… سن العاشرة في حياتي ـ واتصورها في حياة جل الاطفال ـ سن بداية الادراك لابجدية بعض معاني الحياة وهي ايضا سن التفطن لبعض السلوكيات التي لم نكن نفقه فيها الكثير …
في تلك السن مثلا بدأت اكتشاف المذياع من خلال مقدم جيران جدد لنا (عائلة ملاك) عائلة احبتني واحتضنتني بورك فيها ورحم الله امي عويشة والصحة لبقية افراد عائلتها، ثلاثة عزاب وبنت …كنت طفلهم المدلل وكنت وخاصة في العطل المتمتع بتأشيرة اقامة دائمة بحوشهم الاكثر رفاهة من حوشنا …غرفه مأثثة وسط داره مغطى (بمعنى آخر كامل الاوصاف فتني) وفي الحقيقة “وما حب الديار سكنّ قلبي ولكن حب من سكن الديار” وهنا اعني المذياع ولا شيء غيره …ضربة البداية كانت مع دعوتهم لي صبيحة الاحد للاستماع الى برنامج الاطفال (جنة الاطفال للسيدة علياء) ودعوني اوضح امرا هاما في هذه النقطة …
ان كل ما اقوله في هذه المرأة العظيمة لن يفيها حقها …منذ اللحظة الاولى التي استمعت الى ذبذبات صوتها وهي تفتح البرنامج بمقدمتها الشهيرة الدائمة: صباح الخير يا لولاد … ويرد عليها الاطفال بـ: صباح الخير سيدة علياء … احسست بوقع سحري ينفذ الى اعماق اعماق اعماقي … كنت ارى في صوتها نهرا ينساب في كل خلية من جسدي …كنت اشاهد في ضحكاتها احيانا وفي عتابها الجميل لاطفالها، ذلك الملاك الذي يرفرف بجناحه الابيض ليحملني تحت ابطه ويحلق بي في عوالم جميلة … كنت احسد (ولا اقول اغبط) لان مشاعري انذاك كانت بالفعل حسدا لمجموعة الاطفال الذين يشاركون معها في الحصة …
تمنيت ان اكون محمد الامين الغربي، احد اشهر الاطفال في التمثيل في حصتها … او مريم الجربي التي انطلقت كمطربة مع السيدة علياء وهي بنية صغيرة وواصلت الغناء كمطربة شابة لم يكتب لها النجاح … كانت تتغنى بالاغنية البوز انذاك “عاد ابي للدار من عمل النهار” … وكنت خاصة اكره شديد الكراهية “عم راشد” الذي يشاركها في بعض فقرات الحصة … اكرهه لا لشيء الا لانه ياخذ مني صوت السيدة علياء لنزر قليل من الوقت … ولأن الزمان يعيد نفسه (عذرا لاساتذة التاريخ) فانني كم ضحكت وانا اتصفح رسائل المستمعين عند تنشيطي لبعض البرامج بشكل ثنائي مع بعض الزملاء …هؤلاء المستمعون الذين يعبرون عن ضجرهم من الوقت الذي ياخذ فيه زميلي المصدح …. ولا اشك ان عديد الزملاء الاذاعيين يعبر لهم مستمعوهم عن نفس الشعور …
كنت اتسمر كل احد بداية من الساعة الثامنة والنصف امام مذياع الجيران في انتظار جنة الاطفال التي تنطلق مع تمام التاسعة … اتذكر جيدا ان الجنة كانت مسبوقة دوما باغان فكاهية … المورالي والخميسي والسملالي والجراري وغيرهم… وكانت الساعة التي اقضيها في ترشف الجنة جنة بحق …فيها ما لا عين رأت، رغم الخيال المجنح الذي اعيشه فتتحول الكلمة الى صورة بالابيض والاسود (الالوان لم يحل ركبها في ذلك الزمن) ولكن فيها أذن سمعت وسمعت وسمعت …. وهنا لابد من الاشارة الى ان حلمي الذي كان يقتصر على رؤية هذه المرأة العظيمة في تأطير اجيال واجيال من الاطفال لم اكن اطلاقا اتصور انه سيتحقق وبشكل رائع الى حد الثمالة …
