عبد الكريم قطاطة:
…. ولأن الذاكرة مازالت تختزن والحمدلله بعض ما عشته في طفولتي قبل الانتقال الى التعليم الثانوي فها انا اعود الي مخزونها …
عامل الوقت في ذلك الزمن كان مختلفا جدا عما نعيشه اليوم …فاذا كان الواحد منا في عصرنا هذا يتصارع يوميا مع الوقت وهو يجري ما يلحق، فان طفولتنا كانت انذاك تعيش وقتا وتوقيتا آخرين فلاهو غرينتش ولاهو مكة المكرمة ولا هو القدس … اليوم في ايامنا انذاك كان بدهر ….الى حد اننا نستغرب من المعلومة التي تقول انه يساوي 24 ساعة …وعلى حد تعبير سعيد صالح في مدرسة المشاغبين (يااااااااه السكة طويلة اوي) … كنا نلعب كثيرا و نسهر طويلا وننام قليلا والاهم كنا نقلق (هلبة) … كانت العابنا بدائية جدا، زربوط او كرة مصنوعة من قراطيس وملفوفة بالحبال، او “العفاريت” المصنوعة من ورق علاوة على العاب الفتيات …البرتيتة …بيت الحارة …والخماس … والقفز على الحبل _…
وكان الزمن ايضا مختلفا في فصوله فالشتاء كان شتاء بحق …الاصابع تزرقّ من صقيعه … والشفاه ترتعش من زمهريره وامطاره رغم تدلعها في النزول واحيانا ياتي عام يسميه الآباء (عام الزمّة) اي الازمة… وعند الهطول كنا نهزأ بامطاره وبرده وعواصفه وقل ان تجد الواحد منا مصابا بانفلونزا … كنا (جنون) الله يعافيك، والمقولة لامهاتنا …لكن المقلق في مطره تعاملنا مع غديره الذي يعوض البحر …لم نكن نصل الى حد السباحة فيه ولكن كنا لا نرحمه ونحن نشتت ماءه بارجلنا حفايا، او حسب ما يقول عمي رحمه الله (لابسين صباط القدرة) باعتباره قضى طول عمره يمشي حافيا ويحمل صنداله تحت ابطه _ ليدخره للمناسبات _ وهو في ذلك يجسد المثل الشعبي (في ساقي ولا في الصباط) …
المقلق اذن في علاقتنا الطربية والراقصة بالغدير اننا لا نكاد نعود الى عتبة الحوش حتى تنهال الاصوات المستنكرة لحالتنا الآية في النظافة …اجسادنا وادباشنا هي اشبه بلوحة زيتية تجريدية لا تفهم كوعها من بوعها (وانا لحد هذه الساعة غبي جدا في استيعاب ذلك النوع من الرسوم) …الله غالب احسن ما رسمت في حياتي شلاكة بالية في الثانية ثانوي شكرني عليها استاذي الرسام الكبير الراحل ابراهيم الضحاك … ولست متأكدا انه يومها يمتلك كل مداركه لانه كثيرا ما يدرسنا وهو (تيلت) رحمه الله وغفر له …. كان جميع نساء سكان حوشنا وكأنهن ينتظرننا في الدورة لشن هجوم عنيف علينا ونحن في عتبة الحوش …آش هالسحاق ..؟؟؟؟… خدامة عندكم احنا انتوما توسخو واحنا انظفوا …جهدنا طاح في جرتكم ! …
وفي الحقيقة كانت امي وخالتي ترأسان فرقة الصياح والتأنيب وكانت اختي الكبرى وبنات عمي وخاصة الكبرى رحمها الله، لا يتركن الفرصة تمر حتى يقمن وعلى احسن وجه بدور المجموعة الصوتية لترديد مآثر منظومة مقاومة الفساد …وكأنها فرصة سانحة جدا للانتقام من مجتمع رجالي لم يعترف يوما بحقوقهن، والشماتة بادية على وجوههن … هذا من جانبهن اما من جانبنا وبعد وعيد وتهديد بطريحة من عند الوالد او العم او بحكان الفلفل في الشفاه، او الكي بالنار رغم ان الواحدة منهن كانت تردد دوما (ما يحرق بالنار كان العزيز الجبار) … بعد كل تلك المواويل كنا متى عاد المطر للنزول و عاد الغدير للتدوير، نعود لعادتنا …ربما لان الفراغ القاتل، يعمل بعمايلو … او ربما ايضا لايماننا بانهن بقدر ما هن بارعات في التهديد والوعيد نظريا بقدر ما هن غير قادرات على الدروس التطبيقية . وهو نفس المنطق قياسا الذي فرضته بعد سنوات على طلبتي ….اجبارية الحضور في الدروس النظرية كما الدروس التطبيقية تماما، اذ من خور النظام التعليمي ان يبيح للطالب الحق في التغيب عن النظري مقابل اجبارية الحضور في التطبيقي …؟؟؟ والخور يتمثل عندي في: كيف لأي متعلم وفي اي ميدان ان يتغيب في الدرس النظري ؟؟؟…. فصانع النجار مثلا عليه في البداية ان يتعلم كيف يمسك المنشار ويطوع حركته، خوفا من ان يقص الاصبع عوضا عن الخشب …. منطقي جدا ان يمر بعده الى التطبيقي وبكل حذر ….
