تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم …الورقة رقم 5

نشرت

في

Coloriage de printemps occupez les enfants avec un dessin mignon à imprimer et colorier

عبد الكريم قطاطة:


…. ولأن الذاكرة مازالت تختزن والحمدلله بعض ما عشته في طفولتي قبل الانتقال الى التعليم الثانوي فها انا اعود الي مخزونها …

عبد الكريم قطاطة

عامل الوقت في ذلك الزمن كان مختلفا جدا عما نعيشه اليوم …فاذا كان الواحد منا في عصرنا هذا يتصارع يوميا مع الوقت وهو يجري ما يلحق، فان طفولتنا كانت انذاك تعيش وقتا وتوقيتا آخرين فلاهو غرينتش ولاهو مكة المكرمة ولا هو القدس … اليوم في ايامنا انذاك كان بدهر ….الى حد اننا نستغرب من المعلومة التي تقول انه يساوي 24 ساعة …وعلى حد تعبير سعيد صالح في مدرسة المشاغبين (يااااااااه السكة طويلة اوي) … كنا نلعب كثيرا و نسهر طويلا وننام قليلا والاهم كنا نقلق (هلبة) … كانت العابنا بدائية جدا، زربوط او كرة مصنوعة من قراطيس وملفوفة بالحبال، او “العفاريت” المصنوعة من ورق علاوة على العاب الفتيات …البرتيتة …بيت الحارة …والخماس … والقفز على الحبل _…

وكان الزمن ايضا مختلفا في فصوله فالشتاء كان شتاء بحق …الاصابع تزرقّ من صقيعه … والشفاه ترتعش من زمهريره وامطاره رغم تدلعها في النزول واحيانا ياتي عام يسميه الآباء (عام الزمّة) اي الازمة… وعند الهطول كنا نهزأ بامطاره وبرده وعواصفه وقل ان تجد الواحد منا مصابا بانفلونزا … كنا (جنون) الله يعافيك، والمقولة لامهاتنا …لكن المقلق في مطره تعاملنا مع غديره الذي يعوض البحر …لم نكن نصل الى حد السباحة فيه ولكن كنا لا نرحمه ونحن نشتت ماءه بارجلنا حفايا، او حسب ما يقول عمي رحمه الله (لابسين صباط القدرة) باعتباره قضى طول عمره يمشي حافيا ويحمل صنداله تحت ابطه _ ليدخره للمناسبات _ وهو في ذلك يجسد المثل الشعبي (في ساقي ولا في الصباط) …

المقلق اذن في علاقتنا الطربية والراقصة بالغدير اننا لا نكاد نعود الى عتبة الحوش حتى تنهال الاصوات المستنكرة لحالتنا الآية في النظافة …اجسادنا وادباشنا هي اشبه بلوحة زيتية تجريدية لا تفهم كوعها من بوعها (وانا لحد هذه الساعة غبي جدا في استيعاب ذلك النوع من الرسوم) …الله غالب احسن ما رسمت في حياتي شلاكة بالية في الثانية ثانوي شكرني عليها استاذي الرسام الكبير الراحل ابراهيم الضحاك … ولست متأكدا انه يومها يمتلك كل مداركه لانه كثيرا ما يدرسنا وهو (تيلت) رحمه الله وغفر له …. كان جميع نساء سكان حوشنا وكأنهن ينتظرننا في الدورة لشن هجوم عنيف علينا ونحن في عتبة الحوش …آش هالسحاق ..؟؟؟؟… خدامة عندكم احنا انتوما توسخو واحنا انظفوا …جهدنا طاح في جرتكم ! …

وفي الحقيقة كانت امي وخالتي ترأسان فرقة الصياح والتأنيب وكانت اختي الكبرى وبنات عمي وخاصة الكبرى رحمها الله، لا يتركن الفرصة تمر حتى يقمن وعلى احسن وجه بدور المجموعة الصوتية لترديد مآثر منظومة مقاومة الفساد …وكأنها فرصة سانحة جدا للانتقام من مجتمع رجالي لم يعترف يوما بحقوقهن، والشماتة بادية على وجوههن … هذا من جانبهن اما من جانبنا وبعد وعيد وتهديد بطريحة من عند الوالد او العم او بحكان الفلفل في الشفاه، او الكي بالنار رغم ان الواحدة منهن كانت تردد دوما (ما يحرق بالنار كان العزيز الجبار) … بعد كل تلك المواويل كنا متى عاد المطر للنزول و عاد الغدير للتدوير، نعود لعادتنا …ربما لان الفراغ القاتل، يعمل بعمايلو … او ربما ايضا لايماننا بانهن بقدر ما هن بارعات في التهديد والوعيد نظريا بقدر ما هن غير قادرات على الدروس التطبيقية . وهو نفس المنطق قياسا الذي فرضته بعد سنوات على طلبتي ….اجبارية الحضور في الدروس النظرية كما الدروس التطبيقية تماما، اذ من خور النظام التعليمي ان يبيح للطالب الحق في التغيب عن النظري مقابل اجبارية الحضور في التطبيقي …؟؟؟ والخور يتمثل عندي في: كيف لأي متعلم وفي اي ميدان ان يتغيب في الدرس النظري ؟؟؟…. فصانع النجار مثلا عليه في البداية ان يتعلم كيف يمسك المنشار ويطوع حركته، خوفا من ان يقص الاصبع عوضا عن الخشب …. منطقي جدا ان يمر بعده الى التطبيقي وبكل حذر ….