في نهاية التسعينات وفي احد اعياد ميلاد اذاعة صفاقس ارتأيت ان يكون عيد الاذاعة عيدين …ارتأيت ان ارد الجميل لعلمين من اعلام الاذاعة، السيدة علياء ومحمد حفظي رحمهما الله … واثثت البرنامج الخاص حولهما باعتبارهما رمزين من رموز الاذاعة … بكل امانة همي الاكبر كان: هل توافق هذه الاستاذة في تلبية الدعوة؟ اعني هي التي كانت تهمني بدرجة اولى وثانية وثالثة واخيرة …_ ولكم ان تتصوروا سعادة تلميذ في الكتّاب وهو يستقبل سيدته علياء في حصة دامت 8 ساعات ….ياااااااااااااااه كنت منذ اللحظة الاولى لانطلاق البرنامج “مزبهلا” بهذه القامة الفارعة اعلاميا وكنت كثيرا ما استرق النظر الى عينيها علني استشف منها بعض الرضى … قلت استرق النظر لاني والله لم اكن قادرا على التحديق في مقلتيها …يا لكاريزمتها ويا لضعفي … يا لجبروتها الجميل الممتع ويا لـ …لست ادري ماذا بالنسبة لي …
هو خليط من الانبهار والفخر والخوف من اية زلة او حرف يخدش سمفونية اللقاء …كنت والله كتلميذ يكتب انشاء وينتظر رد فعل معلمه بكثير من الرهبة والخوف على ما كتب …كانت متقدمة في السن نعم …ولكنها ولأني احبها بشكل خرافي كانت ليلتها عروس البرنامج وكانت الملكة بتاج فكرها وبحنية عواطفها …انها السيدة علياء وما ادراك …ولكم الان ان تتصوروا سعادتي في خاتمة البرنامج وانا اسالها بكل رجاء وخوف ان تختم اللقاء بكلمة حرة …صمتت السيدة علياء بعض الثواني ـ القرون ثم نظرت لي بعين الام الحنون وقالت …يا ابني عبدالكريم اقسم بالله العظيم انني وانا التي دعيت لعديد البرامج الاذاعية والتلفزية لتكريمي، اقسم انني لم احس بالسعادة التي احسست بها الليلة … لن انس هذه الليلة يا ابني العزيز عبدالكريم …
ياااااااااااااااااااااااااه انا ابنها العزيز … وانا الذي كم تمنيت ان ابوس رجلها وامسح لها نعلها …تماما كما كنت افعل مع والدتي رحمهما الله … الاوسمة عند العديد يُفتخر بها عندما تأتيهم من هياكل وطنية او دولية …والاوسمة عندي هي “يرحم اللي ولد وربّى” يقولها المستمع مهما كانت الشريحة التي ينتمي اليها عمريا تعليميا جنسيا اجتماعيا … اعترافا بالجميل … والوسام عندي ان تخرج البعض من ظلمات الامية الى تعلم الكتابة ثم القراءة (ام غسان من مساكن، وحدهم العرف من الرقبة تطاوين، رحمها الله ) والوسام عندي ان تقف الى جانب الفتاة الريفية وانت تستشعر بقدرتها على الكتابة رغم محدودية مستواها التعليمي فتبث فيها الارادة والحب والامل واذا بك تفاجأ بها يوما قصاصة (بنت القرية من وذرف)…
والوسام ان يقف امام مبنى الاذاعة في ثورة الخبز مواطن عادي قبل بداية برنامجي الصباحي (العاشرة صباحا) ويرجوني بكل قوة ان لا امتع لساني في مثل هذا اليوم حتى لا نفقدك نحن احباؤك …و لان تونس في حاجة لك ولامثالك __هكذا قالها ذلك الموطن العادي _بدجين ومريول وعيناه تبرقان خوفا ورجاء وصدقا …. 1996 ثم افاجأ سنة بموظف عال في وزارة الداخلية بعدد من النجوم تحلي لباسه ليقول لي: نعم هو ذاك انا الذي وجدتني امام مبنى الاذاعة يوم ثورة الخبز … ويضيف احباء تونس في كل القطاعات يا سي عبدالكريم … اخيرا وليس آخرا …الوسام ان تقول لي السيدة علياء لن انسى هذه الليلة يا ابني العزيز …كنت اكو ن اقل سعادة لو وصفتني بالمنشط الناجح …افهموها ماذا تعني عندي …انا ابنها العزيز ….
هكذا كانت البداية مع المذياع …ولان سيدي ابن آدم يعطيوه الكرع يمد ايدو للجديق … اصبحت وخاصة في العطل (وهي ثلاثة سنويا …نصف شهر لعطلة الشتاء …نصف شهر لعطلة الربيع … وثلاثة اشهر لعطلة الصيف).. اصبحت مقيما يوميا في دار الجيران كامل اليوم باستثناء وقت الغداء…الوالدة رحمها الله كانت تهددني بغلق سفارتنا مع دار الجيران ان انا تغديت معهم (“عيب كيفاش ناكلو في دار الجيران ..اش يقولو علينا ؟؟”)..ولاني كنت شديد الخوف في طفولتي تجاه والدتي الى درجة انها كانت تقول لي قف والله كان ما تاقفش نقتلك …فاذعن واقف … كنت انفذ تعليماتها دون جدل اوجدال …يااااااااااااااااااااااااااااه كم هي جميلة حتى في دكتاتوريتها التي لم اع عمقها الا في مراحل متقدمة من عمري وساعود لتلك الدكتاتورية في ورقات قادمة …
اقامتي بـ”ريزيدانس” ملاك اصبحت يومية وبدات اكتشف القامات والهامات في الاذاعة الوطنية انذاك …انذاك ونظرا لغياب عالم التنشيط تماما كانت كل البرامج مسجلة تقريبا باستثناء الاخبار والمباريات الرياضية والربط بين البرامج الذي يقوم به مذيعو الربط … في مثل هذه الحالات اذاعيا الصوت هو المحدد لاختيار المذيعين …ويكفي ان اذكر بعض الاسماء : عادل يوسف عبدالعزيز الرياحي نجوى اكرام، وفي تقديم الاخبار محمد المحرزي حامد الدبابي (نشرة الصباح) احمد العموري وخاصة منير شما …الذي انتقل في ما بعد للعمل باذاعة لندن …كانت حنجرات ذهبية ونطقا سليما وهيبة دولة …اعني هيبة اذاعة …هذه الهيبة الاذاعية التي “مرمدوها” في هذا الزمن الرديء وساعود حتما لهذا المحور في ورقات اخرى…
الاذاعة ايضا انذاك كانت في النهار مقتصرة في برامجها اما على الجانب التوعوي او الغنائي ولعل اشهر البرامج الغنائية انذاك قافلة تسير اسبوعيا مع اسماعيل الحطاب (اغان شعبية بدوية) وخاصة برنامج اغنية لكل مستمع وهو برنامج يعتمد على اهداءات الاغاني والمصدر الوحيد انذاك قصاصات مجلة الإذاعة … من الحادية عشرة الى منتصف النهار … كذلك كانت هنالك برامج تمثيلية وهذه كانت تستهويني جدا …كنت منبهرا بصوت الممثل محمد الهادي وبعبد السلام البش وفاطمة البحري وجميلة العرابي رحم الله من مات منهم … وكان لهؤلاء وخاصة محمد الهادي تأثير كبير على حبي للالقاء خاصة ….مما جعلني ابرز فيه في نشاطي المدرسي بالتعليم الثانوي (مسرحا) مع المرحوم عياد السويسي وشاركت انذاك في مسابقة جهوية للالقاء ترأس لجنة تحكيمها العملاق المسرحي حسن الزمرلي وفزت بالجائزة الاولى بقصيدة الزوج القاتل لتيمور (احببتها حب الوليد لامه… ورعيت هذا الحب لا اتبرم ، هذا مطلعها) وتختم ببيت المتنبي (لا يسلم الشرف الرفيع من الاذى … حتى يراق على جوانبه الدم ) …
لست ادري كيف يتعامل المستمع في هذا الزمن مع جهاز المذياع …كنت لا احس به الا وانا احتضن الجهاز وكان الجميع يخافون على “كريّم” من التيار الكهربائي …لم تكن بطاريات انذاك …وكانت امي عويشة رحمها الله تردد (مرحبا بيك في كل وقت اما رد بالك من الكوران… اش يصير فينا يا وليدي وكيفاش نسلمو من عيادة لو كان لا قدر الله يضربك الكوران) وكأن احساسي لا يكتمل ومتعتي لا احس بها الا والمذياع في حضني …تقولون القدر …؟؟؟.. فبحيث لربما… انذاك كانت المحطة الوحيدة التي استمع اليها يوميا الاذاعة الوطنية …لذلك لا اشكال مع الجهاز (راديولا او فيليبس) حيث تتثبت الابرة على موجة الاذاعة الوطنية حتى موعد تقاعدها …
في تلك السن ايضا اكتشفنا السينما ….اي نعم …لقائل ان يقول كيف ذلك وانا الذي لم اقصد يوما المدينة الا عندما حملني ابي للمصور (الزواري بنهج الباي) لاعداد صورة لبطاقة التعريف المدرسية التي نستطيع بها ا ن نجتاز امتحان السيزيام … نعم كانت اول مرة في حياتي اغادر فيها “قبيلة” الساقية لاكتشف صفافس المدينة وكان هنالك مصوران فوتوغرافيان فقط الزواري والفريخة ثم التحق بهما بعد زمن بللعج …الان بين مصور ومصور (وهم في جلهم اشباه مصورين) تجد مصورا …السيد الزواري رحمه الله كان يعمل مع اخيه …اخوه للاستقبال وللاستخلاص وهو يمكيج للحرفاء …والماكياج هنا يقتصر على مشط الشعر وإلباس الحريف من الصغار فيستة وكرافات … ولمعلوماتكم فيستة وكرافات وحيدة …لذلك يسهل على الجميع معرفة هوية المصور من خلال العلامة المميزة والمشفرة والمسجلة في دفترخانة ايزو (الفيستة والكرافات) …
اذن كيف لنا ان نذهب الى السينما ونحن لا نعرف يوما المدينة ..؟؟؟ بسيطة … السينما كان يأتي الينا ….نعم كانت كتابة الدولة للارشاد والثقافة والاعلام تخصص حافلات تنتقل الى عديد القرى لتزيح عنهم كابوس القلق المقرف من جهة، وذلك ببعض الافلام المصرية التي عادة ما تكون اما غنائية (فريد وعبدالحليم خاصة) او افلام الصحيح فيها ما يموتش (فريد شوقي المليجي وتوفيق الذقن) … ولكن ومن جهة اخرى وهذا هدف ايضا من اهداف تلك السيارة ….كانت هذه العروض مسبوقة دوما بنشرة اخبارية لأهم الاحداث في ذلك الشهر، السياسية منها والرياضية وبصوت الكبير احمد العموري .. .وطبعا تبدأ هذه السيارة الحافلة منذ العشية في الترويج لبرنامجها وكان كل ما يهم الاب الشعرواي سماع جملة (اماكن خاصة بالنساء) …انذاك يصدر الاب قراره المعتق للرقاب بكلمة (سيكورو) وهي نفس اللفظة الايطالية والتي تعني الامن، لا خوف على الحريم …شفتو الوالد رحمه الله كم كان متعدد اللغات …
كنا نخرج على بكرة ابينا للحدث …النساء متلحفات بسفاسيرهن وبعضهن بخامة سوداء على نصف وجوههن (النقاب التونسي) والاطفال انصاف حفاة انصاف عراة …والكبار من الشباب يتزينون ويحلقون اللحية محافظين على الشنب رمز الفتوة والرجولة انذاك، طامعين في نظرة عابرة على صبية تتعمد اما رفع صوتها على اخيها الذي يريد ان يتخلص من قيد معصمها وهي تولول (اقعد هوني يعطيك رشقة) … وهي في الحقيقة تريد من بعض الشباب ان يستمعوا الى صوتها العذب والذي هو غالبا ما يكون “يفجع” … ولكن اشكون يعرف … يمشي الجافل ويجي الغافل… او هي تتعمد اطاحة السفساري من على راسها ليظهر نصفها الاعلى وهي ايضا طامعة في ان تعرض بعض محاسنها علها تجد العريس الذي طال انتظاره (وهي في السابعة عشرة من عمرها) …على فكرة، وصول الفتاة في ذلك الزمن الى سن العشرين دون زواج يعني مصيبة لها وللعائلة… خاصة والنساء العجائز في السن يرددن على مسامعها _(يا بنيتي ما تتشرطش خوذ اول واحد يجيك ماهو الا راجل ..اما خير والا تقعد بايرة) …وترد المسكينة واسنانها تعزف نغمة الغضب الشديد: بالله سكر عليا كشختك عزوزة الستوت هذي …احنا لقيناه باش نتشرطو …وترد العجوز ..كلمتني يا بنيتي ..فتردف الصبية لا لا نغني في يا تكسي الغرام …
قدوم تلك السيارة كان مهرجانا باتم معنى الكلمة …. ولعل ما اتذكره جيدا اننا في تلك السن كنا نتفاعل خاصة مع افلام القصص التي يلتقي فيها فريد شوقي والمليجي اذ تصل درجة تفاعلنا مع البطل (فريد شوقي) الى الصياح، ومحمود الملليجي يتصيده وراء جدار _(“رد بالك اهو قفاك” او “اوكة قفا الكاناباي” أي الفوتاي) … وكم تكون فرحتنا وتصفير البعض منا (سواي لاني لم اجد يوما فن التصفير) كم تكون فرحتنا كبيرة وفريد شوقي “يدمدم ” المليجي او الذقن و_يفرشخو تفرشيخ …
اصل بكم الان الى سنة هي ايضا مفصلية في حياتي كطفل …انها سنة السيزيام …يااااااااااااه اعيدها لجيلي: الا تحسون. باليتم معي .؟؟؟؟ …