جور نار
ورقات يتيم … الورقة رقم 30
نشرت
قبل 12 شهرفي

عبد الكريم قطاطة:
الواحد منّا قد تداهمه اقدار بحلوها ومرّها لا يمكن تفسيرها الا بـ”اقدار”…. في خاتمة سنتي الاولى كمربّ بمدرسة سبّالة اولاد عسكر ..كان كل همّي ان اطّلع لغد مهني افضل ..

نعم وحسب شهادة متفقّدي السيّد الديماسي نجحت في الاختبار الاوّل… ونلت اعجابه واعجاب جلّ الزملاء الذين كانوا في بداية علاقتي المهنية بهم غير مدركين لحماسة هذا الشاب الغض الذي اندس بين صفوفهم برؤية مخالفة لرؤيتهم التقليدية للتربية ..بل كان البعض منهم لا يُخفي سخريته من هذا الابن الضال عن شريعتهم البيداغوجية …الاّ انهم وللامانة اصبحوا بعد اشهر قضّيناها معا سكنا ومهنة يكنّون كل الاحترام والاعجاب ..اومع ذلك كنت قلقا من وضعيّتي المهنية (مدرب صنف ثان) وهو اسفل درجات الترتيب الاداري في ميدان التربية… وقلقي الاشد كان متمثّلا في: كيف سابني غدي وانا مرتّبي لا يتجاوز 32 دينارا ..؟؟ وخاصّة امام ما ينتظرني مع بنت الناس وهي التي عقدت معي عقدا على انّها ستكون لي ولا لغيري …
كانت تدور برأسي عشرات الافكار التي هي اقرب للهواجس …وفتحت السماء ابوابها وانبلجت انوار الاقدار ..في صائفة 1969 وقع الغاء امتحان الجزء الاول من الباكالوريا وسّمح للمعاهد بامتحان استثنائي للراسبين في امتحان الجزء الاول من الباكالوريا في شهر سبتمبر 69.. كي يجتازوا المواد الرئيسية لدروس الخامسة حتى يتمكنوا في صورة نجاحهم من مواصلة دروسهم بالسنة السادسة (سنة الباكالوريا انذاك)… كان منعرج الامل …لان نجاحي في ذلك الامتحان كان بالنسبة لي يعني المرور حتما الى مدرب من الصنف الاول وهذا يعني ان مرتبي سيقارب الاربعين دينارا شهريا … وهذا المبلغ يّعتبر هاما في تلك السنوات …
قمت بمراجعة سريعة لتلك المواد وتقدمت في بداية سبتمبر لتجاوز الامتحان …في منتصف شهر سبتمبر جاءني ساعي البريد (جارنا سي علي غربال رحمه الله) ليحمل معه برقية تعييني للسنة الدراسية 69 ـ70 …وقبل ان يمدّني بها رجاني ان اخصّص لابنتيه بعض الساعات لتمكينهما من دروس اضافية في مادة العربية بنحوها وصرفها خاصة ….وقبلت عن طواعية المهمة فافضال معشر الغرابلة عموما عليّ كبير ..اذ اني كنت اختصر مسافة خروجي الى الساقية من جنانهم… وكانوا يقبلون ذلك منّي عن طيب خاطر منذ سنتي الاولى الى نهاية تعليمي بمعهد الحي .. سلمني البرقية فاذا بالادارة الجهوية للتعليم بالقصرين تعلمني بأنه وقع تعييني بالمدرسة الابتدائية بعين الحمادنة …؟؟؟ كنت مندهشا من هذه النقلة …سالت عن عين الحمادنة وموقعها في جغرافية ولاية القصرين فعرفت انها منطقة ريفية جبلية وتبعد زهاء العشرين كلم عن تالة ..
في آخر الشهر جمعت “زودي وزوّادي” قاصدا عين الحمادنة ..كانت اخر محطة لي بوسائل النقل التقليدية هي تالة …عندما سالت عن عين الحمادنة قيل لي ..انها هنالك ..اشارة بالاصبع وهنالك عند الريفي تعني بعض الكيلومترات ..سالت عن وسائل النقل للوصول اليها قيل لي نعم متوفرة ..اعدت التساؤل اين اجد سيارة اجرة (تاكسي او لواج)… قيل لي ان كنت ترغب في سيارة اجرة خفيفة انتظر بعض الوقت وستتمكن منها واذا كنت تترقب سيارة اجرة لواج فانت على بعد امتار منها …انتظرت سيارة التاكسي ولم تأت ..توجهت الى محطة اللواجات فاذا هي “بالكرك” عديد السيارات الرابضة والتي تنتظر الحرفاء مثلي ..ما ان وصلت حتى تعالت الاصوات ..القصرين ..صفاقس ..الكاف ..فاجبت بكل سذاجة .: عين الحمادنة… نظر لي احدهم باستغراب وسأل: عين الحمادنة ….؟؟؟ نظرت اليه باستغراب اكبر وكأنني ارتكبت حماقة واعدت القول: ينعم عين الحمادنة …_ اقترب منّي صاحب سيارة الاجرة وقال: يظهرلي انت موش من هنا ..يا ولدي عين الحمادنة راهي في الجبل ….انت عمرك شفت تاكسي والا لواج يمشيو للجبل ؟؟؟؟
