ذاكرة الواحد منا علميا هي اشبه بزجاجة ..كلما تقدمنا في السن الا وكانت ذاكرتنا منتعشة للغاية مع قاع القارورة (اي فترة الطفولة والشباب) وعكس ذلك ذاكرتنا يصيبها الهزال مع بقايا القارورة وخاصة اعلاها وبالتالي آخر ما نعيشه لذلك نقول “تي الواحد نسى حتى عشاء البارح اشنوة”…
ومن نفس هذا المنطلق العلمي نفهم الان ذلك المثل الشعبي القائل (العزوزة خرفت قامت تحكي على ليلة دخولها) من هذه الزاوية وقبل البدء في علاقتي بالمذياع في السنة الخامسة ابتدائي (ساعود معكم الى ذكريات تلك السن في المناسبات الخاصة )…علاقتي بالبحر بدأت مثلا في تلك السن قبلها كنا نكتفي بالبيسين …وهي بيسين دياري (السباحة في جفنة) هذه الجفنة متعددة الاختصاصات فهي طوال السنة لغسل الادباش بالصابون العربي وهي في فصل الصيف للـ”فتلان” اي اعداد الكسكسي والمحمص والتشيش والملثوث اي العولة … وهنا لابد من الاشارة الى الام رحمها الله ودورها في معالجة الملفات الاقتصادية في مملكتها كانت حقيقة صيدا باتم معنى الكلمة لم تخضع يوما للمحاصصة ولشطحات الدهر … هي تلعب بلاد على اصبع ساقها الصغير عليسة زمانها كعديد الامهات …
فرغم الفاقة التي لازمتنا دهورا الا ان عولتنا لا تنقطع واعيادنا تكاد تكون في احتياجاتها الرئيسية كسائر الناس … رحماك يا عيادة يا للة النساء واحكمهن …..الجفنة هي ايضا تلك التي نملؤها ماء ونسبح في بعض صنتميتراتها عمقا …المهم عومة …في السنة الخامسة ابتدائية كانت لنا اول زيارة للبحر ..ومن لنا غير شاطئ سيدي منصور وبالتحديد قرب الولي الصالح الذي سمي باسمه … كانت السفرة تتم ليلا على عربة مجرورة (كريطة) حيث نحمل زادنا وزوادنا، وهذا يعني ما خف حمله ورخص ثمنه لان ما غلا ثمنه لا نملكه … دون نسيان جلد الكبش وصوفه لغسلهما في البحر …قلت تكون السفرة ليلا حتى نبتعد عن اعين المتحرشين، خاصة ان الوالد شعراوي (اي عندو شعرة سيدنا علي) او حزار.والويل كل الويل لمن يقترب منه اذا طلعتلو الكلبة بنت الكلب …
وهنا تروي لي الوالدة انها ذات مرة بينما كانت راجعة من زيارة اهلها في البرنوص (محطة بطريق منزل شاكر) وكان والدي قد اقترض كريطة للعودة بها معززة مكرمة من هنالك (وفي الحقيقة حرصا منه على ان لا يقترب منها طامع ما) ..اثناء تلك العودة كان هناك رجل يمشي الهوينا وراء الكريطة و”عينيك ما ترى النور” … نزل سي محمد (هكذا كنت اسميه دوما حتى مماته) وانهال على ذلك المسكين ركلا وضربا وسبّا …وامي مندهشة من صنيعه وتقسم لي باغلظ القسم انه “خاطيه وكلاها في عظمو ورقد مسيكن” … اذن تفهمون الان لماذا الزيارة لسيدي منصور تكون ليليا ذهابا وايابا …
السفرة تنطلق الساعة العاشرة ليلا وسيدي منصور يبعد عنا حوالي 15 كلم ..اي ان الوصول الى الطائرة لباريس اسرع من الوصول الى سيدي منصور على “الآرباس” الكريطية …حال وصولنا تهرع امي الى مقام الولي تبركا به لتشعل شمعة …(والحمد لله اني كنت كل سنة حتى وفاتها البّي رغبتها وامتعها بنفس الزيارة لتناول العشاء على “سطحة” مقامه …اما انا فكنت اهرع الى البحر اجلس على الشاطئ) ….يااااااااااه تصوروا المشهد الليلي …السماء تغطينا بنجومها والبحر يعزف في خريره سمفونية الوجود …مشهد حفر منذ اول زيارة لي للبحر ومازلت لحد الان افضل ما اعشقه في البحر (الليل وسماه ونجومو وقمرو) وزد على ذلك البحر وهديرو ….يا الله ما اعظمك ….في الاثناء كان الوالد مع البنتين الاكبر مني سنا ابقاهما الله، يبني قصرنا على الساحل الازوردي: “كيب” مصنوع من اعواد خشب مشدودة بشكل متقن ومغطاة بـ “طرف عربي” او كليم او بعض الملاحف … قلت متقنا لان الوالد كان اسطى بناء …. ومما اذكره في هذا الباب كان لا يعمر كثيرا مع من يعمل معهم سواء في البناء او في موسم الزيتون في المعصرة، او في (المرادم ) وهي لصنع الفحم … هو فعلا “ذريع” وعليه الكلام، ولكنه “بلابزي” بشكل فادح ولهذا السبب كان عاطلا عن العمل اغلب الوقت …
