تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 7

نشرت

في

حياة السيدة علياء ببو / أسرار تروى لأول مرة - YouTube

سن العاشرة في حياتي ـ واتصورها في حياة جل الاطفال ـ سن بداية الادراك لابجدية بعض معاني الحياة وهي ايضا سن التفطن لبعض السلوكيات التي لم نكن نفقه فيها الكثير …

عبد الكريم قطاطة
<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

في تلك السن مثلا بدأت اكتشاف المذياع من خلال مقدم جيران جدد لنا (عائلة ملاك) عائلة احبتني واحتضنتني بورك فيها ورحم الله امي عويشة والصحة لبقية افراد عائلتها، ثلاثة عزاب وبنت …كنت طفلهم المدلل وكنت وخاصة في العطل المتمتع بتأشيرة اقامة دائمة بحوشهم الاكثر رفاهة من حوشنا …غرفه مأثثة وسط داره مغطى (بمعنى آخر كامل الاوصاف فتني) وفي الحقيقة “وما حب الديار سكنّ قلبي ولكن حب من سكن الديار” وهنا اعني المذياع ولا شيء غيره …ضربة البداية كانت مع دعوتهم لي صبيحة الاحد للاستماع الى برنامج الاطفال (جنة الاطفال للسيدة علياء) ودعوني اوضح امرا هاما في هذه النقطة …

ان كل ما اقوله في هذه المرأة العظيمة لن يفيها حقها …منذ اللحظة الاولى التي استمعت الى ذبذبات صوتها وهي تفتح البرنامج بمقدمتها الشهيرة الدائمة: صباح الخير يا لولاد … ويرد عليها الاطفال بـ: صباح الخير سيدة علياء … احسست بوقع سحري ينفذ الى اعماق اعماق اعماقي … كنت ارى في صوتها نهرا ينساب في كل خلية من جسدي …كنت اشاهد في ضحكاتها احيانا وفي عتابها الجميل لاطفالها، ذلك الملاك الذي يرفرف بجناحه الابيض ليحملني تحت ابطه ويحلق بي في عوالم جميلة … كنت احسد (ولا اقول اغبط) لان مشاعري انذاك كانت بالفعل حسدا لمجموعة الاطفال الذين يشاركون معها في الحصة …

تمنيت ان اكون محمد الامين الغربي، احد اشهر الاطفال في التمثيل في حصتها … او مريم الجربي التي انطلقت كمطربة مع السيدة علياء وهي بنية صغيرة وواصلت الغناء كمطربة شابة لم يكتب لها النجاح … كانت تتغنى بالاغنية البوز انذاك “عاد ابي للدار من عمل النهار” … وكنت خاصة اكره شديد الكراهية “عم راشد” الذي يشاركها في بعض فقرات الحصة … اكرهه لا لشيء الا لانه ياخذ مني صوت السيدة علياء لنزر قليل من الوقت … ولأن الزمان يعيد نفسه (عذرا لاساتذة التاريخ) فانني كم ضحكت وانا اتصفح رسائل المستمعين عند تنشيطي لبعض البرامج بشكل ثنائي مع بعض الزملاء …هؤلاء المستمعون الذين يعبرون عن ضجرهم من الوقت الذي ياخذ فيه زميلي المصدح …. ولا اشك ان عديد الزملاء الاذاعيين يعبر لهم مستمعوهم عن نفس الشعور …

كنت اتسمر كل احد بداية من الساعة الثامنة والنصف امام مذياع الجيران في انتظار جنة الاطفال التي تنطلق مع تمام التاسعة … اتذكر جيدا ان الجنة كانت مسبوقة دوما باغان فكاهية … المورالي والخميسي والسملالي والجراري وغيرهم… وكانت الساعة التي اقضيها في ترشف الجنة جنة بحق …فيها ما لا عين رأت، رغم الخيال المجنح الذي اعيشه فتتحول الكلمة الى صورة بالابيض والاسود (الالوان لم يحل ركبها في ذلك الزمن) ولكن فيها أذن سمعت وسمعت وسمعت …. وهنا لابد من الاشارة الى ان حلمي الذي كان يقتصر على رؤية هذه المرأة العظيمة في تأطير اجيال واجيال من الاطفال لم اكن اطلاقا اتصور انه سيتحقق وبشكل رائع الى حد الثمالة …