هذا شتاؤنا … خريفنا لم يكن يختلف كثيرا عن الشتاء في تفاصيل تفاعلنا معه ….في الربيع تختلف حياتنا …الربيع حامل كل انواع الزهور البرية وخاصة البوڨرعون …. الربيع الربيع حقا … لان ربيعنا الان في المدن لا زهر فيه ولا فراش ولا نحل …ربيعنا منذ سنين اصبح باهتا ثقيلا …ولان كل الغابات التي تحيط بصفاقس تربضت واصبحت جزءا من المدينة تعتمها الحجارة ويصقل ترابها الاسفلت ويزينها تلوث السيارات ويدمرها شجرا وحجرا وبشرا … التلوث الصناعي بداية من °السياب °ووصولا الى الحي الصناعي ببودريار … فكيف لزهر ان ينبت وكيف لفراشة ان تحلق وكيف لاسراب الطيور من الكانالو الى العصفور الحيطي ان تغرد وحتى اسراب الخطاف هاجرت بلا رجعة وهجرتنا تلك التي كانت تنور سماءنا والتي كنا نصطاد الواحد منها لندهن راسها بزيت الزيتون راجين ان نتبرك بها وهي تعود في رحلتها الشتائية الى الكعبة فتحمل سلامنا الى بيت الله …هكذا كان يقال لنا …

كنا نقضي آخر الاسبوع في اصطياد النحل وسجنه في قارورات مغلقة طمعا في عسله بعد سكب قليل من السكر الذي يخيل لنا انه سيحوله الى عسل مصفى فيه شفاء لنا …. ثم نتفاجأ بموته ونحن نجهل اننا حرمناه من الاوكسجين وان العسل لا يساوي شيئا امام الاوكسجين تماما كما لا يساوي الكلام المعسول شيئا من سياسيي “الغورة” امام اوكسجين هيبة الدولة المفقودة وانتشار الفساد والمفسدين، وعلى رأس قائمتهم سياسيو الافلاس الثوري في محاولة منهم لتغطية عين الشمس بالغربال على ثرائهم غير المشروع …ساعود اليهم في ورقات قادمة ولنعد الى نحلنا …

كنا ننتظر كل يوم ان نستفيق على (جابية) من العسل البلدي الحر …لكن الادهى اننا لم نكتشف ان ما اصطدناه لم يكن نحلا الا بعد ان عشش في احدى الطوابي (جمع طابية) وهي حواجز رملية عالية تفصل بين الفرد وجاره، مغروسة في قممها بتاجها الذهبي أشجار سلطان الغلة (الهندي) في احداها عشش سرب من النحل … انذاك فقط ونظرا إلى التحذيرات الشديدة اللهجة والحازمة من قبل الجميع بعدم مشاكسة مملكة النحل لأن ردة فعل مواطنيها سيكون لاذعا جدا … يااااااااااااااه كم كنا بحق اطفالا …… هذا هو الربيع الذي نتغنى به حقا في احدى محفوظاتنا بالابتدائي (ورد الربيع فمرحبا بوروده … وبنور بهجته ونور وروده) … وللتوضيح ورود الاولى هي مصدر ورَدَ … وورود الثانية هي جمع وردة ….بايجاز عبدكم اليتيم وبكل الم اليتم …

الربيع في مدينتي اصبح ماضيا …ولانني متعلق وبشدة بصباي وبكل ما فيه من فرح وترح فاني وتمسكا بالربيع (باستثناء الربيع العربي اللعين) أنتقل كل سنة الى ما ابعد من 30 كلم عن مدينتي حتى اعانق الربيع في الحقول وا أشتمّ رائحة الارض واعشق زهوره البرية وزهور الاشجار وفي مقدمتها زهور شجر اللوز (تحفة إلهية سبحان الخالق _) وهي تعلن عن ولادة (كرش) اخرى من ثمارها متحدية تحديد النسل ….. كمممممم افتقدنا ها وكممممم اشتقنا لنسلها في مدننا الرمادية الباهتة ….

في الصيف كانت لنا حكايا اخرى اذ انه وبعد توديع المدرسة ومعلميها في آخر شهر جوان ونحن نقدم لهم هدايانا البسيطة اعترافا بالجميل (ڨازوز المسدي االابيض او ڨازوز بوڨا وبعض قطع البسكويت) … وبعد ان نغني تلك الانشودة التي كانت تبكينا (الى اللقاء الى اللقاء يا ايها الخلان) او (سوف اللقاء يجمع شملا بعد الفراق) …هو يوم لا ينسى …وكيف لنا ان ننسى ايام العز في التعليم والتربية بدءا من (مابك؟ هرب طاهر بكرتي … هذا مفتاح بابك …او لسعت حليمة عقرب فجعلت تبكي وتقوا او او او ( كتاب اقرأ سنة اولى ابتدائي) … مرورا بـ (بدويّ في العاصمة) و (الحلاق الثرثار) و (جسر الحقيقة) … وصولا الى دروس التاريخ ورواياته المثيرة وكأننا في عالم علي بابا …كيف انساها وقلبي لم يزل يسكن جنبي …انهاااا قصة حبي ….

