عبد الكريم قطاطة:
عندما عُينت رسميا سنة 1998 رئيسا لمصلحة البرمجة باذاعة صفاقس، كنت مدركا جدا انّ ذلك التعيين يعني بالنسبة لي اعادة هيكلة المصلحة اداريا ومحاولة لتنظيم العمل فيها شكلا ومحتوى…
المصلحة وحسب المخطط الوظيفي الجديد كانت كالاتي: انا كرئيس مصلحة… زميلي عبدالجليل بن عبد الله كمساعد رئيس مصلحة… زميلي المرحوم جمال الدين خليف كرئيس قسم للبرامج المسجلة والتمثيلية… وزميلي المرحوم فتحي عطية الله كمسؤول عن اعداد الدليل اليومي للبث وعن الومضات الاشهارية… وطبعا كلهم تحت اشرافي… وكان لابدّ من تغييرات جذرية حسب رؤيتي وتجربتي في الميدان… كنت مثلا مستغربا جدا من وجود خليّة للاستماع للبرامج المسجلة… ودورها متمثل في المتابعة الدقيقة وحذف ما وجب حذفه والتعليق على محتواها من حيث الشكل والمضمون.. حتى تستفيد الادارة من تلك الملاحظات في شبكتها البرامجية المقبلة فتدعم من يستحق الدعم وتتخلى عمن اثبت انه غير جدير بالوجود الاذاعي … وهذا معمول به في كلّ الاذاعات…
اذن لماذ قلت (كنت مستغربا جدا) ؟ لانه بالنسبة لي من غير المنطقي ان نتابع البرامج المسجلة والتي لا تصل حجما الى اكثر من 10 في الـ100 من البث اليومي في حين لا تخضع البرامج المباشرة لايّة متابعة… بالنسبة لي كان ذلك خور لا يقبله المنطق… لذلك ودائما بالتشاور مع السيد عبدالقادر عقير، احدثت نواة لمتابعة البرامج المباشرة، هدفها الاساسي مدّ الادارة بملاحظاتها بعد متابعتها ولنفس الغرض… معرفة تلك البرامج شكلا ومحتوى حتى يقع التقييم العلمي لجودتها… وكانت هذه النواة مكلفة يوميا وعلى شكل 3 فترات منذ انطلاق البث حتى اختتامه، بحيث يتكفل المتابع بفترة واحدة بشكل متداول مع زميليه الاخرين… حتى لا يبقى مراقب الفترة الصباحية هو نفسه…
والهدف من هذا كان تنوّع الملاحظات والانطباعات من جهة، واخذ الاحتياطات المهنية والتي قد يكون من نتائجها السيئة تكوين عائلة دائمة لفترة ما، مما يخلّ بالنقد الصادق النزيه لمتابعي الانتاج… هذه المبادرة في بدايتها لاقت نوعا من التذمّر الخفيّ… اي نعم بعض المنتجين والمنشطين اعتبروا العملية عملية مراقبة وصنصرة لحريتهم … بينما كنت حريصا على تطبيق المقولة الفرنسية CONFIANCE C’EST BIEN, CONTROLE C’EST MIEUX… اي نعم للثقة لكن المراقبة افضل .. وهنا اعني بالمراقبة التي يستفيد منها كل الاطراف فالملاحظات التي يكتبها متابع البث اقوم بقراءتها بكل انتباه… ومن خلالها اتوجه اولا بالنصح لذلك المنشط لتفادي الاخطاء، ثم أعتمدها مع الادارة عند تقييم ايّ شبكة والاعداد للشبكة التي تليها… مهمة متابعي الانتاج اسندتها لزملاء اثق في صدقهم وكفاءتهم وفي نفس الوقت هم بعيدون عن الانتاج، حتى لا يكونوا خصما وحكما…
العنصر الثاني الذي اهتممت به في مصلحة البرمجة وعالجته بكلّ صعوبة في البداية لاني وجدت فيه عدم اقتناع كلّي به من بعض المنتجين لكنّ هؤلاء وبكل امانة انصاعوا للامر … لانّي لا اقبل الخضوع للجمهور عاوز كدة… العنصر الثاني يخصّ دليل البرنامج الذي يجب ان يعدّه المنشط بكثير من التفاصيل التي تهم برنامجه… وهنا انزلت الادارة وبطلب منّي مذكرة تمنع الفني من تنفيذ اي برنامج لا يقدم فيه صاحبه دليل برنامجه ممضى مني كرئيس مصلحة البرمجة… العملية هي عملية تنظيمية تخص المنشط حتى يدخل للاستوديو وهو واع بكل تفاصيل ما يجب تقديمه… ومن جهة اخرى يقع تقديم هذا الدليل للمصلحة حتى تتمكن من مراقبة المحتوى، مواضيع وضيوفا واغاني لتفادي تكرارها في برامج اخرى…
للامانة… ساقصّ عليكم حادثة وقعت مع احد المنتجين الذي كان يدخل للاستوديو بدليل برنامج فيه اسم البرنامج واسم المنشط… وفقط… نعم حتى الاغاني يترك اختيارها للفنّي…(لا .. ويخرج فرحان بروحو بعد انتهاء البرنامج)… هذا الواقع بالنسبة لي هو استسهال واستهتار بالعمل وسرقة للكاشيه الذي يتقاضاه… واحد من هؤلاء دخل الى مكتبي بعد التزامه بقرار دليل البرنامج المفصّل ومكرها كان لا بطلا… بعد شهرين من التزامه الاجباري باعداد دليل البرنامج دقّ باب مكتبي واستاذن… اذنت له… جلس على كرسيه وعيناه مثبتتان في الارض… بقي صامتا ولم ينبس بربع كلمة… بادرته بالسؤال: (اشبيك خويا العزيز عندك مشكلة ؟)… اجابني نعم عندي مشكلة وما نجمتش نحكي عليها ولكن يلزم نحكيلك عليها ..
نهضت من مقعدي كرئيس مصلحة وجلست على الكرسيّ الذي قبالته… وقلت له: هات ما عندك انا راهو خوك قبل كلّ شيء… نظر اليّ وعيناه تنبئان بدموع قد تنزل وقال: (جيتك باش نطلب منك السماح)… نظرت اليه باستغراب وقلت: (انا مسامحك رغم اني ما نتذكرش بالكل انك عملتلي حاجة خايبة)… قال لي: (تتذكّر وقت هبطت هاكي المذكرة الخاصة بدليل البرنامج؟) ..قلتلو: طبعا… قللي: (تعرف؟ المدة الاولى نغزر للشيطان وما نغزرلكش… وبعد وقت طبقت الفكرة عرفت قداش عندك حق وقداش وليت نخدم مرتاح وفرحان .. وجيت باش نعتذرلك)… قمت من الكرسي وعانقته وقلت له: (اعتبر ما صار شيء وانت امس واليوم وغدوة خويا)…
ولكن تجربتي سواء كرئيس مصلحة البرمجة او كرئيس مصلحة الانتاج التلفزي اثبتت انه وفي ايّة مهنة… الاخوة الاصفياء عملة غير متداولة بكثرة…
ـ يتبع ـ