وبعد هول الصدمة سألت ..كيفاش انجم نوصلها …؟؟ اجاب على الفور: تكري بغلة ! …كنت اظن انه يمزح مستهزئا … ولكنه اعاد القول: اش اسمك انت يا خويا ..؟؟ قدمت بطاقة هويّتي فاردف: يا سي عبدالكريم راني مانيش نفدلك ..عين الحمادة يوصلولها بالبغال والاحمرة .. واتنجم تكري بغلة .. وسوق البغال قفانا ..؟؟؟ وتصوّروني ‘رطل ونصف لحم) راكبا على بغلة ..؟؟ وانا الذي لم استعمل يوما وسيلة النقل هذه والتي هي بحق وسيلة تقليدية جدا …وفعلا فعلت …كنت طوال الطريق منغمسا في اشياء عديدة ..لماذا عين الحمادنة ..؟؟ هل ساستطيع العيش في قرية جبلية لا حياة فيها ؟؟ وكنت انظر الى السماء …نظرة امل ورجاء وخوف ..وكانت جغرافية السماء محجوبة عنّي بسحاب ليس كالسحاب الذي اعرفه … سحاب اسود اللون وكأنه يحاكي ما بداخلي من الوان قاتمة ..وكان صاحب البغلة يردد دائما “ان شاء الله معوّمة”…
لا اتذكّر بالضبط كم بقينا في السفرة للوصول الى مدرسة عين الحمادنة حيث اعلمت في الاثناء قائد الرحلة ان محطتي هي المدرسة بصفتي مربّيا … وكلّ ما اتذكّره انه كان شديد الافتخار بي وهو يوصل معلّما الى قريته ..ولا يمكن لي ان انسى انه وعند الوصول الى خاتمة الرحلة رفض وبكلّ شدّة ان ياخذ اجرة نقل حمولته ..لا لأن الحمولة كانت من الوزن الخفيف جدا والتي ربّما تفاعلت معه البغلة في سيرها وزهوها ورقصها لأني لم ارهقها…. بل ربّما هي تصوّرت انها لم تحمل شيئا يذكر …. هو رفض اخذ الاجرة لانه يعتبر ذلك مهانة له ..فكيف لرجل من قرية عين الحمادنة ان يأخذ اجرة من “سيدي المعلّم” ؟؟؟ عيب وعار وقلّة رجولية …هذه الامور ليست من شمائلهم …هذه الشمائل التي بدأت تنقرض عندنا نحن سكّان المدن وحتى بعض الاماكن الريفيّة (بدا يلحقها طشّ الحضارة المزعوم) …
عند الوصول الى المدرسة استقبلني مديرها وهو رجل في الخامسة والثلاثين من عمره… سلّم عليّ بكل بشاشة واحترام قائلا ..اهلا بولد بلادي …وهذا يعني انه صفاقسي ..سي الطريقي هذا المدير الشاب سألني عن تجربتي في التدريس ..عن موقف المتفقد منّي دون ان يعلّق وكأنه كان يردّد في داخله “اش جيّبك لهوني” …كنت اعرف حسب ما يرويه الزملاء انذاك ان تعيين معلّمين في المدارس النائية يعني نقلة عقاب… وعندما حللت بمدرسة عين الحمادنة تساءلت ..لماذا اُعاقب ؟؟ الم يقل سي الديماسي انه سيظلمني اذا منح لي ما استحق كعدد في سنتي الاولى …؟؟؟ كانت هذه الاسئلة واخرى تغمر مُخيّخي وترهقه … ولم استفق الا وسي الطريقي اعدّ العشاء …كسكسي بالخرشف… (الخرشف هي نبتة برية توجد في تلك الجهة) …انغمست في الاكل بعد يوم كامل دون غذاء …ورغم اني لم اكن يوما من عشاق الكسكسي فاني اكلت وبشراهة …دخّنت سيجارتي واستلقيت على فراش اعدّه لي سي الطريقي و(غطست)… الرحلة اخذت منّي اي مأخذ تعبا جسديّا وفكريّا ..كان ذلك في حدود الساعة الثامنة ليلا ..
استفقت في الصباح على مشهد لم اره من قبل في حياتي ..مدرسة عين الحمادنة عبارة عن جزيرة تحيط بها المياه …نعم وكما قال صاحب البغلة “معوّمة”… الامطار اثناء سباتي كانت غزيرة طوفانية …واصبحت عين الحمادنة منقطعة عن تونس اعني عن كل ما جاورها …واستمرت الامطار ذلك اليوم واليوم الموالي واصبحت الامور مخيفة للغاية ..انذاك حمدت الله على اننا كنا في موقع جبلي ..كنت ارى الاودية التي تحيط بنا في هيجانها المستمر ..انها فيضانات عام 1969 التي اجتاحت كامل البلاد التونسية …. كنا في المدرسة قابعين في في بيوتنا ليلا نهارا ..ومن حسن حظّنا ان الحانوت الوحيد الموجود في عين الحمادنة كان بجانب المدرسة .فكنّا نتسوّق معه حاجياتنا الغذائية والتي اصبحت منذ اليوم الثاني لهطول الامطار محدّدة بـالسردينة المعلّبة والبسكويت …. نعم السردينة طبقنا الوحيد وناكله بالخبز …وخبزنا انذاك البسكويت …_ لا تندهشوا …الجوع يوكّل الحجر ….