بداية العطلة الصيفية التي كانت تمتد على ثلاثة اشهر (جويلية اوت سبتمبر).هي بداية رحلة المتاعب لكبار الحوش …فالصيف انذاك يعني يوميا شمسا حارقة جدا ورمالا نارية لا يمكن الاستخفاف بها …صيفا بحق … وكان حرص والدتي على ان لا آخذ صربة شمس حرصا مرهقا جدا لي فالصيف يعني سجنا في النهار ويتواصل ليلا خوفا من العقارب …تلك العقارب التي كانت بالنسبة لحوشنا حشرات اليفة و (متعودة دايما ) على اثبات وجودها لجل متساكني الحوش يقبلاتها دون استئذان … وانقراضها الان في جل انحاء مدينتنا كان موقفا استباقيا منها لتفادي عواقب جريمة التحرش …خاصة وهي تتحرش بالجميع دون تمييز لا في السن ولا في الجنس ….ولست ادري لحد الان سبب عزوفها على التحرش بي ….نعم لست ادري كيف ولماذا زارت جميع متساكني الحوش ولم تخترني بتاتا … ربما لأني كنت (جلدة على عظمة ) …

اعود للصيف لارسم مجموعة من الاعمال القسرية التي كنت اقوم بها قتلا للفراغ (والفراغ يعمل بعمايلو كما قلنا) … كنت يوميا عشية بعد ما تبرد القايلة، اقوم بجمع الهندي بالكماشة التي تقبض على جسده وتلويه حتى يذعن لمفارقة ظلفته … تلك الكماشة تسمى °جمّاعة °بالشدة فوق الميم، هي عبارة عن عصا طويلة متوجة بقضبان حديدية مجمعة بشكل يضمن وضع (كعبة) الهندي بينها __…ثم اترك ما جمعته لاختي كي تقوم بغسله وتنظيفه من الاشواك فكيف لكريم ان يلدغه شوك الهندي؟ هكذا كانت امي تنهر اخواتي …دون نسيان الاحتفاظ بسطل منه لاقوم غدا في الصباح الباكر خوفا دائما من الشمس ومن ذبول الهندي …اقوم _ انا النحيف الهزيل _ بحمله الى ساقية الزيت وبيعه بـ 5 مليمات . وتصوروا فقط طفلا مثلي يحمل ذلك السطل الثقيل الذي يدمي الايدي النحيفة لجمع بعض المليمات وادخارها لآخر العطلة لشراء الادوات المدرسية، واعيد القول السطل ب5 مليمات …ياااااااااااااااااه الان اصبح ثمن كيلو الهندي اغلى من كيلو الموز (تفيه على الدنيا!)…….اذن تهنينا على الصباح والعشية …

وسط النهار هو حبس اجباري في البيت لتكسير ثمار اللوز الجافة بثمن بخس للغاية …الشكارة بـ 60 مليما ثم تدرجت الى 100 مليم مع مر السنوات …وكنت كلما اهم بالخروج من هذا السجن كانت امي تهددني بـ (اش عندي فيك اخرج اما راهو ثمة عربية في الزنقة)… و (عربية) تعني بدوية بخلّتها ومِلْيَتها ….ومن شدة غبائي ثم جبني كنت استجيب وبهلع كبير لتهديدها لي بالعربية، بل كنت انزوي في احد اركان البيت وكأنها شيطانة من الشياطين الداعشية …

هكذا كانت ايامي الصيفية حتى الخامسة ابتدائي، سنة بداية محاولة الافلات من قيود سجني …القيد بدأت تكسيره يوم قدم احد السكان الجدد كجيران لنا وعلى عكس كل من يقطن في حومتنا يمتلك هؤلاء السكان “دار ملاك” … رحم الله موتاهم والصحة لمن تبقى منهم والامتنان لهم ولاحيائهم جميعا بما عشته معهم وبكل ترحاب … ازمنة لا تنسى ….هذه العائلة الجديدة هلت علينا بالكنز الاعجوبة: المذياع …

يااااااااااااااااااااااااااااااااااااه تلك كانت بداية حياة اخرى ….حكاية اقدار ….

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 115

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في الفترة ما بين 2004 و 2010 لم تكن الاحداث التي عشتها كمّيا كثيرة وها انا امرّ على ابرزها لاخلص بعدها لقهرة الربيع العبري…

عبد الكريم قطاطة

عودة لسنة 2004… في اواسط تلك السنة بدأت رحلة تعاقدي مع جامعة صفاقس كخبير مدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا… صاحب المقترح هو مدير معهد الملتيميديا انذاك الزميل والصديق “عبدالحميد بن حمادو” الذي أعرفه منذ درسنا معا في تعليمنا الثانوي بمعهد الحيّ… سي عبدالمجيد فكّر في انشاء مادّة للعلوم السمعية البصرية ببرامج بعض شعب المعهد…تحادث في الموضوع مع زميلي الكاميرامان انذك مفيد الزواغي فأشار عليه بالاتصال بي وكان ذلك… وانطلقت مسيرتي كمدرّس لهذه المادة لمدة عشر سنوات بعد ان طلبت ترخيصا في الامر من رئاسة مؤسسة الاذاعة والتلفزة وتحصلت عليه، شرط ان لا يؤثّر ذلك على واجباتي المهنية… ومنين يا حسرة ؟