هذا شتاؤنا … خريفنا لم يكن يختلف كثيرا عن الشتاء في تفاصيل تفاعلنا معه ….في الربيع تختلف حياتنا …الربيع حامل كل انواع الزهور البرية وخاصة البوڨرعون …. الربيع الربيع حقا … لان ربيعنا الان في المدن لا زهر فيه ولا فراش ولا نحل …ربيعنا منذ سنين اصبح باهتا ثقيلا …ولان كل الغابات التي تحيط بصفاقس تربضت واصبحت جزءا من المدينة تعتمها الحجارة ويصقل ترابها الاسفلت ويزينها تلوث السيارات ويدمرها شجرا وحجرا وبشرا … التلوث الصناعي بداية من °السياب °ووصولا الى الحي الصناعي ببودريار … فكيف لزهر ان ينبت وكيف لفراشة ان تحلق وكيف لاسراب الطيور من الكانالو الى العصفور الحيطي ان تغرد وحتى اسراب الخطاف هاجرت بلا رجعة وهجرتنا تلك التي كانت تنور سماءنا والتي كنا نصطاد الواحد منها لندهن راسها بزيت الزيتون راجين ان نتبرك بها وهي تعود في رحلتها الشتائية الى الكعبة فتحمل سلامنا الى بيت الله …هكذا كان يقال لنا …
كنا نقضي آخر الاسبوع في اصطياد النحل وسجنه في قارورات مغلقة طمعا في عسله بعد سكب قليل من السكر الذي يخيل لنا انه سيحوله الى عسل مصفى فيه شفاء لنا …. ثم نتفاجأ بموته ونحن نجهل اننا حرمناه من الاوكسجين وان العسل لا يساوي شيئا امام الاوكسجين تماما كما لا يساوي الكلام المعسول شيئا من سياسيي “الغورة” امام اوكسجين هيبة الدولة المفقودة وانتشار الفساد والمفسدين، وعلى رأس قائمتهم سياسيو الافلاس الثوري في محاولة منهم لتغطية عين الشمس بالغربال على ثرائهم غير المشروع …ساعود اليهم في ورقات قادمة ولنعد الى نحلنا …
كنا ننتظر كل يوم ان نستفيق على (جابية) من العسل البلدي الحر …لكن الادهى اننا لم نكتشف ان ما اصطدناه لم يكن نحلا الا بعد ان عشش في احدى الطوابي (جمع طابية) وهي حواجز رملية عالية تفصل بين الفرد وجاره، مغروسة في قممها بتاجها الذهبي أشجار سلطان الغلة (الهندي) في احداها عشش سرب من النحل … انذاك فقط ونظرا إلى التحذيرات الشديدة اللهجة والحازمة من قبل الجميع بعدم مشاكسة مملكة النحل لأن ردة فعل مواطنيها سيكون لاذعا جدا … يااااااااااااااه كم كنا بحق اطفالا …… هذا هو الربيع الذي نتغنى به حقا في احدى محفوظاتنا بالابتدائي (ورد الربيع فمرحبا بوروده … وبنور بهجته ونور وروده) … وللتوضيح ورود الاولى هي مصدر ورَدَ … وورود الثانية هي جمع وردة ….بايجاز عبدكم اليتيم وبكل الم اليتم …
الربيع في مدينتي اصبح ماضيا …ولانني متعلق وبشدة بصباي وبكل ما فيه من فرح وترح فاني وتمسكا بالربيع (باستثناء الربيع العربي اللعين) أنتقل كل سنة الى ما ابعد من 30 كلم عن مدينتي حتى اعانق الربيع في الحقول وا أشتمّ رائحة الارض واعشق زهوره البرية وزهور الاشجار وفي مقدمتها زهور شجر اللوز (تحفة إلهية سبحان الخالق _) وهي تعلن عن ولادة (كرش) اخرى من ثمارها متحدية تحديد النسل ….. كمممممم افتقدنا ها وكممممم اشتقنا لنسلها في مدننا الرمادية الباهتة ….