في نهاية التسعينات وفي احد اعياد ميلاد اذاعة صفاقس ارتأيت ان يكون عيد الاذاعة عيدين …ارتأيت ان ارد الجميل لعلمين من اعلام الاذاعة، السيدة علياء ومحمد حفظي رحمهما الله … واثثت البرنامج الخاص حولهما باعتبارهما رمزين من رموز الاذاعة … بكل امانة همي الاكبر كان: هل توافق هذه الاستاذة في تلبية الدعوة؟ اعني هي التي كانت تهمني بدرجة اولى وثانية وثالثة واخيرة …_ ولكم ان تتصوروا سعادة تلميذ في الكتّاب وهو يستقبل سيدته علياء في حصة دامت 8 ساعات ….ياااااااااااااااه كنت منذ اللحظة الاولى لانطلاق البرنامج “مزبهلا” بهذه القامة الفارعة اعلاميا وكنت كثيرا ما استرق النظر الى عينيها علني استشف منها بعض الرضى … قلت استرق النظر لاني والله لم اكن قادرا على التحديق في مقلتيها …يا لكاريزمتها ويا لضعفي … يا لجبروتها الجميل الممتع ويا لـ …لست ادري ماذا بالنسبة لي …

هو خليط من الانبهار والفخر والخوف من اية زلة او حرف يخدش سمفونية اللقاء …كنت والله كتلميذ يكتب انشاء وينتظر رد فعل معلمه بكثير من الرهبة والخوف على ما كتب …كانت متقدمة في السن نعم …ولكنها ولأني احبها بشكل خرافي كانت ليلتها عروس البرنامج وكانت الملكة بتاج فكرها وبحنية عواطفها …انها السيدة علياء وما ادراك …ولكم الان ان تتصوروا سعادتي في خاتمة البرنامج وانا اسالها بكل رجاء وخوف ان تختم اللقاء بكلمة حرة …صمتت السيدة علياء بعض الثواني ـ القرون ثم نظرت لي بعين الام الحنون وقالت …يا ابني عبدالكريم اقسم بالله العظيم انني وانا التي دعيت لعديد البرامج الاذاعية والتلفزية لتكريمي، اقسم انني لم احس بالسعادة التي احسست بها الليلة … لن انس هذه الليلة يا ابني العزيز عبدالكريم …

ياااااااااااااااااااااااااه انا ابنها العزيز … وانا الذي كم تمنيت ان ابوس رجلها وامسح لها نعلها …تماما كما كنت افعل مع والدتي رحمهما الله … الاوسمة عند العديد يُفتخر بها عندما تأتيهم من هياكل وطنية او دولية …والاوسمة عندي هي “يرحم اللي ولد وربّى” يقولها المستمع مهما كانت الشريحة التي ينتمي اليها عمريا تعليميا جنسيا اجتماعيا … اعترافا بالجميل … والوسام عندي ان تخرج البعض من ظلمات الامية الى تعلم الكتابة ثم القراءة (ام غسان من مساكن، وحدهم العرف من الرقبة تطاوين، رحمها الله ) والوسام عندي ان تقف الى جانب الفتاة الريفية وانت تستشعر بقدرتها على الكتابة رغم محدودية مستواها التعليمي فتبث فيها الارادة والحب والامل واذا بك تفاجأ بها يوما قصاصة (بنت القرية من وذرف)…

والوسام ان يقف امام مبنى الاذاعة في ثورة الخبز مواطن عادي قبل بداية برنامجي الصباحي (العاشرة صباحا) ويرجوني بكل قوة ان لا امتع لساني في مثل هذا اليوم حتى لا نفقدك نحن احباؤك …و لان تونس في حاجة لك ولامثالك __هكذا قالها ذلك الموطن العادي _بدجين ومريول وعيناه تبرقان خوفا ورجاء وصدقا …. 1996 ثم افاجأ سنة بموظف عال في وزارة الداخلية بعدد من النجوم تحلي لباسه ليقول لي: نعم هو ذاك انا الذي وجدتني امام مبنى الاذاعة يوم ثورة الخبز … ويضيف احباء تونس في كل القطاعات يا سي عبدالكريم … اخيرا وليس آخرا …الوسام ان تقول لي السيدة علياء لن انسى هذه الليلة يا ابني العزيز …كنت اكو ن اقل سعادة لو وصفتني بالمنشط الناجح …افهموها ماذا تعني عندي …انا ابنها العزيز ….