في وحدة الانتاج التلفزي كنا نعيش البطالة الدائمة ونتقاضى على ذلك رواتبنا ومنح الانتاج ايضا… وكان كلّما عُيّن مسؤول جهوي أو وطني جديد، قام بزيارة اذاعة صفاقس للتعرّف على احوالها وطبيعيّ جدا ان يزوروا وحدة الانتاج التلفزي… وكنت مطالبا كرئيس مصلحة الانتاج ان استقبلهم وان اقدّم لهم بسطة عن الوحدة وعن انتاجها… وكنت دائما اردّد نفس الاسطوانة التي كم اقلقت المديرين الذين تعاقبوا على رأس اذاعة صفاقس… كنت اقول لضيوفنا الاعزاء (اعني المسهولين): وحدة الانتاج التلفزي فيها كلّ شيء الا الانتاج، وبقية التفاصيل تأتيكم من مديري!…

مقابل ذلك كانت علاقاتي مع منظوريّ في مصلحة الانتاج التلفزي على غاية من الودّ والاحترام … بل ذهب بي الامر الى إعلامهم انه بامكان ايّ منهم ان يتغيّب لكن عليه يكتب لي مطلبا مُسبقا لرخصة غياب دون ذكر التاريخ، احتفظ به عندي حتى يكون وثيقة استظهر بها اداريّا كلّما اقتضى الامر وذلك لحمايتهم وحماية نفسي… وفلسفتي في ذلك تتمثّل في الآتي: مالفائدة في حضور موظفين لا شغل لهم ؟ خاصة انّ بعضهم يقطن عشرات الكيلومترات بعيدا عن صفاقس المدينة… ثمّ اليس واردا للموظّف الذي لا شغل له أن يصبح شغله الشاغل احداث المشاكل مع زملائه ؟ اذن مخزن مغلوق ولا كرية مشومة… لكن في المقابل واذا اقتضت مصلحة الوحدة ان يعملوا 16 و 18 ساعة ما يقولوش (احّيت)…

تلك العلاقة التي وضعت اسسها بيننا كرئيس ومرؤوسين رأيت عمقها يوم مغادرة الوحدة للتقاعد… يومها أحاط بي زملائي ورفضوا رفضا قاطعا ان اكون انا من يحمل بنفسه وثائقه وكلّ ماهو ملكه الخاص الى منزله… وحملوها عني جميعا وبكلّ سعادة مخضّبة بدموع العشرة… والله يشهد اني وطيلة حياتي كمسؤول سواء اذاعيا او تلفزيا لم اقم يوما باستجواب كتابي لايّ كان… ولم اخصم لايّ كان من اعدادهم في منحة الانتاج وفي الاعداد المهنيّة…

اذن وعودة الى علاقتي بجامعة صفاقس كمدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا ثم بعده بسنتين بمدرسة الفنون والحرف، حاولت ان اعطي دون كلل لطلبتي… كنت قاسيا معهم نعم… ولكن كان ذلك بحبّ لا يوصف… وبادلوني نفس الحب ان لم تكن دوزته اكبر … كنت الاستاذ والاب والاخ والصديق و كنت ايضا صدرا اتّسع حتى لاسرارهم الخاصة… رغم اني كنت ايضا بوليسا في امور الانضباط وتقديس العلم… وطلبتي الذين هم في جلّهم اصبحوا اصدقاء بفضل الفيسبوك شاهدون عليّ… ولعلّ من الاوسمة التي افتخر بها ما حصل في نهاية السنة الجامعية سنة 2012…

إذ ككلّ نهاية سنة جامعية يقع توزيع شهائد وجوائز للطلبة المتفوقين في جميع السنوات… وفي اخر القائمة سمعت من منشط الحفل يذقول: (الان الجائزة الاخيرة في هذا الحفل وادعو الاستاذ عبدالكريم قطاطة لتسلّمها)… فوجئت حقا بالاعلان… وكانت لوحة رُسمت عليها زيتونة وكُتب فيها (شهادة تكريم للاستاذ عبدالكريم قطاطة نظرا إلى عطائه الغزير لطلبة المعهد)… واعذروني على اعادة جملة تُريحني كلما ذكرتها وهي… “وبعد يجي واحد مقربع ويقلك شكونو هو عبدالكريم اش يحسايب روحو ؟؟” … بل تصوروا انّ زميلة من اذاعة صفاقس بعد حادثة ذلك الفيديو المنحوس حول من هم اعلام العار في نظري سنة 2012 (رغم انّي صححت فيما بعد ماجاء فيه ووضحت انّي لم اعمم وختمت بالاعتذار .. لكن وقت البعض يبدا يستناك في الدورة مهما وضحت وكتبت واعتذرت يكون موقفه”قاتلك قاتلك”)… تلك الزميلة ذهبت الى ادارة مدرسة الفنون الجميلة وطلبت منها فسخ عقدي معهم لاني لا اشرّفهم… وضحكوا منها وقالوا لها فيما قالوا: هاكة موش فقط استاذ الطلبة، سي عبدالكريم استاذنا وشرف لنا ان نكون تلاميذه… ورجعت المسكينة الى منزلها خائبة مذهولة مهمومة وغبينتها غبينة، المغبونة… وانا مسامحها…