في الصيف كانت لنا حكايا اخرى اذ انه وبعد توديع المدرسة ومعلميها في آخر شهر جوان ونحن نقدم لهم هدايانا البسيطة اعترافا بالجميل (ڨازوز المسدي االابيض او ڨازوز بوڨا وبعض قطع البسكويت) … وبعد ان نغني تلك الانشودة التي كانت تبكينا (الى اللقاء الى اللقاء يا ايها الخلان) او (سوف اللقاء يجمع شملا بعد الفراق) …هو يوم لا ينسى …وكيف لنا ان ننسى ايام العز في التعليم والتربية بدءا من (مابك؟ هرب طاهر بكرتي … هذا مفتاح بابك …او لسعت حليمة عقرب فجعلت تبكي وتقوا او او او ( كتاب اقرأ سنة اولى ابتدائي) … مرورا بـ (بدويّ في العاصمة) و (الحلاق الثرثار) و (جسر الحقيقة) … وصولا الى دروس التاريخ ورواياته المثيرة وكأننا في عالم علي بابا …كيف انساها وقلبي لم يزل يسكن جنبي …انهاااا قصة حبي ….
بداية العطلة الصيفية التي كانت تمتد على ثلاثة اشهر (جويلية اوت سبتمبر).هي بداية رحلة المتاعب لكبار الحوش …فالصيف انذاك يعني يوميا شمسا حارقة جدا ورمالا نارية لا يمكن الاستخفاف بها …صيفا بحق … وكان حرص والدتي على ان لا آخذ صربة شمس حرصا مرهقا جدا لي فالصيف يعني سجنا في النهار ويتواصل ليلا خوفا من العقارب …تلك العقارب التي كانت بالنسبة لحوشنا حشرات اليفة و (متعودة دايما ) على اثبات وجودها لجل متساكني الحوش يقبلاتها دون استئذان … وانقراضها الان في جل انحاء مدينتنا كان موقفا استباقيا منها لتفادي عواقب جريمة التحرش …خاصة وهي تتحرش بالجميع دون تمييز لا في السن ولا في الجنس ….ولست ادري لحد الان سبب عزوفها على التحرش بي ….نعم لست ادري كيف ولماذا زارت جميع متساكني الحوش ولم تخترني بتاتا … ربما لأني كنت (جلدة على عظمة ) …
اعود للصيف لارسم مجموعة من الاعمال القسرية التي كنت اقوم بها قتلا للفراغ (والفراغ يعمل بعمايلو كما قلنا) … كنت يوميا عشية بعد ما تبرد القايلة، اقوم بجمع الهندي بالكماشة التي تقبض على جسده وتلويه حتى يذعن لمفارقة ظلفته … تلك الكماشة تسمى °جمّاعة °بالشدة فوق الميم، هي عبارة عن عصا طويلة متوجة بقضبان حديدية مجمعة بشكل يضمن وضع (كعبة) الهندي بينها __…ثم اترك ما جمعته لاختي كي تقوم بغسله وتنظيفه من الاشواك فكيف لكريم ان يلدغه شوك الهندي؟ هكذا كانت امي تنهر اخواتي …دون نسيان الاحتفاظ بسطل منه لاقوم غدا في الصباح الباكر خوفا دائما من الشمس ومن ذبول الهندي …اقوم _ انا النحيف الهزيل _ بحمله الى ساقية الزيت وبيعه بـ 5 مليمات . وتصوروا فقط طفلا مثلي يحمل ذلك السطل الثقيل الذي يدمي الايدي النحيفة لجمع بعض المليمات وادخارها لآخر العطلة لشراء الادوات المدرسية، واعيد القول السطل ب5 مليمات …ياااااااااااااااااه الان اصبح ثمن كيلو الهندي اغلى من كيلو الموز (تفيه على الدنيا!)…….اذن تهنينا على الصباح والعشية …
وسط النهار هو حبس اجباري في البيت لتكسير ثمار اللوز الجافة بثمن بخس للغاية …الشكارة بـ 60 مليما ثم تدرجت الى 100 مليم مع مر السنوات …وكنت كلما اهم بالخروج من هذا السجن كانت امي تهددني بـ (اش عندي فيك اخرج اما راهو ثمة عربية في الزنقة)… و (عربية) تعني بدوية بخلّتها ومِلْيَتها ….ومن شدة غبائي ثم جبني كنت استجيب وبهلع كبير لتهديدها لي بالعربية، بل كنت انزوي في احد اركان البيت وكأنها شيطانة من الشياطين الداعشية …
هكذا كانت ايامي الصيفية حتى الخامسة ابتدائي، سنة بداية محاولة الافلات من قيود سجني …القيد بدأت تكسيره يوم قدم احد السكان الجدد كجيران لنا وعلى عكس كل من يقطن في حومتنا يمتلك هؤلاء السكان “دار ملاك” … رحم الله موتاهم والصحة لمن تبقى منهم والامتنان لهم ولاحيائهم جميعا بما عشته معهم وبكل ترحاب … ازمنة لا تنسى ….هذه العائلة الجديدة هلت علينا بالكنز الاعجوبة: المذياع …
يااااااااااااااااااااااااااااااااااااه تلك كانت بداية حياة اخرى ….حكاية اقدار ….
ـ يتبع ـ