لا علينا في سيدي منصور نقضي ثلاثة ايام بطولها وعرضها بالنسبة للوالدة واخوتي لا سباحة خارج منظومة الليل …والصباح باكرا كتب عليهن ان يكون حبهن للبحر.. للحياة.. للجمال ..للوجود من نوع ذلك الفيلم المصري (حب لا يرى الشمس) … بالنسبة لابي يكتفي بـ”عومة الصباح” لان دوره في سيدي منصور ان يكون عونا ممتازا في الجوسسة والاستخبارات على حريمه …اما انا فكنت لا اخرج من البحر الا نادرا … ادخله اسمر واخرج منه فحمة في خاتمة المصيف… اخرج منه ربما لاخذ لمجة (ڨدمة خبز يابسة بشكشوكة بايتة) … وكنت الوكها وانا اردد القول ‘مرجتونا كبيدتنا بالشكشوكة) فترد الوالدة بكل حدة (احمد ربي غيرك ما طالهاش) … يا لسخرية القدر …هل هنالك اليوم افضل منها تلك الشكشوكة وهي مزدانة بكريكشة او بعصبانة القديد …او بكعيبات سردينة مقلية ..؟؟؟؟..
البحر في بداية اكتشافي له هو عالم آخر عالم لم نكتف فيه بالسباحة والام تلاحقني بندائها الذي لا ينقطع (ما تفوتش الحزام البحر غدار ) ربما لان والدها رحمه الله مات غريقا …وعبثا حاولت دوما ان “اصب لها بالقمع” ان السباحة في سيدي منصور قد تصل في بحره الى الكوت دازور دون وصول مائه الى الحزام …لانه فعلا من البحار غير العميقة (هو على فكرة بالحق شيّط في هذه النقطة، نازح حتى وهو مليان) ….البحر ايضا كان التقاط صدفات حلزونه على الشاطئ بانواعها في مرحلة اولى ثم التدرب على صيد سرطان البحر وحفظ التكتيك اللازم حتى لا يلدغنا بمنقاريه الحادين …والبحر انذاك لم تقف اختصاصاته عند هذا الحد بل تجاوزها الى بيت كبييييييير للراحة (مرحاض) وما لم نفهمه وقتها ونحن نعمل العملة ونبتعد عنها …انها تصر الحاحا على ان تتبعنا …وكم هربنا منها تاركينها تتبختر على سطح الماء حتى لا يتفطن الينا المصطافون (ويا لها من فضيحة) رغم اننا عرفنا في ما بعد انه مأوى لكل الفائض منا جميعا …
من المناسبات الاخرى التي لها نكهة خاصة امحت تماما: شهر رمضان …وهنا لا اقصد النكهة المعنوية بل النكهة التي نشتمّها بانوفنا …نعم والله اعي ما اقول دون مبالغة تماما كالمطر عند نزوله كنا نستنشق رائحة الغيث النافع ..الان وعند نزول القطرات الاولى من المطر نشتم رائحة قنوات التطهير العطرة …رمضان كان بسيطا جدا لا جواجم ولا تجوجيم …كنا في تلك السن نتسلق طابيتنا القبلاوية اي المتجهة الى القبلة، حيث هنالك فجوة بين ظلفة هندي واخرى ننتظر عندما تبدأ الشمس بالمغيب نور ثريا الجامع، بل قل طراطيش ثريا فوق صومعة جامع ساقية الدائر الوحيد …وذلك النور الذي يشتعل فجأة يعني …حان وقت الافطار حسب التوقيت المحلي جدا للطابية القبلاوية وما جاورها …
انذاك لا وجود لمذياع عندنا ولا وجود لمكبر صوت في الجوامع …وتعلو صيحاتنا ونحن اطفال (افطروا يا صايمين كسكسي بلحم ابهيم) ولم افهم لحد الان ما السر في هذه المعزوفة ….. كما لم افهم ما السر في مشاكستنا نحن الفتيان للفتيات في سننا بالتهكم عليهن (يا بنية شحمة نية) فيكون ردهن (يا وليد عود جويد) وكما لم افهم عند نزول المطر تلك الاغنية التي نرددها (يامطر صبي صبي والليلة عرس القبي، والقبي بسلامتو ضربة على قنباعتو ؟؟؟) … وكما لم افهم مجموعة من الامثال التي فيها نبز بالالقاب من نوع (كان لقيت الارض حايرة مشاو عليها الشطايرة) … او (كان لقيت الارض كالة مشاو عليها القلالة) …او (عرة الزنوس المعالج والفلوس) …او (غربال المليح فيهم مالطي ياكل الستاكة ويبات معلق) … مع اعتذاري لكل اصحاب هذه الالقاب … انا انقل فقط دون قصد اهانة اي كان …