هكذا كانت البداية مع المذياع …ولان سيدي ابن آدم يعطيوه الكرع يمد ايدو للجديق … اصبحت وخاصة في العطل (وهي ثلاثة سنويا …نصف شهر لعطلة الشتاء …نصف شهر لعطلة الربيع … وثلاثة اشهر لعطلة الصيف).. اصبحت مقيما يوميا في دار الجيران كامل اليوم باستثناء وقت الغداء…الوالدة رحمها الله كانت تهددني بغلق سفارتنا مع دار الجيران ان انا تغديت معهم (“عيب كيفاش ناكلو في دار الجيران ..اش يقولو علينا ؟؟”)..ولاني كنت شديد الخوف في طفولتي تجاه والدتي الى درجة انها كانت تقول لي قف والله كان ما تاقفش نقتلك …فاذعن واقف … كنت انفذ تعليماتها دون جدل اوجدال …يااااااااااااااااااااااااااااه كم هي جميلة حتى في دكتاتوريتها التي لم اع عمقها الا في مراحل متقدمة من عمري وساعود لتلك الدكتاتورية في ورقات قادمة …

اقامتي بـ”ريزيدانس” ملاك اصبحت يومية وبدات اكتشف القامات والهامات في الاذاعة الوطنية انذاك …انذاك ونظرا لغياب عالم التنشيط تماما كانت كل البرامج مسجلة تقريبا باستثناء الاخبار والمباريات الرياضية والربط بين البرامج الذي يقوم به مذيعو الربط … في مثل هذه الحالات اذاعيا الصوت هو المحدد لاختيار المذيعين …ويكفي ان اذكر بعض الاسماء : عادل يوسف عبدالعزيز الرياحي نجوى اكرام، وفي تقديم الاخبار محمد المحرزي حامد الدبابي (نشرة الصباح) احمد العموري وخاصة منير شما …الذي انتقل في ما بعد للعمل باذاعة لندن …كانت حنجرات ذهبية ونطقا سليما وهيبة دولة …اعني هيبة اذاعة …هذه الهيبة الاذاعية التي “مرمدوها” في هذا الزمن الرديء وساعود حتما لهذا المحور في ورقات اخرى…

الاذاعة ايضا انذاك كانت في النهار مقتصرة في برامجها اما على الجانب التوعوي او الغنائي ولعل اشهر البرامج الغنائية انذاك قافلة تسير اسبوعيا مع اسماعيل الحطاب (اغان شعبية بدوية) وخاصة برنامج اغنية لكل مستمع وهو برنامج يعتمد على اهداءات الاغاني والمصدر الوحيد انذاك قصاصات مجلة الإذاعة … من الحادية عشرة الى منتصف النهار … كذلك كانت هنالك برامج تمثيلية وهذه كانت تستهويني جدا …كنت منبهرا بصوت الممثل محمد الهادي وبعبد السلام البش وفاطمة البحري وجميلة العرابي رحم الله من مات منهم … وكان لهؤلاء وخاصة محمد الهادي تأثير كبير على حبي للالقاء خاصة ….مما جعلني ابرز فيه في نشاطي المدرسي بالتعليم الثانوي (مسرحا) مع المرحوم عياد السويسي وشاركت انذاك في مسابقة جهوية للالقاء ترأس لجنة تحكيمها العملاق المسرحي حسن الزمرلي وفزت بالجائزة الاولى بقصيدة الزوج القاتل لتيمور (احببتها حب الوليد لامه… ورعيت هذا الحب لا اتبرم ، هذا مطلعها) وتختم ببيت المتنبي (لا يسلم الشرف الرفيع من الاذى … حتى يراق على جوانبه الدم ) …

لست ادري كيف يتعامل المستمع في هذا الزمن مع جهاز المذياع …كنت لا احس به الا وانا احتضن الجهاز وكان الجميع يخافون على “كريّم” من التيار الكهربائي …لم تكن بطاريات انذاك …وكانت امي عويشة رحمها الله تردد (مرحبا بيك في كل وقت اما رد بالك من الكوران… اش يصير فينا يا وليدي وكيفاش نسلمو من عيادة لو كان لا قدر الله يضربك الكوران) وكأن احساسي لا يكتمل ومتعتي لا احس بها الا والمذياع في حضني …تقولون القدر …؟؟؟.. فبحيث لربما… انذاك كانت المحطة الوحيدة التي استمع اليها يوميا الاذاعة الوطنية …لذلك لا اشكال مع الجهاز (راديولا او فيليبس) حيث تتثبت الابرة على موجة الاذاعة الوطنية حتى موعد تقاعدها …

في تلك السن ايضا اكتشفنا السينما ….اي نعم …لقائل ان يقول كيف ذلك وانا الذي لم اقصد يوما المدينة الا عندما حملني ابي للمصور (الزواري بنهج الباي) لاعداد صورة لبطاقة التعريف المدرسية التي نستطيع بها ا ن نجتاز امتحان السيزيام … نعم كانت اول مرة في حياتي اغادر فيها “قبيلة” الساقية لاكتشف صفافس المدينة وكان هنالك مصوران فوتوغرافيان فقط الزواري والفريخة ثم التحق بهما بعد زمن بللعج …الان بين مصور ومصور (وهم في جلهم اشباه مصورين) تجد مصورا …السيد الزواري رحمه الله كان يعمل مع اخيه …اخوه للاستقبال وللاستخلاص وهو يمكيج للحرفاء …والماكياج هنا يقتصر على مشط الشعر وإلباس الحريف من الصغار فيستة وكرافات … ولمعلوماتكم فيستة وكرافات وحيدة …لذلك يسهل على الجميع معرفة هوية المصور من خلال العلامة المميزة والمشفرة والمسجلة في دفترخانة ايزو (الفيستة والكرافات) …