ليلة اليوم الرابع من وجودي بعين الحمادنة جاء احد الزملاء وهو من سكان المنطقة ليعلن عن عزمة للذهاب غدا الى تالة لقضاء بعض الحاجيات وليستفسر عن حاجات الزملاء ..وقفزت فكرة الذهاب معه فجأة الى ذهني ..وقلت له ساكتري بغلة وارافقك الى تالة …نظر اليّ مبتسما واجاب: اما بغلة ….؟؟ ..الدنيا كلّها وديان تجري ..اشكون يغامر ببغلتو .؟؟ _ .. سألته: على شنوة ماشي انت ؟؟؟ فجاء الرد سريعا: على الكرعين ..توة ثمة كان تاكسي نمرو 11 ..وهو يعني الرجلين … همهمت قليلا داخلي ثم قرّرت: ماشي معاك على ساقيّ ….نظر اليّ بدهشة وانزعاج وقال …اشبيك يا سي عبدالكريم، راك موش في “صفاڨس” (بثلاث نقط فوق القاف) متاعكم … تحب تمشي فيها..؟؟؟ راهي وديان ماشي نشقّوها ..؟؟ نظرت اليه وقلت ..توة انا هنا حيّ زعمة .. ؟؟؟.ميّت في حبس كيف البقعة هذي والا في وادي موش كيف كيف .؟؟؟..قرأ عزمي الشديد على المغادرة فاردف ..مرحبا بيك اما راهو الامور موش ساهلة كيف ما تتصوّر ….واتفقنا على موعد …كان الموعد السادسة صباحا ..وانطلقنا …
زميلي هذه سي الهادي كان بحق غاية في الحفاظ على امانته… كنت كعصفور نحيف يحتمي بايدي سي الهادي الغليظة المتينة كلّما شققنا واديا …ربما احترامه لزميله قد يكون هو الذي منعه من حملي على كتفيه …كانت رحلة شاقة جدا ..وكنت احيانا اغمض عينيّ حتى لا يعتريني الاغماء امام المياه المنهمرة من كل صوب ..ومثّل ذلك اليوم رقما قياسيا في حياتي.. اذ انّي قضّيت اثنتي عشرة ساعة مشيا على الاقدام ..وصلنا الى “العاصمة” تالة السادسة مساء وسالت زميلي سي الهادي عن اي نزل ابيت فيه ليلتي من شدّة التعب… ضحك زميلي واعادها: يا سي عبدالكريم راك موش في صفاڨس متاعكم _ عرفت لتوّها ان لا نزل على الاطلاق بتالة ..سالته اين سننام اذن؟ قال: في الحمّام ..دخلنا الحمّام لا لنستحم فالمُهلك مثلي تعبا لا يقدر اطلاقا حتى على الاستحمام…المهم يغم راسو ويتمرقد…وكانت ليلة ليلاء عاث فيها وفينا البق والقمل كما اشتهى …
في الصباح تناولنا قهوتنا بشهية كبرى (ايييه احيانا القهوة تصبح لوكس اللوكس) وخرجنا معا ..قال لي سي الهادي الان ساطلعك على سوق تالة وعلى كل ما تريد معرفته فيها …مسكت يده وسلمت عليه بحرارة ورجوته ان يبلّغ تحيّاتي وشكري الى كل زملائي بالمدرسة… واعلمته اني ساغادر دون رجعة ولن اعود الى عين الحمادنة ليس رفضا منّي لاكون في قريتكم الجميلة ولكن المشكلة مبدئية بالنسبة لي لان نقلتي الى مدرستكم اعتبرها تعسّفية …كان سي الهادي في قمة الدهشة ثم علّق بقوله: واش ماشي تعمل وين ماشي؟ … قلت له ساذهب الى القصرين لاقدّم استقالتي من التعليم للادارة الجهوية هناك ..لم يصدّق، رجاني ان لا اتسرّع ..فاقفلت الحوار بـ” يعمل الله”… تعانقنا وقلت له لن انسى جميلك في رحلة الامس، لن انسى …
كانت الساعة تشير الى الثامنة صباحا وبعض الدقائق عندما امتطيت سيارة اللواج الى القصرين ..وصلت إلى مندوبية التعليم واعلمت سكريترة المدير الجهوي برغبتي في لقائه …لم انتظر قليلا حتى استقبلني ..كان وجهه متجهّما وكان عظيم الجثّة جاحظ العينين ..اعلمته بانه وقعت نقلتي الى عين الحمادنة بعد سنة بسبالة اولاد عسكر وان نقلتي هذه لا يمكن وضعها الا في خانة العقوبات وها انا استفسر عن عقوبتي … لم يتركني اكمل اطروحتي، وردّ وبكل صلف: شوف يا ولدي هاكة اش ثمة الكلكم ماذابيكم المدرسة بحذا داركم …ما عنديش حل تحب تقرّي في عين الحمادنة مرحبا، ما تحبّش شد داركم ..لم احاول البتّة محاورته ..انا لم ارتح لشكله منذ اول وهلة فكيف ارتاح لمنطقه ..وخرجت من مكتبه الى السكريتيرة طالبا منها ورقة بيضاء ..جلست على مكتب عون الاستقبال بعد اذنه وشرعت في كتابة استقالتي ..كانت استقالة في بعض الاسطر عبّرت فيها عن غضبي من المظلمة التي سُلطت عليّ وعن عدم رغبتي في المواصلة في الانتماء الى نظام تربوي جائر ..امضيت استقالتي وهممت بالتوجه الى مكتب المدير الجهوي ثانية ..في تلك اللحظة احسست بيد تربت على كتفي واستدرت …انها يد سي الديماسي …
اقدااااااااااااااااااااااااااار …
سلّم عليّ بحرارة وسألني: اش تعمل هوني ..اليوم انطلاق السنة الدراسية المفروض تكون في مدرستك …نظرت اليه بعين متألمة واجبت: نعم المفروض …ولكن يبدو ان بين المفروض والمنشود والموجود هنالك عوالم شاسعة ..اندهش وسأل: ما الامر ؟؟؟ اعلمته يتعييني بعين الحمادنة وبأن ذلك عندي هو نقلة عقاب وبأنه استنادا لمواقف متفقدي والذي هو انت سي الديماسي، انا لا استحق نقلة العقاب هذه… ولذلك ها انا اقدّم استقالتي للمدير الجهوي من مهنتي التي شرفتها ولم تشرفني بل عاقبتني ..اخذ سي الديماسي ورقة الاستقالة منّي… قرأها ثم اشار عليّ بالانتظار ..دقائق معدودة وخرج سي الديماسي وبيده ورقة عودتي لمدرسة سبالة اولاد عسكر واضاف: باش تعرف اني ما ظلمتكش و اني وقفت ضد قرار من ظلمك ..برّة ولدي ربّي يعينك ونحبّك كيف ما نعرفك …وعدت الى سبالة اولاد عسكر ..