قضيت 10 سنوات بمعهديْ الملتيميديا ومدرسة الفنون الجميلة وحتما ساعود الى اشياء عديدة حدثت فيها خاصة بعد قهرة جانفي 2011…

الحدث الاخير سنة 2004 كان دون جدال كُرويّا… تتذكّرو نوفمبر 2004 ..؟؟ وبالتحديد يوم 20 منه ؟؟ تتذكّروا هاكي التشكليطة السافيّة ؟ تتذكّرو زوبا وهو يمشكي في ملاعبية المكشّخة واحد بعد واحد ؟ تتذكّروا كيفاش علّق تيزييه في سقف الملعب ؟؟ انّه نهائي الكأس الشهير… وانه يوم سقوط امبراطورية فرعون الكرة ولد شيبيوب… وانا نعرف انو بعض المكشخّين ماشين عاد يسرسطو ماجاء من سور في كتابهم .. عن بطولاتهم .. عن القابهم وتونس بكلّها تعرف عن محصولهم في الشمبيونزليغ وطبعا ماشين يذكروني بهدف بوتريكة ويختمو بـ (ما تكلموناش احنا ماشين لكاس العالم في امريكا).. لاصدقائي المكشّخين الباهين فيهم وهم قلّة لانّ اغلبهم لا يورّيك ولا يفاجيك .. فقط لاصدقائي نحب نسألكم سؤال وحيد ..توة هدف زبير السافي في هاكي الفينال موش سميّح موش شيء يعمل 5555 كيف؟

موش تقول الواحد صيفا يبدا في يدو مشموم ياسمين وطاولة معبّية بالبطيخ والدلاع والهندي وما ننساوش الفقوس .. وهي تصير كورة من غير فقوس ؟…ويعاود يتفرّج عليه ويعشق العزف متاع زوبا ورقصتو كيف انتوني كوين في زوربا اليوناني ؟ وفي الشتاء يبدا قاعد تحت كوسالة وكاس تاي منعنع ويعاود يتفرّج على زوبا وهو يعزف اشي الحبّ كلّو واشي انت عمري .. واشي انساك ده كلام ويختمها ب ميا موري … نعرف اصدقائي المكشخين الباهيين يعرفوني بليد وماسط وخايب وقت نحكي على مكشختهم ..اما يدبّرو روسهم قلتلهم حبّوني؟… واذا حبوك ارتاح والله… دعوني الان اسرّ لكم بما لا يعرفه اغلب محبّي الفريقين حول ذلك النهائي… واصدقائي ومهما كانت الوان فرقهم يعرفون جيّدا انّي صادق في ما اقول والله شاهد على صدقي…

قبل خوض النهائي كان لنا لاعب معاقب (وسام العابدي)… ولد شيبوب كلّم هاتفيا انذاك احد مسؤولي النادي وقللو نقترح عليك اقتراح لفائدة الزوز جمعيات… قللو نسمع فيك هات… قللو تهبّط وسام يلعب الطرح وانا نقول للملاعبية يسيّبوا الطرح… تربح انت وتعمل شيخة انت وجمهورك وانا نعمل احتراز عليكم وناخذ الكاس… طبعا المسؤول رفض وبشدّة… ولد شيبوب قللو راك ماشي تهبط من غير قلب دفاعك وسام… تعرف اش معناها ؟ معناها ماشي انييييييييييي………… بزوز .. المسؤول ظهر حتى هو قبيّح وقللو .. انا منيش مهبّط وسام واحنا اللي ماشي انننننننننني ……… بزوز … وكلمة عليها ملك وكلمة عليها شيطان ..ولكم ان تعمّروا الفراغ وتربطوا بسهم … لكم حرية التعليق مهما كانت الوان فرقكم لكن مع ضوابط الاحترام …السبّ والشتم والكلام البذيء لا مكان لها في صفحتي! …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

لا تخرّبوا سور وسقف الوطن… فنحن غدا من سيدفع الثمن!

نشرت

في

محمد الأطرش:

كنتُ بصدد وضع اللمسات الأخيرة على مقالي الأسبوعي في جلنار، حين بلغ مسامعي صراخ وألم ووجع عائلات من قضَوْا تحت أكوام حجارة سور معهد المزونة، رحمهم الله.

تمرّد القلم بين أصابعي، ورفض إتمام ما بدأه والانصياع لأوامري، وما أكتب، معلنًا الحداد على من ماتوا، ووُئدت أحلامهم تحت حجارة سور جريح ينزف دم سنوات الإهمال والتخلي.