اذن كيف لنا ان نذهب الى السينما ونحن لا نعرف يوما المدينة ..؟؟؟ بسيطة … السينما كان يأتي الينا ….نعم كانت كتابة الدولة للارشاد والثقافة والاعلام تخصص حافلات تنتقل الى عديد القرى لتزيح عنهم كابوس القلق المقرف من جهة، وذلك ببعض الافلام المصرية التي عادة ما تكون اما غنائية (فريد وعبدالحليم خاصة) او افلام الصحيح فيها ما يموتش (فريد شوقي المليجي وتوفيق الذقن) … ولكن ومن جهة اخرى وهذا هدف ايضا من اهداف تلك السيارة ….كانت هذه العروض مسبوقة دوما بنشرة اخبارية لأهم الاحداث في ذلك الشهر، السياسية منها والرياضية وبصوت الكبير احمد العموري .. .وطبعا تبدأ هذه السيارة الحافلة منذ العشية في الترويج لبرنامجها وكان كل ما يهم الاب الشعرواي سماع جملة (اماكن خاصة بالنساء) …انذاك يصدر الاب قراره المعتق للرقاب بكلمة (سيكورو) وهي نفس اللفظة الايطالية والتي تعني الامن، لا خوف على الحريم …شفتو الوالد رحمه الله كم كان متعدد اللغات …

كنا نخرج على بكرة ابينا للحدث …النساء متلحفات بسفاسيرهن وبعضهن بخامة سوداء على نصف وجوههن (النقاب التونسي) والاطفال انصاف حفاة انصاف عراة …والكبار من الشباب يتزينون ويحلقون اللحية محافظين على الشنب رمز الفتوة والرجولة انذاك، طامعين في نظرة عابرة على صبية تتعمد اما رفع صوتها على اخيها الذي يريد ان يتخلص من قيد معصمها وهي تولول (اقعد هوني يعطيك رشقة) … وهي في الحقيقة تريد من بعض الشباب ان يستمعوا الى صوتها العذب والذي هو غالبا ما يكون “يفجع” … ولكن اشكون يعرف … يمشي الجافل ويجي الغافل… او هي تتعمد اطاحة السفساري من على راسها ليظهر نصفها الاعلى وهي ايضا طامعة في ان تعرض بعض محاسنها علها تجد العريس الذي طال انتظاره (وهي في السابعة عشرة من عمرها) …على فكرة، وصول الفتاة في ذلك الزمن الى سن العشرين دون زواج يعني مصيبة لها وللعائلة… خاصة والنساء العجائز في السن يرددن على مسامعها _(يا بنيتي ما تتشرطش خوذ اول واحد يجيك ماهو الا راجل ..اما خير والا تقعد بايرة) …وترد المسكينة واسنانها تعزف نغمة الغضب الشديد: بالله سكر عليا كشختك عزوزة الستوت هذي …احنا لقيناه باش نتشرطو …وترد العجوز ..كلمتني يا بنيتي ..فتردف الصبية لا لا نغني في يا تكسي الغرام …

قدوم تلك السيارة كان مهرجانا باتم معنى الكلمة …. ولعل ما اتذكره جيدا اننا في تلك السن كنا نتفاعل خاصة مع افلام القصص التي يلتقي فيها فريد شوقي والمليجي اذ تصل درجة تفاعلنا مع البطل (فريد شوقي) الى الصياح، ومحمود الملليجي يتصيده وراء جدار _(“رد بالك اهو قفاك” او “اوكة قفا الكاناباي” أي الفوتاي) … وكم تكون فرحتنا وتصفير البعض منا (سواي لاني لم اجد يوما فن التصفير) كم تكون فرحتنا كبيرة وفريد شوقي “يدمدم ” المليجي او الذقن و_يفرشخو تفرشيخ …

اصل بكم الان الى سنة هي ايضا مفصلية في حياتي كطفل …انها سنة السيزيام …يااااااااااااه اعيدها لجيلي: الا تحسون. باليتم معي .؟؟؟؟ …

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

التقصي عن أمراض السكري وضغط الدم… وليس عن أعوان التلفزة!

نشرت

في

محمد الزمزاري:

انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.

الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.

طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.

وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.

أكمل القراءة

صن نار