ..

هل فهمتم ما معنى كلمة _اقدااااااااااااااااااااااااااااااااار التي اردّدها دوما .. هل هي من تصنعنا ؟؟ ….وللاقدار ادوار اخرى عديدة في ورقات يتمي القادمة … ..

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version