حلمكم اذن واعود لرمضان …رمضان يتميز بخاصيات اخرى ايضا ليلة السابع والعشرين …هي ليلة مقدسة عند الوالد ليلة ختم القرآن والختم عنده يبدأ من سورة الضحى حتى المعوذتين … كنت واياه نتداول على السور وهنيئا له بمن ينهي الختم سيتمتع بهدية رمضان (نظريا زلابية ومخارق، وعمليا هي للجميع لانها من الفرص القليلة التي نتمتع بها بفاكهة رمضان: زلابية السيالة) … رمضان بالنسبة للوالد هو 30 على 30 مع احترام رؤية المفتي باااااااازين في السحور ولا شيء غيره وكان يأكله بكل نهم متغنيا بمعزوفته المعهودة (التشيشة ماهي عيشة من هم الزمان، والبازين هو الرزين اه يا لو كان) ر… مضان ايضا هو مرطبات العيد ( المقروض) … و”مرطبات” هذه كلمة بورجوازية جدا امام ما كنا نحضره والذي يتلخص في ابسطها واقلها ثمنا: الدرع ..الڨاطو …واكا هو ….لكن بتقدم الزمن وحسب محصول الجنان في محاصيل اللوز …مقروض اسمر وهو محشو باللوز وبعض كعك اللوز والڨيزاطة (كعبات) اغلبها لضيوف العيد ونحن من حقنا ان نتذوق ما يتبقى …حتى مقروض العيد على بساطته كانت له ونحن نحمل صوانيه ودائما ليلا الى الكوشة، نكهة تغني وتسمن من جوع …اقولها وانا الذي لم اكن يوما اكولا طيلة عمري ….
آخر مناسبة لها خاصيتها هو يوم العيد …هو اليوم الوحيد الذي اصاحب فيه ابي الى المسجد لصلاة العيد …لا كسلا او تكاسلا مني ولا الحادا او اهمالا مني … ولكن لان الوالد رحمه الله وكغيره من اغلب الناس في تلك السنوات الصلاة كانت بالنسبة لهم هي بمناسبة العيد لا غير …غفر الله لهم…. نعود من صلاة العيد التي لا نفهم فيها سوى تلك الترانيم التي نترنم بها قبل مجيئ الامام -(لا الاه الا الله، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة الا بالله) …نعود بعد الصلاة الى المنزل فرحين مسرورين والشمس بازغة والعصافيرتزقزق ….نعم فرحون مسرورون بلباس العيد الذي تنتهي مهمته في ثالث ايام العيد في انتظار العيد المقبل …
نعم الشمس بازغة لانه يوم مشرق بزيارة ضيوفنا وخاصة منهم خالي الطيب والد زوجتي رحمه الله، الذي كان الوحيد في قمة الكرم حيث بناول الصغار منا 5 مليمات لكل واحد و10 مليمات للكبار فينا …اما بقية الزوار فكثيرا ما يتحلقون للعب الكارطة (روندة وشكبة) وللوالد فيها باع كبير من جهة لحذقه للعبة ومن جهة ثانية لحرصه على الربح مما يجعله احيانا يقوم بتقطيع اوراق اللعبة حين تبدو له الخسارة في الافق (بلباز من طراز رفيع ) … رحمة الله عليه كنت وقتها اتصور ان الالعاب الورقية تنحصر في ذينك النوعين، وبعدها اكتشفت ان تلك الالعاب لا تعدو ان تكون بدائية امام البليڨو .. و التريسيتي .. والبيلوت وخاصة الكونتريه …اما الرامي… انت والجواكر …
اختم بالعصافير التي تزقزق وهذه مرتبطة بعصافير بطني .. بالمأكول يوم العيد… الخاصية في عيد الفطر لدينا تتمثل في (الحوت المالح) و(الشرمولة) … وانا كل همي الحوت المالح ..لان السمك عموما مالحا كان او حلوا هو اكلتي المفضلة …ولاننا قليلا ما ناكله ايام السنة فان العيد بالنسبة لي هو زردة عظيمة …اما الشرمولة وعلى عكس اغلب الصفاقسية لا تعنيني (لا آكلها بتاتا) …
يااااااااااااه الم اقل لكم ان رمضان له نكهة خاصة … كم افتقدناها .وهذا يتم من نوع آخر …