سور أصابته لعنة “باركينسون” تشريعاتنا المهترئة، فارتعش وجعًا. سور لم يرأف بحاله أحد من القائمين على شؤون ترميمه، وترميم ما يحيط به. سور سال دم جراحه، وأسال دم من مرّوا بجانبه وأمّنوه على أرواحهم. سور توجّع وتألم طويلًا، وبكى… ولم يسمع بكاءه أحد، حتى أبكى أمهات بعض من اعتادوا المرور بجانبه… سور تآكل، وبانت عورته، فغضب وانهار على من كانوا يمرّون بجانبه، يتكئون عليه، ويستظلون به من غضب الشمس وثورة الأحوال الجوية، وهم في طريقهم لطلب العلم.

الغريب ما قرأته بعد الفاجعة، وما سمعته من صراخ من خرجوا يهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور. أغلب من خرجوا علينا يولولون، يطالبون بمحاسبة من تسبب في الفاجعة، ويطالبون بتحميل المسؤولية لكل من قصّر في أداء واجبه أو غفل عنه.

هكذا نقفز على كل وجع ومأساة، لنواصل الدعوة إلى الانتقام من كل ما سبق، ومن كل من سبقونا في تحمّل مسؤولية خدمة هذا الشعب… هل يجب أن ننتقم ونثأر بعد كل فاجعة أو فشل ممن سبقونا في تسيير شؤون مؤسسات البلاد؟ هل يجب أن نشيْطن كل من سبقونا في خدمة الوطن بعد كل وجع يشعر به جسد هذه الأمة؟ ألا يجدر بنا أن نعتبر مما حدث، ونبدأ بإصلاح حالنا وأحوالنا؟

أتساءل: ألا يتساءل أحدكم لماذا كل هذا العزوف عن تحمّل المسؤولية؟ أليس للفصل السادس والتسعين من المجلة الجزائية دور كبير في هذا العزوف، الذي أفرغ مؤسساتنا من كفاءات كنّا نفاخر بها، ونطمئن بوجودها على حالنا وحال مؤسساتنا وحال البلاد؟ ثم، أليس للفصل الرابع والعشرين من المرسوم عدد 54 نصيب مما نحن فيه، ومما عشناه ونعيشه؟ فمن كان يرى في السور عيبًا وخطرًا، لن يكتب عن الأمر، ولن يُنبّه لخطورته، خوفًا من أن يُتهم بنشر أخبار زائفة وإشاعات كاذبة…

ألم نغرق اليوم في وحل الفصل السادس والتسعين، ورعب المرسوم الرابع والخمسين؟ لماذا تنشر تشريعاتنا وبعض قوانيننا الخوف والرعب في نفوس كفاءاتنا، ومن يملكون القدرة على تحسين أوضاعنا؟ أيمكن للأمم أن ترتقي وهي تعيش تحت وطأة الخوف والرعب من قوانينها؟ كيف نطلب من بعضنا خدمة الوطن وهم يعيشون رعب القانون، ورعب الحقد، ودعوات الإقصاء والثأر والانتقام من كل قديم، وكل مخالف في الرأي، وكل من لا يعلن لنا البيعة، ولا يقف صارخًا “مزغردًا”، مصفقًا لأخطائنا، ملمّعًا لفشلنا، داعيًا لنا بطول العمر وجزيل الثواب؟

يا من تستمتعون بوجع خصومكم، ومن لا تتفقون معهم، ومن تركوا أثرًا طيبًا وانتصروا عليكم بما حققوه وأنجزوه…الوطن أمانة بين أيادينا جميعًا، فجنّبوه الفتنة، وجنّبوه الأحقاد، وحافظوا على سور الوطن…ولا تخربوا سقفه، فإن انهار سقف الوطن، فنحن، نحن الشعب، من سيدفع الثمن… نعم… نحن الشعب من سيدفع الثمن.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 114

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في جويلية 2004 انتهت حقبة اذاعة صفاقس مع السيّد عبالقادر عقير رحمه الله وغفر له وعُيّن السيد رمضان العليمي كبديل له وتحديدا يوم 12 جويلية…

عبد الكريم قطاطة

والسيّد رمضان العليمي شغل قبل تعيينه على رأس اذاعة صفاقس منصي كاتب عام للجنة تنسيق “التجمع الدستوري الديمقراطي” (الحزب الحاكم وقتها) بقفصة ثمّ مديرا لاذاعة تطاوين… وكعادة ايّ مدير عند تسميته اجتمع بالمسؤولين في الادارة بقاعة الاجتماعات المحاذية لمكتبه… ليعبّر وكأيّ مسؤول عن امتنانه لرئيس الدولة صانع التغيير لتشريفه بتلك المهمة… وعبّر وكسائر المديرين عن سعادته بوجوده في صرح اذاعتنا ونوّه بتاريخها وبالسواعد التي عملت فيها… ودون الدخول في تفاصيل اخرى تعرفون جيّدا تلك الخطابات الممجوجة التي يلقيها المسؤولون في مثل تلك التعيينات…