هل فهمتم ما معنى كلمة _اقدااااااااااااااااااااااااااااااااار التي اردّدها دوما .. هل هي من تصنعنا ؟؟ ….وللاقدار ادوار اخرى عديدة في ورقات يتمي القادمة … ..

تصفح أيضا

عبد الكريم قطاطة:
في الفترة ما بين 2004 و 2010 لم تكن الاحداث التي عشتها كمّيا كثيرة وها انا امرّ على ابرزها لاخلص بعدها لقهرة الربيع العبري…

عودة لسنة 2004… في اواسط تلك السنة بدأت رحلة تعاقدي مع جامعة صفاقس كخبير مدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا… صاحب المقترح هو مدير معهد الملتيميديا انذاك الزميل والصديق “عبدالحميد بن حمادو” الذي أعرفه منذ درسنا معا في تعليمنا الثانوي بمعهد الحيّ… سي عبدالمجيد فكّر في انشاء مادّة للعلوم السمعية البصرية ببرامج بعض شعب المعهد…تحادث في الموضوع مع زميلي الكاميرامان انذك مفيد الزواغي فأشار عليه بالاتصال بي وكان ذلك… وانطلقت مسيرتي كمدرّس لهذه المادة لمدة عشر سنوات بعد ان طلبت ترخيصا في الامر من رئاسة مؤسسة الاذاعة والتلفزة وتحصلت عليه، شرط ان لا يؤثّر ذلك على واجباتي المهنية… ومنين يا حسرة ؟
في وحدة الانتاج التلفزي كنا نعيش البطالة الدائمة ونتقاضى على ذلك رواتبنا ومنح الانتاج ايضا… وكان كلّما عُيّن مسؤول جهوي أو وطني جديد، قام بزيارة اذاعة صفاقس للتعرّف على احوالها وطبيعيّ جدا ان يزوروا وحدة الانتاج التلفزي… وكنت مطالبا كرئيس مصلحة الانتاج ان استقبلهم وان اقدّم لهم بسطة عن الوحدة وعن انتاجها… وكنت دائما اردّد نفس الاسطوانة التي كم اقلقت المديرين الذين تعاقبوا على رأس اذاعة صفاقس… كنت اقول لضيوفنا الاعزاء (اعني المسهولين): وحدة الانتاج التلفزي فيها كلّ شيء الا الانتاج، وبقية التفاصيل تأتيكم من مديري!…
مقابل ذلك كانت علاقاتي مع منظوريّ في مصلحة الانتاج التلفزي على غاية من الودّ والاحترام … بل ذهب بي الامر الى إعلامهم انه بامكان ايّ منهم ان يتغيّب لكن عليه يكتب لي مطلبا مُسبقا لرخصة غياب دون ذكر التاريخ، احتفظ به عندي حتى يكون وثيقة استظهر بها اداريّا كلّما اقتضى الامر وذلك لحمايتهم وحماية نفسي… وفلسفتي في ذلك تتمثّل في الآتي: مالفائدة في حضور موظفين لا شغل لهم ؟ خاصة انّ بعضهم يقطن عشرات الكيلومترات بعيدا عن صفاقس المدينة… ثمّ اليس واردا للموظّف الذي لا شغل له أن يصبح شغله الشاغل احداث المشاكل مع زملائه ؟ اذن مخزن مغلوق ولا كرية مشومة… لكن في المقابل واذا اقتضت مصلحة الوحدة ان يعملوا 16 و 18 ساعة ما يقولوش (احّيت)…
تلك العلاقة التي وضعت اسسها بيننا كرئيس ومرؤوسين رأيت عمقها يوم مغادرة الوحدة للتقاعد… يومها أحاط بي زملائي ورفضوا رفضا قاطعا ان اكون انا من يحمل بنفسه وثائقه وكلّ ماهو ملكه الخاص الى منزله… وحملوها عني جميعا وبكلّ سعادة مخضّبة بدموع العشرة… والله يشهد اني وطيلة حياتي كمسؤول سواء اذاعيا او تلفزيا لم اقم يوما باستجواب كتابي لايّ كان… ولم اخصم لايّ كان من اعدادهم في منحة الانتاج وفي الاعداد المهنيّة…
اذن وعودة الى علاقتي بجامعة صفاقس كمدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا ثم بعده بسنتين بمدرسة الفنون والحرف، حاولت ان اعطي دون كلل لطلبتي… كنت قاسيا معهم نعم… ولكن كان ذلك بحبّ لا يوصف… وبادلوني نفس الحب ان لم تكن دوزته اكبر … كنت الاستاذ والاب والاخ والصديق و كنت ايضا صدرا اتّسع حتى لاسرارهم الخاصة… رغم اني كنت ايضا بوليسا في امور الانضباط وتقديس العلم… وطلبتي الذين هم في جلّهم اصبحوا اصدقاء بفضل الفيسبوك شاهدون عليّ… ولعلّ من الاوسمة التي افتخر بها ما حصل في نهاية السنة الجامعية سنة 2012…
إذ ككلّ نهاية سنة جامعية يقع توزيع شهائد وجوائز للطلبة المتفوقين في جميع السنوات… وفي اخر القائمة سمعت من منشط الحفل يذقول: (الان الجائزة الاخيرة في هذا الحفل وادعو الاستاذ عبدالكريم قطاطة لتسلّمها)… فوجئت حقا بالاعلان… وكانت لوحة رُسمت عليها زيتونة وكُتب فيها (شهادة تكريم للاستاذ عبدالكريم قطاطة نظرا إلى عطائه الغزير لطلبة المعهد)… واعذروني على اعادة جملة تُريحني كلما ذكرتها وهي… “وبعد يجي واحد مقربع ويقلك شكونو هو عبدالكريم اش يحسايب روحو ؟؟” … بل تصوروا انّ زميلة من اذاعة صفاقس بعد حادثة ذلك الفيديو المنحوس حول من هم اعلام العار في نظري سنة 2012 (رغم انّي صححت فيما بعد ماجاء فيه ووضحت انّي لم اعمم وختمت بالاعتذار .. لكن وقت البعض يبدا يستناك في الدورة مهما وضحت وكتبت واعتذرت يكون موقفه”قاتلك قاتلك”)… تلك الزميلة ذهبت الى ادارة مدرسة الفنون الجميلة وطلبت منها فسخ عقدي معهم لاني لا اشرّفهم… وضحكوا منها وقالوا لها فيما قالوا: هاكة موش فقط استاذ الطلبة، سي عبدالكريم استاذنا وشرف لنا ان نكون تلاميذه… ورجعت المسكينة الى منزلها خائبة مذهولة مهمومة وغبينتها غبينة، المغبونة… وانا مسامحها…
قضيت 10 سنوات بمعهديْ الملتيميديا ومدرسة الفنون الجميلة وحتما ساعود الى اشياء عديدة حدثت فيها خاصة بعد قهرة جانفي 2011…
الحدث الاخير سنة 2004 كان دون جدال كُرويّا… تتذكّرو نوفمبر 2004 ..؟؟ وبالتحديد يوم 20 منه ؟؟ تتذكّروا هاكي التشكليطة السافيّة ؟ تتذكّرو زوبا وهو يمشكي في ملاعبية المكشّخة واحد بعد واحد ؟ تتذكّروا كيفاش علّق تيزييه في سقف الملعب ؟؟ انّه نهائي الكأس الشهير… وانه يوم سقوط امبراطورية فرعون الكرة ولد شيبيوب… وانا نعرف انو بعض المكشخّين ماشين عاد يسرسطو ماجاء من سور في كتابهم .. عن بطولاتهم .. عن القابهم وتونس بكلّها تعرف عن محصولهم في الشمبيونزليغ وطبعا ماشين يذكروني بهدف بوتريكة ويختمو بـ (ما تكلموناش احنا ماشين لكاس العالم في امريكا).. لاصدقائي المكشّخين الباهين فيهم وهم قلّة لانّ اغلبهم لا يورّيك ولا يفاجيك .. فقط لاصدقائي نحب نسألكم سؤال وحيد ..توة هدف زبير السافي في هاكي الفينال موش سميّح موش شيء يعمل 5555 كيف؟
موش تقول الواحد صيفا يبدا في يدو مشموم ياسمين وطاولة معبّية بالبطيخ والدلاع والهندي وما ننساوش الفقوس .. وهي تصير كورة من غير فقوس ؟…ويعاود يتفرّج عليه ويعشق العزف متاع زوبا ورقصتو كيف انتوني كوين في زوربا اليوناني ؟ وفي الشتاء يبدا قاعد تحت كوسالة وكاس تاي منعنع ويعاود يتفرّج على زوبا وهو يعزف اشي الحبّ كلّو واشي انت عمري .. واشي انساك ده كلام ويختمها ب ميا موري … نعرف اصدقائي المكشخين الباهيين يعرفوني بليد وماسط وخايب وقت نحكي على مكشختهم ..اما يدبّرو روسهم قلتلهم حبّوني؟… واذا حبوك ارتاح والله… دعوني الان اسرّ لكم بما لا يعرفه اغلب محبّي الفريقين حول ذلك النهائي… واصدقائي ومهما كانت الوان فرقهم يعرفون جيّدا انّي صادق في ما اقول والله شاهد على صدقي…
قبل خوض النهائي كان لنا لاعب معاقب (وسام العابدي)… ولد شيبوب كلّم هاتفيا انذاك احد مسؤولي النادي وقللو نقترح عليك اقتراح لفائدة الزوز جمعيات… قللو نسمع فيك هات… قللو تهبّط وسام يلعب الطرح وانا نقول للملاعبية يسيّبوا الطرح… تربح انت وتعمل شيخة انت وجمهورك وانا نعمل احتراز عليكم وناخذ الكاس… طبعا المسؤول رفض وبشدّة… ولد شيبوب قللو راك ماشي تهبط من غير قلب دفاعك وسام… تعرف اش معناها ؟ معناها ماشي انييييييييييي………… بزوز .. المسؤول ظهر حتى هو قبيّح وقللو .. انا منيش مهبّط وسام واحنا اللي ماشي انننننننننني ……… بزوز … وكلمة عليها ملك وكلمة عليها شيطان ..ولكم ان تعمّروا الفراغ وتربطوا بسهم … لكم حرية التعليق مهما كانت الوان فرقكم لكن مع ضوابط الاحترام …السبّ والشتم والكلام البذيء لا مكان لها في صفحتي! …
ـ يتبع ـ

جور نار
لا تخرّبوا سور وسقف الوطن… فنحن غدا من سيدفع الثمن!
نشرت
قبل 3 أيامفي
15 أبريل 2025من قبل
محمد الأطرش Mohamed Alatrash
محمد الأطرش:
كنتُ بصدد وضع اللمسات الأخيرة على مقالي الأسبوعي في جلنار، حين بلغ مسامعي صراخ وألم ووجع عائلات من قضَوْا تحت أكوام حجارة سور معهد المزونة، رحمهم الله.

تمرّد القلم بين أصابعي، ورفض إتمام ما بدأه والانصياع لأوامري، وما أكتب، معلنًا الحداد على من ماتوا، ووُئدت أحلامهم تحت حجارة سور جريح ينزف دم سنوات الإهمال والتخلي.
سور أصابته لعنة “باركينسون” تشريعاتنا المهترئة، فارتعش وجعًا. سور لم يرأف بحاله أحد من القائمين على شؤون ترميمه، وترميم ما يحيط به. سور سال دم جراحه، وأسال دم من مرّوا بجانبه وأمّنوه على أرواحهم. سور توجّع وتألم طويلًا، وبكى… ولم يسمع بكاءه أحد، حتى أبكى أمهات بعض من اعتادوا المرور بجانبه… سور تآكل، وبانت عورته، فغضب وانهار على من كانوا يمرّون بجانبه، يتكئون عليه، ويستظلون به من غضب الشمس وثورة الأحوال الجوية، وهم في طريقهم لطلب العلم.
الغريب ما قرأته بعد الفاجعة، وما سمعته من صراخ من خرجوا يهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور. أغلب من خرجوا علينا يولولون، يطالبون بمحاسبة من تسبب في الفاجعة، ويطالبون بتحميل المسؤولية لكل من قصّر في أداء واجبه أو غفل عنه.
هكذا نقفز على كل وجع ومأساة، لنواصل الدعوة إلى الانتقام من كل ما سبق، ومن كل من سبقونا في تحمّل مسؤولية خدمة هذا الشعب… هل يجب أن ننتقم ونثأر بعد كل فاجعة أو فشل ممن سبقونا في تسيير شؤون مؤسسات البلاد؟ هل يجب أن نشيْطن كل من سبقونا في خدمة الوطن بعد كل وجع يشعر به جسد هذه الأمة؟ ألا يجدر بنا أن نعتبر مما حدث، ونبدأ بإصلاح حالنا وأحوالنا؟
أتساءل: ألا يتساءل أحدكم لماذا كل هذا العزوف عن تحمّل المسؤولية؟ أليس للفصل السادس والتسعين من المجلة الجزائية دور كبير في هذا العزوف، الذي أفرغ مؤسساتنا من كفاءات كنّا نفاخر بها، ونطمئن بوجودها على حالنا وحال مؤسساتنا وحال البلاد؟ ثم، أليس للفصل الرابع والعشرين من المرسوم عدد 54 نصيب مما نحن فيه، ومما عشناه ونعيشه؟ فمن كان يرى في السور عيبًا وخطرًا، لن يكتب عن الأمر، ولن يُنبّه لخطورته، خوفًا من أن يُتهم بنشر أخبار زائفة وإشاعات كاذبة…
ألم نغرق اليوم في وحل الفصل السادس والتسعين، ورعب المرسوم الرابع والخمسين؟ لماذا تنشر تشريعاتنا وبعض قوانيننا الخوف والرعب في نفوس كفاءاتنا، ومن يملكون القدرة على تحسين أوضاعنا؟ أيمكن للأمم أن ترتقي وهي تعيش تحت وطأة الخوف والرعب من قوانينها؟ كيف نطلب من بعضنا خدمة الوطن وهم يعيشون رعب القانون، ورعب الحقد، ودعوات الإقصاء والثأر والانتقام من كل قديم، وكل مخالف في الرأي، وكل من لا يعلن لنا البيعة، ولا يقف صارخًا “مزغردًا”، مصفقًا لأخطائنا، ملمّعًا لفشلنا، داعيًا لنا بطول العمر وجزيل الثواب؟
يا من تستمتعون بوجع خصومكم، ومن لا تتفقون معهم، ومن تركوا أثرًا طيبًا وانتصروا عليكم بما حققوه وأنجزوه…الوطن أمانة بين أيادينا جميعًا، فجنّبوه الفتنة، وجنّبوه الأحقاد، وحافظوا على سور الوطن…ولا تخربوا سقفه، فإن انهار سقف الوطن، فنحن، نحن الشعب، من سيدفع الثمن… نعم… نحن الشعب من سيدفع الثمن.


عبد الكريم قطاطة:
في جويلية 2004 انتهت حقبة اذاعة صفاقس مع السيّد عبالقادر عقير رحمه الله وغفر له وعُيّن السيد رمضان العليمي كبديل له وتحديدا يوم 12 جويلية…

والسيّد رمضان العليمي شغل قبل تعيينه على رأس اذاعة صفاقس منصي كاتب عام للجنة تنسيق “التجمع الدستوري الديمقراطي” (الحزب الحاكم وقتها) بقفصة ثمّ مديرا لاذاعة تطاوين… وكعادة ايّ مدير عند تسميته اجتمع بالمسؤولين في الادارة بقاعة الاجتماعات المحاذية لمكتبه… ليعبّر وكأيّ مسؤول عن امتنانه لرئيس الدولة صانع التغيير لتشريفه بتلك المهمة… وعبّر وكسائر المديرين عن سعادته بوجوده في صرح اذاعتنا ونوّه بتاريخها وبالسواعد التي عملت فيها… ودون الدخول في تفاصيل اخرى تعرفون جيّدا تلك الخطابات الممجوجة التي يلقيها المسؤولون في مثل تلك التعيينات…
بعد ذلك تعرّف على المسؤولين فردا فردا… ولمّا حان دوري نظر اليّ السيّد رمضان العليمي وقال: (سي عبدالكريم اشكون ما يعرفوش انه اشهر من نار على علم، وهو بالذات عندي حديث خاص معاه)… وانتهى الاجتماع… وبقيت انتظر ذلك الحديث معه… وطال الانتظار… وكتبت له رسالة مطوّلة لم استجدِه فيها العودة الى المصدح فالحرة تجوع ولا تاكل بثدييها… لكن كان من واجبي ان اعطيه فكرة شاملة لا فقط عن وحدة الانتاج التلفزي حيث اُشرف فيها على مصلحة الانتاج، بل عن اذاعة صفاقس بشكل شمولي… وذلك من خلال ما عشته وعايشت فيها مع زملائي من احداث ناصعة البياض واخرى رماديّة حتى لا اقول سوداء…
هذه المراسلة كانت بتاريح 17 سبتمبر 2004 اي بعد شهرين و5 ايام من تعيينه… وها انا اختار الفقرة الاخيرة من مراسلتي الطويلة علّها تًعطي فكرة واضحة عن هدف تلك المراسلة حيث خاطبته بالآتي: (اخي الفاضل… انّ غيرتي على هذه الاذاعة هي وحدها التي جعلتني اكتب اليك فانا لا اطلب برنامجا او فضاء او ما شابه ذلك… ولكنّ الخطر الكبير يتمثّل في عديد الاسماء التي لا يمكن ان تكون امام المصدح وفي عديد البرامج التافهة تصوّرا وانجازا… وفي بعض الاشخاص الذين لا يملكون الحسّ الاذاعي ولا الكفاءة ومع ذلك يديرون امور هذه الدار على هواهم… اخي الفاضل احببت ام كرهت… الآن انت مدير هذه الدار وقدرك ان تعيد لها هيبتها وجمهورها واشعاعها… وهيبتها لن تعود الا من خلال تطبيق القانون ورفع المظالم … وفقكم الله لتسلّق هذه الجبال من المصاعب واعانكم على ان تكونوا كالميزان في عدالته، الذي لا يهمه ان ارتفع بالفحم او باللحم، بالتبر او بالتين… اليست العدالة هي اساس العمران ؟؟)…
السيّد رمضان العليمي كما ذكر في اجتماعه الاول بالمسؤولين وعد بحديث خاصّ معي… وانتظرت ولم يأت ذلك الحديث الخاصّ… وارسلت له المكتوب الذي حدثتكم عنه ولم يأت ذلك الحديث الخاص وها انا انتظر لحدّ اليوم وعده ولم يات ولن يأتي ولا حاجة لي بأن يأتي… لا لانه غادر الاذاعة ولست ادري ماذا اصبح اليوم وكلّ الرجاء ان يكون في صحة جيّدة مع طول العمر… ولكن لانّ الاجابة عن ذلك الوعد الذي لن يأتي جاءتني من احدى الزميلات في اذاعة تطاوين وهي بالاساس مستمعة لي منذ من البريد الى الاثير … وذلك بعد ستّة اشهر من تعيينه على رأس اذاعة صفاقس… حيث خاطبتني عبر مرسال فيسبوكي خاص بالقول: (لا تنتظر مؤازرة من السيّد رمضان العليمي… انه لا يكنّ لك الودّ وهذا عرفته عندما وددت تكريمك في اذاعة تطاوين ولكنّه عبّر بشكل مباشر انّه لا يطيب بذكرك… لكنّي كنت مصممة على تكريمك واذعن لي لكن لبس عن طيب خاطر)…
انذاك فهمت انّ الحديث الخاصّ معي لن يكون وحتى طيلة عهدته باذاعة صفاقس تحادثنا مرّتين فقط… يوم جاءني لمكتبي بوحدة الانتاج التلفزي ليسأل عن مشاكل الوحدة وندرة انتاجها… اي نعم قلبو وجعو على وحدة الانتاج… وتقولوشي عمل حاجة ؟؟ اقسم بالله وكانّه لم يسمع شيئا مما سردته له… المرة الثانية التي قابلته فيها يوم أقام حفلا خاصا لتكريمي سنة 2006 بعد احرازي على وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس الدولة… وهو يصير منو ما يحتفلش بما قرره صانع التغيير؟…
ساعود لموضوع الوسام في ورقات قادمة… سنة 2004 ايضا وبالتحديد في 30 مارس شاء قدر الله ان يحرمني وللأبد من الوجود المادّي لوالدتي عيّادة… كان ذلك يوم اثنين… ولكن في الويكاند الذي سبق يوم الاثنين 30 مارس وتحديدا يوم الاحد 29 مارس كنت والعائلة وبعض من اهلي عائدين من الساحل بعد قضاء نهاية اسبوع باحد النزل… عندما وصلنا الى ساقية الزيت طلبت من سائق السيارة ان يتوقف.. اندهش الجميع لذلك… تصوروا انّ غايتي كان اقتناء قهوة او بعض المكسّرات للسهرة… توقف اذن ونزلت من السيارة وقلت لهم (كمّلوا ثنيتكم انا ماشي لعيّادة نحبّ نطلّ عليها ونبوسها وبعد نجيكم)… اندهش الجميع… يا ولدي اش قام عليك .؟ يا ولدي غدوة امشيلها … يا ولدي الدنيا مغربت .. تي راهي امّك في ساقية الدائر وانت في ساقية الزيت… تي راهو زوز كيلومتر موش شوية… تي هات على الاقلّ نوصلوك…
تعرفوه هاكة البهيم حاشاكم اللي يحرن ؟ اللي يعرفني يعرف انو من طباعي السيّئة وقت نحرن نحرن… وفعلا حرنت وزيد قلت لهم (انا طيلة دراستي الابتدائية كنت نجي من ساقية الدائر لساقية الزيت على ساقيّ… نحبّ نمشي على ساقيّ ونعيش شوية نوستالجيا ذلك الزمن… ايّا امشيو على ارواحكم)… وتوكّلت على الله وخليتهم داهشين في ها المخلوق وفي راسو الكبير وعنادو في احدى تلك اللوحات… صدقا كان هنالك احساس رهيب بداخلي وانا اقطع تلك المسافة… ذكريات… نوستالجيا… سعادة… وحزن لم افهم مأتاه…
وصلت الى مسكن الوالد والوالدة ومعهما اختي نبيهة التي تكبرني بسنة والتي لم تتزوج لإعاقة وُلدت بها ولم تقع معالجتها في زمن كان العلاج الطبّي نادرا جدّا… والتي لازمت الوالد والوالدة طيلة حياتهما، رحم الله الثلاثة… عندما دخلت للمنزل سلّمت على سي محمد… والدي هكذا كنت اناديه لا يا بابا ولا يا بويا ولا يابّا متع جيل توّة… ووجدت اخواتي الثلاث متحلقات حول عيادة… فرحت بي عيادة وباستغراب وقلق عن هذه الزيارة في وقت بدأ الليل يسدل ستائره ونظرت لولدها وسألتني: (يا وليدي لاباس عليكم ؟)… مسكت يدها وقبلتها وقلت لها وراسك الغالي لاباس توحشتك جيت نطلّ عليك اكاهو… تهللت اساريرها ونظرت الى اخواتي وقالت: (ما يعزش بيكم انتوما الكلّ في كفّة وعبدالكريم في كفّة راهو كفّتو تغلب)… وضحك البنات وأجبن (يخخي حتى تقوللنا؟..نعرفوا نعرفوا)… اعدت تقبيل يديها وبشكل جارف، لكأنّ القدر كان يهمس لي… اشبع بيها اليوم لانّها غدا ترحل…
في الغد وانا في مكتبي وكانت الساعة تشير الى الثالثة ظهرا هاتفني احدهم (لم اعد اذكر من هو) وقال لي: امّك مريضة وتحبّ تشوفك… ووجدتني بالنهج الذي تقطن فيه عيّادتي وسي محمد… وتسمّرت ساقاي عن المشي… سيارات رابضة امام المنزل… هذا يعني انّ عياّدة …. نعم دخلت وسالت اخوتي متى ؟ كيف ؟ بالامس كانت في صحة جيدة .. ماذا حدث ؟ لماذا لم تخبروني بما حلّ بها ؟… اجابتني إحداهنّ وقالت… كنا معها نتجاذب اطراف الحديث كما تعرفنا وفجأة قامت وقالت: (صلاتي ابجل من حديثكم سيّبوني نعطي فرض ربّي)… اقامت الصلاة ركعت ثمّ سجدت ثمّ هزّ ربّي حاجتو… وهي ساجدة…
دخلت فوجدتها مسجّاة في لحافها… دلفت اليها بهدوء لم ادر مصدره… رفعت الغطاء عن راسها… قبلت جبينها و قرات عليها نزرا قليلا من سورة البقرة (وبشّر الصابرين الذي اذا اصابتهم مصيبة) الى اخر الاية واعدت تقبيل جبينها و تقبيل يدها الباردة … والتي هي في برودتها وقتها كانت اشدّ حرارة من وهج الصيف في صحرائنا الكبرى… ورفعت يديّ الى خالقي وقلت (يا ربّي يجعلني كيفها)… لقد اكرمها الله بتلك الموتة الرائعة واستجاب لدعوتها الدائمة… يا ربّي يجعلني نهيّر في الفرش ونهيّر في النعش… ولأنّ الله قال في كتابه العظيم، سورة غافر آية 60: (ادعوني استجب لكم) واعاد نفس المعنى في سورة البقرة الآية 186، فالله اكرمها بان لا تقضّي حتّى يوما واحدا مريضة في فراشها…
الحمد لله اوّلا على قضاء الله… الحمد لله ثانيا على انّي نفذت وصيّتها لي بتلحيدها يوم دفنها… كان ذلك بعد اذان صلاة المغرب في المقبرة التي كنت اخاف من المرور بجانبها طيلة حياتي ليلا او نهارا… ولكن واقسم لكم بالله عندما ذهبت لتلحيدها في تلك الساعة، تحوّلت المقبرة امامي الى نور على نور… والحمد لله ثالثا انها رجتني في حياتها الاّ انقطع عن زيارة قبرها بعد وفاتها، وان احكي لها واطمئنها عن كل ما يجري في عائلتي…. وعائلات اخوتي… ووعدتها ولا زلت عند وعدي…
رحم الله عيّادة وابي واخوتي واهلي واصدقائي وزملائي… ورحم الله كلّ امواتكم واطال الله عمركم ومتعكم بالصحة والسلام الروحي …
ـ يتبع ـ


بعد أن بدأت تيأس من حل بين موسكو وكييف… هل تنسحب الولايات المتحدة من مساعي السلام؟

في قصف عنيف على منزل عائلتها… استشهاد “عين غزة”، المصوّرة الصحفية فاطمة حسونة

العثور على د. زكريا بوقيرة متوفيا بمنزله

ورقات يتيم… الورقة 115

انقطاع شامل للكهرباء… جزيرة أمريكية، تغرق في الظلام لعدة أيام
استطلاع
صن نار
- صن نارقبل 16 ساعة
بعد أن بدأت تيأس من حل بين موسكو وكييف… هل تنسحب الولايات المتحدة من مساعي السلام؟
- صن نارقبل 17 ساعة
في قصف عنيف على منزل عائلتها… استشهاد “عين غزة”، المصوّرة الصحفية فاطمة حسونة
- اجتماعياقبل يوم واحد
العثور على د. زكريا بوقيرة متوفيا بمنزله
- جور نارقبل يومين
ورقات يتيم… الورقة 115
- صن نارقبل يومين
انقطاع شامل للكهرباء… جزيرة أمريكية، تغرق في الظلام لعدة أيام
- صن نارقبل يومين
الاحتلال يستحوذ على 30 بالمائة من غزة… ليحوّلها إلى “طوق أمني”
- صن نارقبل يومين
مقترح جادّ أم استفزاز؟… ترامب يعرض أموالا على المهاجرين الذين “يطردون أنفسهم بأنفسهم”!
- اقتصادياقبل يومين
تحديد القطاعات الواعدة وإنجاز المشاريع الخاصة في ندوة