بعد ذلك تعرّف على المسؤولين فردا فردا… ولمّا حان دوري نظر اليّ السيّد رمضان العليمي وقال: (سي عبدالكريم اشكون ما يعرفوش انه اشهر من نار على علم، وهو بالذات عندي حديث خاص معاه)… وانتهى الاجتماع… وبقيت انتظر ذلك الحديث معه… وطال الانتظار… وكتبت له رسالة مطوّلة لم استجدِه فيها العودة الى المصدح فالحرة تجوع ولا تاكل بثدييها… لكن كان من واجبي ان اعطيه فكرة شاملة لا فقط عن وحدة الانتاج التلفزي حيث اُشرف فيها على مصلحة الانتاج، بل عن اذاعة صفاقس بشكل شمولي… وذلك من خلال ما عشته وعايشت فيها مع زملائي من احداث ناصعة البياض واخرى رماديّة حتى لا اقول سوداء…

هذه المراسلة كانت بتاريح 17 سبتمبر 2004 اي بعد شهرين و5 ايام من تعيينه… وها انا اختار الفقرة الاخيرة من مراسلتي الطويلة علّها تًعطي فكرة واضحة عن هدف تلك المراسلة حيث خاطبته بالآتي: (اخي الفاضل… انّ غيرتي على هذه الاذاعة هي وحدها التي جعلتني اكتب اليك فانا لا اطلب برنامجا او فضاء او ما شابه ذلك… ولكنّ الخطر الكبير يتمثّل في عديد الاسماء التي لا يمكن ان تكون امام المصدح وفي عديد البرامج التافهة تصوّرا وانجازا… وفي بعض الاشخاص الذين لا يملكون الحسّ الاذاعي ولا الكفاءة ومع ذلك يديرون امور هذه الدار على هواهم… اخي الفاضل احببت ام كرهت… الآن انت مدير هذه الدار وقدرك ان تعيد لها هيبتها وجمهورها واشعاعها… وهيبتها لن تعود الا من خلال تطبيق القانون ورفع المظالم … وفقكم الله لتسلّق هذه الجبال من المصاعب واعانكم على ان تكونوا كالميزان في عدالته، الذي لا يهمه ان ارتفع بالفحم او باللحم، بالتبر او بالتين… اليست العدالة هي اساس العمران ؟؟)…

السيّد رمضان العليمي كما ذكر في اجتماعه الاول بالمسؤولين وعد بحديث خاصّ معي… وانتظرت ولم يأت ذلك الحديث الخاصّ… وارسلت له المكتوب الذي حدثتكم عنه ولم يأت ذلك الحديث الخاص وها انا انتظر لحدّ اليوم وعده ولم يات ولن يأتي ولا حاجة لي بأن يأتي… لا لانه غادر الاذاعة ولست ادري ماذا اصبح اليوم وكلّ الرجاء ان يكون في صحة جيّدة مع طول العمر… ولكن لانّ الاجابة عن ذلك الوعد الذي لن يأتي جاءتني من احدى الزميلات في اذاعة تطاوين وهي بالاساس مستمعة لي منذ من البريد الى الاثير … وذلك بعد ستّة اشهر من تعيينه على رأس اذاعة صفاقس… حيث خاطبتني عبر مرسال فيسبوكي خاص بالقول: (لا تنتظر مؤازرة من السيّد رمضان العليمي… انه لا يكنّ لك الودّ وهذا عرفته عندما وددت تكريمك في اذاعة تطاوين ولكنّه عبّر بشكل مباشر انّه لا يطيب بذكرك… لكنّي كنت مصممة على تكريمك واذعن لي لكن لبس عن طيب خاطر)…

انذاك فهمت انّ الحديث الخاصّ معي لن يكون وحتى طيلة عهدته باذاعة صفاقس تحادثنا مرّتين فقط… يوم جاءني لمكتبي بوحدة الانتاج التلفزي ليسأل عن مشاكل الوحدة وندرة انتاجها… اي نعم قلبو وجعو على وحدة الانتاج… وتقولوشي عمل حاجة ؟؟ اقسم بالله وكانّه لم يسمع شيئا مما سردته له… المرة الثانية التي قابلته فيها يوم أقام حفلا خاصا لتكريمي سنة 2006 بعد احرازي على وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس الدولة… وهو يصير منو ما يحتفلش بما قرره صانع التغيير؟…

ساعود لموضوع الوسام في ورقات قادمة… سنة 2004 ايضا وبالتحديد في 30 مارس شاء قدر الله ان يحرمني وللأبد من الوجود المادّي لوالدتي عيّادة… كان ذلك يوم اثنين… ولكن في الويكاند الذي سبق يوم الاثنين 30 مارس وتحديدا يوم الاحد 29 مارس كنت والعائلة وبعض من اهلي عائدين من الساحل بعد قضاء نهاية اسبوع باحد النزل… عندما وصلنا الى ساقية الزيت طلبت من سائق السيارة ان يتوقف.. اندهش الجميع لذلك… تصوروا انّ غايتي كان اقتناء قهوة او بعض المكسّرات للسهرة… توقف اذن ونزلت من السيارة وقلت لهم (كمّلوا ثنيتكم انا ماشي لعيّادة نحبّ نطلّ عليها ونبوسها وبعد نجيكم)… اندهش الجميع… يا ولدي اش قام عليك .؟ يا ولدي غدوة امشيلها … يا ولدي الدنيا مغربت .. تي راهي امّك في ساقية الدائر وانت في ساقية الزيت… تي راهو زوز كيلومتر موش شوية… تي هات على الاقلّ نوصلوك…

تعرفوه هاكة البهيم حاشاكم اللي يحرن ؟ اللي يعرفني يعرف انو من طباعي السيّئة وقت نحرن نحرن… وفعلا حرنت وزيد قلت لهم (انا طيلة دراستي الابتدائية كنت نجي من ساقية الدائر لساقية الزيت على ساقيّ… نحبّ نمشي على ساقيّ ونعيش شوية نوستالجيا ذلك الزمن… ايّا امشيو على ارواحكم)… وتوكّلت على الله وخليتهم داهشين في ها المخلوق وفي راسو الكبير وعنادو في احدى تلك اللوحات… صدقا كان هنالك احساس رهيب بداخلي وانا اقطع تلك المسافة… ذكريات… نوستالجيا… سعادة… وحزن لم افهم مأتاه…

وصلت الى مسكن الوالد والوالدة ومعهما اختي نبيهة التي تكبرني بسنة والتي لم تتزوج لإعاقة وُلدت بها ولم تقع معالجتها في زمن كان العلاج الطبّي نادرا جدّا… والتي لازمت الوالد والوالدة طيلة حياتهما، رحم الله الثلاثة… عندما دخلت للمنزل سلّمت على سي محمد… والدي هكذا كنت اناديه لا يا بابا ولا يا بويا ولا يابّا متع جيل توّة… ووجدت اخواتي الثلاث متحلقات حول عيادة… فرحت بي عيادة وباستغراب وقلق عن هذه الزيارة في وقت بدأ الليل يسدل ستائره ونظرت لولدها وسألتني: (يا وليدي لاباس عليكم ؟)… مسكت يدها وقبلتها وقلت لها وراسك الغالي لاباس توحشتك جيت نطلّ عليك اكاهو… تهللت اساريرها ونظرت الى اخواتي وقالت: (ما يعزش بيكم انتوما الكلّ في كفّة وعبدالكريم في كفّة راهو كفّتو تغلب)… وضحك البنات وأجبن (يخخي حتى تقوللنا؟..نعرفوا نعرفوا)… اعدت تقبيل يديها وبشكل جارف، لكأنّ القدر كان يهمس لي… اشبع بيها اليوم لانّها غدا ترحل…

في الغد وانا في مكتبي وكانت الساعة تشير الى الثالثة ظهرا هاتفني احدهم (لم اعد اذكر من هو) وقال لي: امّك مريضة وتحبّ تشوفك… ووجدتني بالنهج الذي تقطن فيه عيّادتي وسي محمد… وتسمّرت ساقاي عن المشي… سيارات رابضة امام المنزل… هذا يعني انّ عياّدة …. نعم دخلت وسالت اخوتي متى ؟ كيف ؟ بالامس كانت في صحة جيدة .. ماذا حدث ؟ لماذا لم تخبروني بما حلّ بها ؟… اجابتني إحداهنّ وقالت… كنا معها نتجاذب اطراف الحديث كما تعرفنا وفجأة قامت وقالت: (صلاتي ابجل من حديثكم سيّبوني نعطي فرض ربّي)… اقامت الصلاة ركعت ثمّ سجدت ثمّ هزّ ربّي حاجتو… وهي ساجدة…

دخلت فوجدتها مسجّاة في لحافها… دلفت اليها بهدوء لم ادر مصدره… رفعت الغطاء عن راسها… قبلت جبينها و قرات عليها نزرا قليلا من سورة البقرة (وبشّر الصابرين الذي اذا اصابتهم مصيبة) الى اخر الاية واعدت تقبيل جبينها و تقبيل يدها الباردة … والتي هي في برودتها وقتها كانت اشدّ حرارة من وهج الصيف في صحرائنا الكبرى… ورفعت يديّ الى خالقي وقلت (يا ربّي يجعلني كيفها)… لقد اكرمها الله بتلك الموتة الرائعة واستجاب لدعوتها الدائمة… يا ربّي يجعلني نهيّر في الفرش ونهيّر في النعش… ولأنّ الله قال في كتابه العظيم، سورة غافر آية 60: (ادعوني استجب لكم) واعاد نفس المعنى في سورة البقرة الآية 186، فالله اكرمها بان لا تقضّي حتّى يوما واحدا مريضة في فراشها…

الحمد لله اوّلا على قضاء الله… الحمد لله ثانيا على انّي نفذت وصيّتها لي بتلحيدها يوم دفنها… كان ذلك بعد اذان صلاة المغرب في المقبرة التي كنت اخاف من المرور بجانبها طيلة حياتي ليلا او نهارا… ولكن واقسم لكم بالله عندما ذهبت لتلحيدها في تلك الساعة، تحوّلت المقبرة امامي الى نور على نور… والحمد لله ثالثا انها رجتني في حياتها الاّ انقطع عن زيارة قبرها بعد وفاتها، وان احكي لها واطمئنها عن كل ما يجري في عائلتي…. وعائلات اخوتي… ووعدتها ولا زلت عند وعدي…

رحم الله عيّادة وابي واخوتي واهلي واصدقائي وزملائي… ورحم الله كلّ امواتكم واطال الله عمركم ومتعكم بالصحة والسلام الروحي …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار