تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 29

نشرت

في

Cinéma : 8 910 626 photos libres de droits et images de stock | Shutterstock

يوم دخلت القسم اوّل مرة كمعلّم …انتابني شعور رهيب ..الشعور بجسامة مسؤوليتي ..كنت امام مجموعة من الصبية بوجوه آية في البراءة… وكانوا ينظرون باعجاب مشوب بدهشة الى معلّم شاب جدا من جهة ..وانيق جدا من جهة ثانية ..

عبد الكريم قطاطة
<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

كان هندامي متناسقا وكان حذائي لمّاعا وكانت ميدعتي ناصعة البياض لا كالتي يرتديها جل المعلمين في مدارسهم، حيث هي اشبه شيء بلوحة زيتية عديمة الذوق تختلط الالوان فيها … فهذه بقعة من بقية طعام ..وهذه آثار اقلام الحبر والطباشير تعلو زوايا اخرى منها… وهذا حذاء اسود اصبح رماديا اغبر … حاصيلو هندام في منتهى الاهمال او لنقل نوعا هي نوع من “الحُڨرة” لتلاميذ المدارس الريفية ..انا لا انكر ان جل التلاميذ في تلك المدرسة لم يكونوا على درجة كافية من النظافة ..ولكن انّى لهم بذلك ومعلمهم لا يعطي المثال والقدوة؟؟؟ اليست هي فرصة لهم ليعشقوا النظافة ويقتبسوا شيئا منها يوما ما ..؟؟ ثم ماذنب اولئك الاطفال في عمر الملائكة اذا كان حتّى ترسيمهم في منارة العلم لم يكن اقتناعا من عديد الاولياء في تلك الحقبة، لولا اجبارية التعليم التي فرضها الزعيم بورقيبة فما بالكم بنظافتهم ..؟؟؟

كانت الساعة تشير الى الثامنة صباحا عندما اصطفّ تلاميذ السنة الثانية امام القسم ..وباشارة منّي دخل الجميع وبهدوء الى قاعة القسم ..اخذ كل تلميذ مكانه دون هرج ودون خصام على الطاولات الاولى …ولم افهم مصدر ذلك الانضباط ..فانا لم اتكلّم بعد وهم لا يعرفون عنّي شيئا … جلست على حافة الطاولة وهي عادتي في التدريس حتى مع طلبتي بالجامعة في فترة لاحقة ..ربّما تأثرا ببعض الاساتذة الذين درست عندهم ..او ربّما لأنه لا الكراسي ولا الجلوس عليها كانت يوما همّي ..تناولت دفتر المناداة وبدأت في التعرّف على صغاري …وما شدّ انتباهي يومها ان اغلبية التلاميذ في قسمي يحملون لقبي “المحمّدي” و”العامري” ..كان قبالتي وجه صبوح دافئ ولطيف… محمد كمال المحمدي وبجانبه طاولة جلست عليها اختان فطوم وزهرة المحمّدي ..هما ليستا توأمين ..كل ما في الامر ان هنالك العديد من التلاميذ التحقوا في سن متقدمة بالمدارس فيحدث أن يدرس الاخوة في نفس السنة بنفس القسم …

فطوم كانت الكبرى وكانت ابتسامتها دوما حاضرة اما زهرة الصغرى فكانت ترتجف خوفا بسبب او دون سبب حتى انها كانت احيانا تكمل اجابتها عن اسئلتي بعين دامعة … دعوني اعترف لكم بأمر هام لازمني طيلة حياتي مع من وقفت امامهم كمعلّم او كاستاذ او كمؤطر … انا من زمرة اولئك الذين يغلب على اسلوبهم القساوة والشدّة ..اي الحرص الدائم …ولكن واقسم لكم بكل المقدذسات ان غايتي القصوى كانت دائما ان اكون مربّيا قبل اي شيء آخر …فانا اقول دائما لطلبتي: لا يهمّني ان تنالوا ديبلوماتكم بملاحظة حسن جدا .. بل الاهم عندي الاستفادة من كل ما تدرسونه لتعيشوا حياتكم بملاحظة ممتاز جدّا …

لهذه الاسباب حاولت ان اغرس في تلاميذي بمدرسة السبّالة عادات جديدة …علّمتهم فيما علّمت ان يقفوا جميعا عند قدوم ايّ ضيف للقسم ليسلّموا عليه وبصفة جماعية وبنغمة واحدة (“صباح الخيريا سيّدي”، صباحا …و “مساء الخير يا سيّدي” مساء) ..اما اذا قدم هذا الضيف مرّة ثانية فتكون التحيّة “مرحبا بك يا سيّدي”… وعندما اقبل المتفقد (سي الديماسي) اوّل مرة وسمع التلاميذ يقفون في لحظة واحدة وبصوت واحد صباح الخير يا سيّدي ..انبهر بهذه اللقطة البسيطة ايّما انبهار وحفظها في ذاكرته وردّ اليّ الجميل باحسن منها .. اليوم وللتعبير عن حرّية الكلمة بعد 14 جانفي يستحي مقدّم الاخبار ان يقول السيّد فلان رئيس الجمهورية او رئيس الجكومة او الوزير الفلاني …ملاّ قلّة حياء .. وملاّ جهل وملّة تخلّف …

في السبّالة علمتهم فيما علمتهم ان يجتمعوا يوم احد ليبنوا بايديهم هرما من الحجارة والاسمنت ويلونوا عليه علم تونس من جهة وخريطة تونس من الجهة الاخرى ..اعتزازا ببلدهم وبعلمه …علمتهم فيما علمتهم (وهذا خاص بتلاميذ السنة السادسة) ان يكسّروا صنم المعلّم وهو يلعبون معه طرح كورة… وان يتعاملوا معه كلاعب لا كمعلّم ..كنت بعض ايام الاحد اكوّر معهم ..وكانو في جلّهم “عضارط” جسديا والبعض منهم في سنّي او اكبر …وكنت كلّما حاولت التخلّص من اي مدافع منهم لاختلي بالحارس واسجّل، فتحوا لي “اوتوروت” حتى امرّ بسلام ..فكيف لتلميذ ان يعرقل معلّمه او يمسكه من قميصه؟! ..وكنت اغضب جدا من ذلك ..كنت اريد ان اغرس فيهم حبّ الدفاع عن اللون عن المريول عن الذات ..مهما كان اسم المنافس …

نفس تلاميذ السنة السادسة طلبوا من المدير ان اقوم بتدريسهم ساعات اضافية …ربّما لانهم احبّوا فيّ هذه العلاقة الودّية معهم ..وقبلت ذلك عن طواعية وبكل حب وايمان ..ولم اعتصم امام باب وزارة لا جلّول ولا المسعدي انذاك للمطالبة بحقّي في منحة الساعات الإضافية … فكيف للمربّي ان ياخذ اموالا وهو يدرّس ابناءه .؟؟.. تقولون عني طوبائي ؟؟ افلاطوني ..؟؟؟ غير واقعي ..؟؟ فليكن ..ولكن فخري واعتزازي اني هكذا تعلمت وهكذا سابقى ….ويوم سالني السيّد رضوان هنيّة مدير المدرسة عن كيفيّة الخلاص ابتسمت وقلت له: وهل طالبتك بخلاص …؟؟؟ انها هديّة لابنائي …

مرور الايام والاشهر الاولى في مدرسة سبّالة اولاد عسكر جعل منّي معلّما يحترمه الجميع … وفي مقدّمتهم المتفقد انذاك السيّد الديماسي ..كنت انيقا في اعداد مذكرات الدروس وفي دفتر الدروس اليومية …وللامانة كنت استعرت من احد زملائي في الدراسة الذين تخرّجوا من شعبة الترشيح بعض مذكراتهم ودفاتر دروسهم حتى اسير على منوالهم (شكرا صديقي محمد الحشيشة، وهو المعني بالامر) ..السيد الدّيماسي هذا كان لغزا في تعامله معي ..زارني ثلاث مرات للتفقّد …وكان في الاوليين يحضر الدرس ويغادر دون ان ينبس لا ببنت شفة ولا بعمّتها و ولا باحدى قريباتها … لم اكن خائفا ابدا من ايّ عدد سيعطيني ايّاه ..فانا مبتدئ وفي افضل الحالات كما تعود المبتدئون لا يمكن ان يتجاوز عدد التفقّد لهم عشرة من عشرين ..

ثم سي الديماسي هذا كان يصعب عليّ معرفة ملامح وجهه ..هو صندوق مُغلق … كنت استرق النظر احيانا له وهو يدوّن ملاحظاته ..وكنت عاجزا تماما عن فكّ شفرات ما بداخله ..يصافحني ويكتفي بـ “ربّي يعينك ولدي” …. ماذا تخبّئ لي الايام مع سي الديماسي هذا …؟؟؟ وللامانة واتصوّر ان ذلك يحدث مع اي معلّم، كنت انتقي في اغلب الحالات افضل التلاميذ للاجابة عن اسئلتي يوم التفقّد… وطبعا في مقدّمتهم كمال المحمدي وهو الذي لم يغادر المرتبة الاولى في كل امتحان ..وكم كانت سعادتي وانا التقي به يوما في عالم الفيسبوك ليصبح تلميذي النجيب الهادئ الوديع، صديقا لي رغم انّه وكغيره لم يستطع في اغلب تعاليقه او مراسيله التخلّص من “سيّدي”… وللجميع اقول انتم تسعدونني اكثر و جدا بكلمة صديقي ـ والله ـ جدا …

في التفقّد الثالث غادر الجميع القسم ولم يغادر سي الديماسي ..طلب منّي اغلاق الباب ونظر لي مليّا وقال، “شوف يا ولدي انا السنة مانيش باش نعطيك عدد ..لانو المفروض معلّم مبتدئ كيفك عادة ما يلزمش العدد يفوق 10 وفي افضل الحالات عشرة ونصف ..لكن وبكل امانة انت تستاهل 12 على الاقل ..لذا، عام الجاي نجيك ونعطيك حقّك ..ربّي يعينك وواصل في هذا الطريق” ..وخرج ولم يعد …صدقا كانت مشاعري في غاية السعادة …طز في العدد ..الذي هو في نظر جلّ الزملاء تأخير في مشواري للتدرّج في ثناياه ..الاهم عندي ان يقول عنك متفقّدك كلاما مثل ذلك الكلام …انه وسام تربوي وممّن ؟؟؟ من سي الديماسي … في تلك السنة كان قفّة المنفي (هكذا تقول عني عيادة وانا بعيد عنها) كانت قفّتي تاتيني كل اسبوع …وقفّتي هي تماما كقفّة السجين ..بما لذّ وطاب من مأكولات ايدي عيادة رحمها الله ..خاصّة انني كنت الجهلوت الاكبر في طهي طعامي ..فلا محاولاتي مع الشكشوكة ولا مع المحمّص والمقرونة، وجدت صدى طيّبا مع امعائي ..كنت (نبلبز ونحط) وهنيئا في ما بعد للكلاب السائبة بها …لا طعم ولا رائحة ولا شيء فيها من نكهة الطعام العادية ..فما بالك وانا اقارنها بنكهة ايدي عيّادة التي يشهد لها الجميع بجودة صويبعاتها في الطهي ….

كان صديقي (لطيّف المعزون، “لوريمار” ) هو من يتكفّل بمأمورية ايصال القفة لحافلة النقل العمومي الرابطة بين صفاقس والقصرين ..والتي استقبلها انا امام محطة سبالة اولاد عسكر …هذه القفة التي هي بمثابة كنز من كنوز سليمان ..كانت احيانا تحمل كنزا من كنوز بلقيس ملكة سبا ..انها رسالة من ملكة صفاقس ..من “ما ابلدك” لا يتجاوز محتواها بعض الاسطر للتعبير عن شوقها لرؤيتي واعتزازها بي وطمأنتي على انها سنتظرني وانها لي انا وليست لغيري ….طيلة تلك السنة رايتها مرة واحدة … كان ذلك عندما بلّغتها اني ادعوها ثاني عيد الفطر لكي ندخل معا الى السينما ..بلّغتها عن طريق اختي الصغرى وطمأنتها ان ساعية البريد اي اختي ستكون معنا ..حتى لا يذهب ظنّها الى تأويلات لا تليق بي وبعلاقتي معها .. كان ذلك منذ حلول شهر رمضان … طبيعي انّو الواحد يبدا يتكتك من وقتها ..باش يعيّد عيدين … وجاني الرد ..جاني الرد جاني ولقيتها بتسناني …

نعم وافقت حبيبتي على مشروع العمر ..ووجدتني يوم الثاني عيد بجانب المسرح انتظرها مع اختي… وكانت الاغنية انذاك التي تصدح بها مكبرات صوت بائعي الالعاب امام باب الديوان، “.هذه ليلتي” ..وكان المقطع انذاك (يا حبيبي طاب الهوى ما علينا ..لو حملنا الايام في راحتينا … صدفة اهدت الوجود الينا …واتاحت لقاءنا فالتقينا) ….يومها احسست بان جورج جرداق كتب الاغنية لي وبأن عبد الوهاب علم بحكايتي مع “ما ابلدك” فتفنن في العزف على اوتار قلبي واخرج من حشاشته لحنا من اروع ما لحّن لام كلثوم ..اما الست فكانت تؤدي لي انا ..لي وحدي من دون كل العالم …وهذه من الاشياء التي جعلتني يوما ما ادرك وافهم واتفهّم ما معنى ان يعتبر مستمعك انك تحكي له وحده من دون الناس وحده …وحده ..وحده …بل ويرفض رفضا قاطعا ان يقاسمه فيه ايّ احد آخر ..

يومها كانت اول مرة.نسلّم على بعضنا بالـ… بالايادي …اشنوة تحسابو الامور بالبوس وحدة في ها الخد ووحدة في ها الخد …؟؟؟ .. رغم انو توة معظم البوس وحدة في هالهواء والاخرى في الهواء الاخر …اما بوس واما تخريف ؟؟..وقتها تسلّم على وحدة بالبوس ..؟؟؟ تحب تشنع الدنيا ..؟؟… تحب تبيلك الامور على راس الطفلة .؟؟؟ تي باليد ويجعلك تسلم ….يومها كانت قاعة الهلال هي التي احتوتنا …وكانت اختي تتوسّطنا …ينعم ..واحمد ربي زادة الي حبيبتك جات وقبلت تدخل معاك للسينما …كنا في القاعة غريبين ..ولي يقين اننا لم نشاهد وقتها الفيلم ولم نعرف عنه اي شيء ولكن كان كل واحد منّا “كيف ريح الشّيلي يطيّب وما ياكلش”… وكانت اللقطات الغرامية في الفيلم تجعلنا في مواقف لا نحسد عليها فنحن في علاقتنا مع الللقطات الغرامية (اللي نراها بعينينا ونموتو بقلبنا ) اشبه بـبهايم الفندق وحيد تاكل في الشعير ووحيد تتشلهق …وما ان بدا اللحن المميّز ايذانا بنهاية الفيلم حتى رايتني اغادر خلسة مكاني قبل ان تشتعل اضواء القاعة حتى لا يراني احد ويكون شاهدا على جريمتي مع بنت الناس وكذا فعلت عند دخولي للقاعة … تسرسبت تحت مس وزعمة زعمة انا بحذا اختي …انه اللقاء الوحيد الاوحد الاحد الذي جمعني بحبيبتي طيلة تلك السنة …

في تلك السنة ايضا طرأ تحوّل كبير في علاقتي بمحيطي… اصبحت في نظر سكان الحوش جميعا مُهابا …اشبيك راني مُعلّم ..وكذلك في نظر اصدقائي بالساقية ..سي المبروك رحمه الله يستقبل ابنه بكل حماسة وفخر واعتزاز… اصدقائي اصبحت سخيّا معهم في مصاريفنا المعتادة (القهوة والسجائر وزيارة الباب الشرقي)… وحتى اللجنة الثقافيّة انذاك دعتني لتقديم محاضرة وعلى هوايا ..حتى اساهم في انشطتها الثقافية في العطل ..واستجبت بكل نرجسيّة ..وكانت اولى كتاباتي الرسمية ..كانت محاضرتي انذاك بعنوان واحد مع واحد يساوي ثلاثة …؟؟؟؟ العنوان كان غريبا للعديد ..مما جعل القاعة يومها تغص بالحضور ..جل المستويات التعليمية والثقافية كانت حاضرة ..وكالعادة صنف منها كان ومازال مفتخرا بي وواثقا من ان هذه الطلعة لن تكون مجانية ..وصنف ثان كان ومازال ساخرا هازئا بهاللي يقولو عبدالكريم .. واش عامل في روحو …

وللامانة انا اعذر دوما هذا الصنف الثاني لانه اما يكون مريضا معتلا في موقفه لأنه عليه ان يستمع ثم يحكم ..او هو حاسد حاقد اصمّ اعمى ..يستحيل ان يخرج من كهف الحماقة والبغضاء …ربي يشفيهم …الفكرة كانت يومها بسيطة ..ويمكن حوصلتها في ان الارادة والبحث والمثابرة هي الكفيلة بتحقيق ما نصبو اليه… وعندما نفترض جدلا ان واحدا مع واحد يساويان ثلاثة ونحاول البحث عن حلولها سنكتشف في طريق البحث اشياء لم نكن نعرفها …اي المعرفة …..وهذا يعني بل ويقتضي التزود بالارادة حتى ولو كان الحل مستحيلا لنصل الى الممكن والذي كان مجهولا وهو الذي لولا بحثنا . لبقي مجهولا … المحاضرة كانت مدعّمة باقوال مشاهير من العلماء والفلاسفة حتى لا تكون فقط مواقف شخصيّة …وصفّق الجميع للشّاطر عبدالكريم ..كان كل همّي في اخر السنة تلك: كيف احسّن وضعيّتي المهنيّة من مدرب صنفا ثانيا الى مدرّب صنفا اول ..وهذا عمليّا لا يمكن الا بفرضيتين ..اما التدرّج في اعدادي التفقدية وهو ما يستلزم ثلاث سنوات على الاقل… او بالحصول على الجزء الاول من البالكالوريا …وكيف لي ذلك وانا الذي تحوّلت الى موظف له راتبه الشهري وله مكانته الاجتماعية وله نسق مادي جديد وله حبيبة تنتظره في منعطف الطريق …..؟؟؟؟

اختلطت بداخلي كل هذه الاشياء ووجدتني فكريا وعاطفيا واقفا بمفترق طرق يُدعى اهم شارع فيه: شارع الضباب …. يا شارع الضباب مشيتك انا، مرة بالعذاب ومرة بالهناء… في ضيّ القناديل الباهتة …ولانه كما في الحياة غشاوة قناديل باهتة فانها ايضا تهبنا انوار قناديل قد لا ننتظرها ….واشتعلت القناديل عندي ….

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 67

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

حياتنا عادة ما تكون اشبه بدرس من دروس الجغرافيا… الم نقرأ في ما قرأنا عن التضاريس والتلال …؟؟؟… الم نقرأ عن السهول والمروج ..؟؟؟ الم نقرأ عن الامطار الاستوائية وعن الجفاف ..؟؟؟ الم نقرأ عن الزلازل والفيضانات ؟؟؟ اليست هذه هي مواصفات حياتنا ؟؟؟

عبد الكريم قطاطة

ولعلّ السمة البارزة التي طبعت حياتي منذ خُلقت ـ والحمد للكريم في ذلك ـ انني عشت الجغرافيا بكلّ طقوسها واحوالها … اذ كانت تترواج بين المدّ والجزر فأنا عشت الفقر والجوع وعشت ايضا كسب التحدّيات …كلّ ما درسته سواء في المدرسة والمعهد او في مدرسة الحياة جعلني انتمي الى عشيرة نيتشة الذي يرى انّ الحياة ارادة …اُعيد القول انّ العنصر الايماني انذاك كان شبه مفقود …الاّ ان داخلي كان ممتلئا بعزيمة لا تُقهر وبالرضى بالاقدار المؤلمة تلك التي لا حول لي فيها ولاقوّة …

ففي عامي الاوّل بعد الزواج رزقني الله بتوأم (ايمن وايمان) في الشهر السابع من الحمل …الا انهما كانا غير مكتملي التكوين وزنا (كلغ واحد وبعض الغرامات) مما جعلهما غير قادرين على مقاومة الصراع مع الحياة … ايمان انتقلت الى جوار ربّها بعد 48 ساعة من ولادتها وايمن بعد نصف شهر … كان الطبيب انذاك يهمس لي لا تحزن …عند الله افضل …لانهما كانا مهددين بالاعاقة الحتمية اذا استمرّا في الحياة… وبقدر شوقي كي اكون ابا بقدر عجبي من نفسي وانا اقبل القدر بكل راحة بال ورضى …عندما التفت الان الى جويلية 1981 شهر انجابهما وارى التوائم الان اغبط والديهما على مثل تلك النعمة الكبرى …ياااااااااااه ما اعظم ان يكون للواحد منّا توائم وما اسعد من منّ الله عليه بهم … واذكّر فقط بأني وُلدت مع توأم (بنت) لم يُكتب لها النور اذ وُلدت ميتة …

ما اردت قوله وانا في الثلاثين من عمري ان تجاربي فيما عشته جعلت منّي ذلك الذي لا يسقط بسهولة امام نوائب وصروف الدهر … ولعلّ مازاد في صلابة مواقفي وعنادي وصحّة راسي النجاح المهني الذي حققته منذ اوّل يوم باشرت فيه العمل بالاذاعة والتلفزة التونسية (1972) كمركّب افلام، الى اخر يوم من خروجي من هذه المؤسسة بعد انسحابي النهائي سنة 2012 كمنشّط عندما ادركت انّي اصبحت عبئا على بعض المناوئين والذين عملوا وبكل الاساليب الرخيصة كي يعبثوا بكرامتي ويكون طردي على ايديهم كما خططوا لذلك … ولكن عزّة نفسي ابت الا ان تكون حاضرة لحرمانهم من هذه الامنية الغادرة فانسحبت وانسحبت معي ابتسام … وها انا اعيد القول: انا مسامحهم دنيا وآخرة، لسببين اوّلهما ومهما كان الذي حدث انا لن اسمح لنفسي بحمل ايّة ضغينة تجاه ايّ كان ..ثمّ لانّي ادركت ودون رجعة ان اذاعة صفاقس مُقبلة على مرحلة مؤلمة للغاية بعد 14 جانفي… مرحلة تعملق التافهين وعنتريتهم… مرحلة يصول فيها ويجول الفارغون والصراصير _ مع احترامي الشديد للعديد من الزملاء الصادقين الطيبين والذين يقولون سرّا ما اقوله الان جهرا …وحتما ستكون لي عودة لكلّ التفاصيل في ورقات قادمة حتّى يعلم الجميع ما حدث …

مضت السنة الاولى من الكوكتيل في وهج جماهيري غير متوقّع… صمتت الادارة العامة عنّي ولم تعد ولو مرّة واحدة لطلبها عودتي الى تونس العاصمة وكأنها قبلت بالامر بشكل نهائي … وبدأت الجرائد تتابع مسيرتي وتثمّن انجازات كوكتيل من البريد الى الاثير والذي استطاع ان يخلق مساحة اذاعية جديدة في المشهد الاذاعي التونسي… اذ تخلت الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير عن برامج الاهداءات وقلّدت اذاعة صفاقس في برمجة الضحى… نعم وبكل صدق كان للكوكتيل دور كبير في خلق مساحة اذاعية اسمها منوعة الضحى في الاذاعات الثلاث ..هذه الفترة التي كانت شبه ميّتة اصبح العديدون ولحد هذا اليوم يتكالبون عليها ويعتبرون أنفسهم مظلومين اذا لم ينالوا نصيبهم منها مرّة في الاسبوع ..

ومما يُحكى عن زميلي محمد عبد الكافي والذي كان يشغل وقتها مديرا لاذاعة المنستير انّه كان يجتمع اسبوعيّا مع المنشطين ويحثهم وبشدّة وبغضب احيانا على ان يقتدوا بما فعله عبدالكريم باذاعة صفاقس في فترة الضحى … بعبارة اخرى _ كان يقطّع شعرو ويقللهم اش عندو زايد عبدالكريم هذا متاع وذني باش ما تعملوش كيفو _ رغم انّ عبارة (يقطّع شعرو) لا تصحّ عليه نظرا لقلّة الانتاج في شعر رأسه …في الاذاعة الوطنية كان نجيب الخطاب وصالح جغام رحمة الله عليهما هما المتصدران للمشهد الاذاعي كنجمين من الطراز العالي … في اذاعة المنستير كان هنالك العديد من الاسماء علياء رحيم حبيب جغام رابح الفجاري فتحية جلاد السيدة العبيدي و نجاة الغرياني وشادية جعيدان رحمهما الله وغيرهم الذين يتداولون يوميا على مصدح منوعة الضحى… وكانت علياء اقربهم الى قلبي هي امرأة متمردة عصامية وتحمل نفسا مغايرا وهذا ما اعشقه في الفرد عموما … ولذلك هي ايضا عانت كثيرا ولكنها لم تنثن …لانّها شامخة واصيلة … كنت كذلك اتنبأ بمستقبل واعد لمنشطة مبتدئة انذاك (الفة العلاني) طالبة حقوق وقتها ومتعاونة … وكم كانت حسرتي شديدة عليها عندما غادرت هذا الميدان لاسباب اجهلها تماما …

في اذاعة صفاقس ونظرا إلى عملي اليومي في الكوكتيل من العاشرة الى منتصف النهار كامل ايام الاسبوع انذاك، لم تُتح الفرصة لزملاء آخرين حتّى ينالوا حظّهم وتلك كانت من النقاط السلبية التي طبعت مسيرتي رغم انفي .. كان بامكان الادارة انذاك ان تفكّر في اخرين الا انّ منطق (لا نغيّر الفريق الرابح) وتشبّث ايّة ادارة بالربح الآني دون التفكير في المصلحة العليا للاذاعة، حال دونها ودون مجرّد التفكير في هذه النقطة… فالمسؤولون عموما وفي ايّ قطاع يفكرون في اليوم فقط .. اتذكّر جيدا احد المديرين في الاذاعة وانا اعرض عليه مقترح التفكير في غد اذاعة صفاقس كيف يجب ان نعتني به استشرافيا.. اجابني ربما دون وعي منه ولكن كانت الحقيقة (احييني اليوم واقتلني غدوة)… معنى ذلك وهو المعمول به لحد الان في جل القطاعات المهم تلميع صورة المسؤول وتلميع انجازاته في تلك المرحلة حتى ولو كانت من نوع الـ”ان بي كا”، سرطان الفوسفات في قلب مدينة صفاقس …او بورقيبة رئيسا مدى الحياة … وهذه لمعلوماتكم اوّل من صدح بها في احد مؤتمرات الحزب هو مدير من مديري اذاعة صفاقس…. فعلا شأنه هو ايضا مدى الحياة لحدود السابع من نوفمبر (بات ما صبح) اي دخل الثلاجة مدى الحياة …

في اذاعة صفاقس كانت هنالك اربعة اسماء تحتلّ مكانة جماهيرية… عبدالكريم ابتسام ابو سهيل وبدرجة اقل عبدالجبار العيادي ..الا انّ انتظام الكوكتيل يوميا في دورية البرمجة جعله الاكثر حضورا … ابتسام المكوّر كانت ومازالت من اقرب المنشطين اليّ … كنّا ومازلنا نحمل عديد الثوابت المشتركة وحتى العيوب المشتركة (ياما عملت فينا نرجسيتنا) وللحديث عودة … كلّ ذلك جعل بعض الزملاء غير مرتاحين لهذا الوافد الجديد على اذاعة صفاقس خاصة وهو لا يتردد لحظة واحدة في التعليق على اي حدث دون نفاق او قفافيز… كنت (فرشك نيو نيو من فرنسا) متشبعا بحرية التعبير دون خوف او وجل لذلك لم ار يوما ما اي حرج في ان ابدي رايي في كل ما يحدث داخل اذاعة صفاقس مهنيا او نقابيا او علاقاتيا ..

هذا قرّب اليّ العديد من الزملاء لكنّه في نفس الوقت جعل من القليل منهم في موقع احتراز اوّلا ثم في موضع قلق ثانيا واخيرا في حالة حرب ثالثا ..اذ كيف لهذا الوافد الجديد ان يلتفّ حوله من كانوا بالامس لا يثقون ولا ينصتون الا في زيد او عمرو …رغم انني كنت اؤكد دوما انّني في طموحاتي بعيد كل البعد عن منطق الزعامة لأي هيكل مسيّر في اذاعتنا …الا ان زيدا وعمروا وشلّتهم كانوا يرون في موقفي هذا (خطابا وقتيا) وهو للاستهلاك فقط … غير انّ التاريخ اثبت في ما بعد انّي كنت نزيها مع نفسي … وحتى اشرافي على اذاعة الشباب سنة 1988 واشرافي على مصلحة البرمجة باذاعة صفاقس ثم تكليفي بمصلحة الانتاج التلفزي بوحدة الانتاج التلفزي بعدها، انتفت فيه رغبتي تماما واقسم بكل المقدسات اني لم ارغب فيها ولم اعمل عليها بتاتا … وستاتيكم تفاصيل ما حدث في ورقات لاحقة … اذن انقسمت اذاعة صفاقس في علاقتي بالزملاء الى ثلاثة اصناف… صنف اوّل وهو متواجد في كل الازمنة حدّو حد روحو لا يهمّو لا خلات لا عمرت الخبز مخبوز والزيت في الكوز… صنف ثان رأى في عبدالكريم نفَسا جديدا بكلّ المقاييس واغلبهم من الفنيين والاداريين والموسيقيين… وصنف اخير يرون في عبدالكريم ذلك الذي يهددهم اما مهنيّا او في زعامتهم …

في اواخر السنة الثانية من وجودي باذاعة صفاقس حدثت اشياء كثيرة وهامة جدّا… في 21 جويلية 1982 رزقني الكريم باوّل مولودة لي (كرامة)… كانت سعادتي لا توصف … محيطات وسماوات سبع واراض سبع بحجم سعادتي جاءت ليلة عيد فطر فاحتفل العالم الاسلامي بقدومها وكأنه اراد ان يهمس لي بكل حب ما اسعدك بعيد الكرامة … ما اروع ذلك الاحساس .. كلّ ما اذكره والحال صيف اني اشتريت لكل العاملين ليلتها بالمصحة مثلجات … كنت كطائر السنونو الذي يحلّق وهو في مكانه من وجع السعادة اللذيذ… اسالكم بالله هل هناك سعادة في الدنيا تضاهي سعادة ان تكون ابا او امّا لأوّل مرّة ..؟؟؟ مع اعتذاري الذي لا حدود له للذي حُرم من هذه السعادة… كان عيدا ليس ككلّ الاعياد… عيد عاد بكل الوان قوس قزح الجميلة وبكل طعم السعادة السعيدة… ايه يا كرامة لو تدرين … ايه يا يوزرسيف لو تدري … ايه يا عالم لو تدري …

الحدث الثاني في بداية تلك السنة … 3 جانفي 82… وفاة الاخ العزيز جدا على قلبي الفنان الاول في تونس بالنسبة لي وبكلّ المقاييس، محمد الجموسي … مرضه في البداية لم نحسب له حساب الموت… كنت زرته وهو في مصحة التوفيق (السلامة حاليا) وكنت سجلت له حوارا تلفزيا قصيرا سائلا عن صحته… وما زلت اتذكّر وجهه الباسم وهو يردّ عليّ بخفّة روحه وانا اسأل عن حالته ليقول: {خويا عبدالكريم موش طلع عندي مقطع حجر في الكلاوي!}… كانت تلك اخر كلمات اسمعها منه… بعدها تدهورت حالته بشكل مفاجئ وتحوّل اثرها الى المستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة ليشرف على علاجه “الدكتور الجدّ” واحد من ابرز الاسماء الذي مرّت على قسم الانعاش كفاءة وحضورا دائما به …

كنّا نزوره بشكل يومي وهو في غيبوبة تامة الى ان انتقل الى رحمة الكريم … كانت وفاته الما كبيرا لكل الناس لانّه كان حبيب كل الناس في اذاعة صفاقس… وهو من القلائل الذي كان حبيب الجميع لأنّه كان حبيب الفن من قمة راسه الى اخمص قدميه… ولانّه وكما غنّى (عمري للفن)…وحتى قصة تلك الفتاة التي تعرّف عليها في اواخر حياته ويبدو انه قرّر الاقتران بها، كان فيها الجموسي الفنان الانسان الرقيق الصادق الجميل … رحل الجموسي وكان حتما عليّ ان اُخلّد رحيله بحصّة خاصّة به… حصّة خلّفت مشاكل لي في ما بعد لأن البعض من ابناء الحلال لم استدعهم للادلاء بدلوهم في مسيرته… فاعتبروا ذلك جريمة في حقّهم وحين التآمر عليّ لابعادي من اذاعة صفاقس وجدوا الفرصة سانحة ليغرسوا انيابهم فيّ وبكل شراسة …ربّي يهديهم وانا مسامحهم …

لم تمض ايام على وفاة الكبير محمد الجموسي ودفنه بمقبرة الهادي شاكر بطريق تونس حتى دُفن بجانبه من قام بتأبينه …انّه محمد قاسم المسدّي مدير اذاعة صفاقس الذي تُوفّي في حادث مرور مع والي صفاقس ايضا في طريق عودتهما من تونس العاصمة بعد ان كانا في مهمّة … رحمهما العزيز الرحمان … اثر ذلك كان لابُدّ من مٌعوّض للمرحوم المسدّي في انتظار تعيين مدير جديد، فكلّفت الادارة العامة الزميل محمد الفراتي رحمة الله عليه رئيس مصلحة الاخبار انذاك باذاعة صفاقس بخطّة مدير بالنيابة على راس ادارتها لتسيير شؤونها اليومية اداريا …ومعه بدات اولى حلقات المعاناة …

واذا كان حليّم ونزار يقولان في “رسالة من تحت الماء” (لو أني اعرف خاتمتي ما كنت بدأت) فانا اقول: لو كنت اعرف خاتمتي لكنت بدأت وبدأت واعدت… الم اقل لكم ان الحياة علمتني فيما علمتني ان الواحد منّا دون معاناة والم هي حياة فاقدة للنكهة ؟ ما معنى ان لا نسير حفاة على الرمل حتى نقبّل ولو بارجلنا اصلنا ..؟؟؟ السنا من تراب ؟؟؟ ما معنى ان نتبرجز في كل طقوس حياتنا …؟؟؟ كيف نحسّ انذاك بالفقير ؟؟ باليتيم ؟؟ بالملهوف ..؟؟؟ دعوني هنا اذكر مثلا واحدا في حياتي المهنية … كان بامكاني وانا في تنقلاتي لتسجيل “مع احباء البرنامج على عين المكان” ان اتمتّع وظيفيا بالسيارة الادارية وبمنحة الإقامة في اقرب نزل للمكان الذي اعمل به… لكنّي كنت افضّل ودون ايّ تردد ان ابيت مع المستمعين وهم يفتحون بيوتهم البسيطة واحضانهم الكبيرة لينعموا حسب قولهم بحلمهم الاكبر والذي كان بالنسبة لي الواجب الاكبر… كنت اراني وانا على حصير وفوقه جلد كبش اسعد الناس …

اتذكّر جيّدا زيارة لن انساها لاحد مستمعيّ (محمد كمال بن سالم) بمنطقة الماي جربة… هو صديق مُعاق اليدين والرجلين وكانت رسائله لي رغم اعاقته من اجمل الرسائل شكلا ومضمونا… يوم زرته لم يكن مصدّقا بالمرّة بأن هذا الذي ذاع صيته موجود لا فقط ببيته بل جالس على الارض بجانب سريره… كانت سعادته يومها لا يمكن ان تمُرّ دون ترك اثر على لسانه … صدقا لقد خرس الرجل … عجز محمد كمال عن الكلام لكنّ عينيه كانتا تقولان اشياء واشياء …ولانّه كان ثملا دون النبس بأية كلمة، قلت له هامسا: وماذا ستقول لو اعلمتك بأني سأبيت الليلة بجانبك افترش ذلك الجلد الصوفي ونسهر معا ونتسامر؟؟؟… وقتها تكلُم محمد كمال وقال (بعدها مرحبا يا موت)… وبتّ بجانبه ليلتها واستجاب الرحمان لرغبته… اذ توفي فعلا بعد ايام …

الم اقل لكم انّ الحياة جغرافيا لكلّ المتناقضات بما في ذلك الحياة والموت ؟؟؟ هنيئا لكلّ واحد منّا يحبّ الانسان … يحب الحياة بسهولها وتضاريسها بحلوها ومرّها اذ هي بالحلو بتمرّ بالمرّ بتمرّ ..

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 66

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

السنة الاولى من الكوكتيل شهدت تغييرات جذرية في حياتي الشخصية منها والمهنية … منذ سفري الى فرنسا، نصحني الاصدقاء والمقربين بفتح حساب ادخار بنكي سكني .. من اجل ضمان محلّ للسكنى (قبر الحياة) كما يسمونه هنا في مدينتي …

عبد الكريم قطاطة

هو من الاولويات في فلسفة الحياة لدى العائلة الصفاقسية … لذلك وعندما يتقدّم اي شاب لخطبة فتاة يُطرح السؤال الاول: عندو دار ؟؟… ثمّ تاتي الاسئلة الاخرى (اشنية خدمتو ..؟؟ عندو اخوات بنات .؟؟؟) ..وهذا سؤال مفصلي لان اخواته البنات منظور اليهن كآفات (اخت الراجل عقرب في الطاجن)… ومن جهة مضادة تصبح (مرت الخو عقرب في الدلو)… من تلك الزاوية جاء التفكير في فتح حساب ادخار سكني ببنك الاسكان …الا انّ الثلاث سنوات التي قضيتها في دراستي بفرنسا، ومرتباتي التي كانت تدخل بشكل كامل في حسابي البنكي… لم تكن لتفي بالمبلغ المأمول لامتلاك منزل ولو متواضع…

المرتبات انذاك كانت لا تتجاوز الستين دينارا ..وما ادخرته من عملي بفرنسا اقتنيت به اثاثا وملابس فقط ..في الملابس لابد من الاشارة اني ( تحلّيت طول وعرض)… لم اكن ذلك “الصّفق” الذي يدّخر الملاليم ولا الدينارات ولا مئات الدينارات ..لم اكن يوما (قرنيطة) في جمع المال ..بل كنت بالعكس (اكبر فلاقة) في تبذيره ..كنت مغرما بشراء افضل الملابس لي وللعائلة ولخطيبتي ولخطيبة صديق عمري رضا … صديق عمري هذا يوم حمل الادباش الى منزله في عرسه، كان العديدون وبمزاح يقولون (يخخي فلانة واخذة رضا او صاحبه؟!) … وكنت انا المقصود، نظرا إلى الكمّ الهائل من الملابس التي اهديتها ايّاها… كيف لا وهي خطيبة اخي؟ …

ومن صدمات حياتي انّها وبعد الزواج اي بعد ان تمكّنت من صديقي، اصبحت حياتي معهما عبئا ثقيلا عليها… هي من صنف التي تريد التملّك الكلّي بزوجها دون ان يقاسمها احد فيه ولو كنت انا …كنت في منتهى التعاسة من هذا المآل ..وكان عليّ ان اتصرّف بحكمة ….دعوته يوما للقاء على انفراد ..ذهبنا معا على شاطئ بحر سيدي منصور واعلمته بقراري النهائي …لابد ان اخرج من حياتك… زوجتك حامل وأنت ستصبح ابا وهي لا تحتمل ايّا كان في علاقتها بك… لذلك ومن اجل سعادتك يجب ان انسحب …كان لقاء الدموع والصمت …ما ابشع لقاءات الخيبة، ما ابشع حوارات الخيبة ما ابشع الكلمات التي تخرج بمرارة …تختلج طويلا في الحلوق وكأنها تعلن ولادة مأساة … وخسرت صديقي الى الابد ..

لم ادّخر اذن في فرنسا الا ثمن السيارة التي عدت بها وهو لا يتجاوز الثلاثة آلاف دينار وبعض القروش … من جهة ثانية، وعند عودتي بديبلوم درجة ثالثة علوما سمعية بصرية من دراستي والذي وقعت معادلته حيفا وظلما باربع سنوات تعليما عاليا عوضا عن ستّ… والذي كذلك وقع تصنيفي بمقتضاه في المعادلة ضمن سلك مهندس اشغال دولة وهو ما لم اقبل به يوما… ونظرا إلى تمسّكي بحقّي ان اكون ضمن سلك المخرجين التلفزيين كما ينص الديبلوم… ونظرا ايضا إلى تمسّكي برفض العودة لتونس العاصمة اي للمؤسسة بعد تجميد مشروع النواة التلفزية للانتاج بصفاقس …كل هذه العوامل جمّدت وضعيتي المهنية ماديا وكأنني لم ادرس بفرنسا، وكأنني معاقب على اشياء لم اقترفها بتاتا ..

تصوروا فقط ان فكّ عقدة هذا الاشكال لم يتمّ إلاّ بعد 11 سنة… اي سنة 1990… والفضل في ذلك يعود لشخصين كانا من اصدقائي قبل ان يصبح اولهما رئيسا مديرا عاما للمؤسسة: الصديق صلاح الدين معاوية … شكرا وألف رحمة خويا صلاح… والصديق مختار الرصاع الذي اصبح مديرا للتلفزة التونسية انذاك… شكرا خويا مختار… هذان وبعد عشرات الرسائل التي وجهتها للادارة العامة لتسوية وضعيتي وتمكيني من حقوقي الضائعة، والتي لم اتلق عليها ولو ردّا بالنفي او الايجاب .. هذان هما اللذان اخذا الامور بكل جدّية وسرعة وقاما بتسوية وضعيتي (دون مفعول مادي رجعي) …وهذا يعني “ملاين” حُرمت منها …

نظرا إلى كل ما اوردته وجدت نفسي في نهاية سنة 1980 وبالتحديد في بداية اكتوبر، في مفترق طرق …السن 31 سنة ..فترة الخطوبة طالت (5 سنوات) والامل في الحصول على قبر الحياة ضئيل للغاية … بين عشية وضحاها وجدتني امام هبلة من هبلاتي ..فليذهب مشروع قبر الحياة للجحيم وليكن العرس بعد شهرين على اقصى تقدير …فوجئت العائلتان بقراري ولكنهما لانهما تدركان انّي قراقوش في مواقفي، قبلتاه على مضض …طبعا بعد تلك الاسطوانات من فصيلة (كيفاش ما حضرنا شيء ويصير هكة في شهرين ..؟؟ اش يقولو علينا الناس ..؟؟ علاش تغصر فينا اش عملنالك؟؟؟)… كنت استمع فقط واكرّر: (العرس سيكون نهاية نوفمبر)..

وكان لي ذلك وكان حفل زفافي يوم 30 نوفمبر 1980 … تسوغت منزلا فخما (فيلا) واثثته بالكامل واقمت كل مراسم العرس من سهرية للاصدقاء المقربين وكل واحد وشربو… الى حفل يقيمه العروس للاهل (عوّادة) الى نزول بكل تفاصيله ثم يُختم بالحفل الرسمي للجميع بافضل صالة افراح انذاك (صالة البلدية) كيف لا والحفل عروسه المنشط (اللي قدّ الدنيا) كما يقولون… عبدالكريم ..؟؟ مما اذكره في حفل زواجي انذاك اني كنت اوّل من رفض ان يسوق سيارة العروسين ايّ كان ..كنت ارفض ان اكون ذلك السلطان بالمفهوم الكلاسيكي للكلمة… كنت اريد ان اكون سلطانا على طريقتي… لا ذلك الذي تجرّه العربة الكبيرة والسائق المسكين الذي يضرب بعصاه الجوادين وهو يهمس بين جنباته (بلعن بو هالخدمة نقولشي عبد عند سيادتو) …

كنت ارى في ذلك اهانة لذات الانسان ..سائق السلطان … سائق الوزير ..سائق الرؤساء والملوك …. لماذا وهبهم الله تلك الايدي ..؟؟؟ وحتّى لو كانوا مرهقين من شدة المشاغل …لماذا يلجؤون الى المقاعد الخلفية ..؟؟؟ اليس في ذلك احتقارا للذات البشرية ؟؟؟ تماما كذلك المواطن الذي ياخذ سيارة تاكسي ويسقط على ذاته صورة المتجبرين وياخذ مكانه في المقعد الخلفي ودون حتى اية نظرة احترام لسائق سيارة الاجرة… وما يخسر عليه كا ن يقوللو العويّات …او حيّ البحري …لا اشكال ان نكون من سكان الاحياء الفقيرة بل كل الاشكال ان تكون نفوسنا فقيرة ورخيصة …

وتمّت مراسم الزواج على احسن حال ..كيف لا وانا قد سحبت كل المبلغ الذي ادخرته لمدة ثلاث سنوات … وهنا لابد من التأكيد على امر مهمّ جدا في ما حدث …كما ذكرت لكم لست من اولئك الذين قال فيهم الشاعر (يا عابد المال قلي هل وجدت به… روحا تواسيك او روحا تواسيها )… ولست ايضا من عشاق المظاهر في كل شؤون حياتي حتى يُقال عنّي (ملاّ عرس عملو فلان شيء يفتّق)… بل كان كلّ همّي ان اُسعد عيادة بفرح وليدها كما حلمت به… وعيادة رحمها الله تحب كل شيء بالفرننو… وفي نفس الوقت اسعد عائلة خالي حيث ابنته الوحيدة لابد ان تعيش فرحتها كما تشتهي ..

لهذه الاسباب وقع انفاق كل المال المدّخر … وخرجت من “المولد” (لا عاد موش بلا حًمّص) بل بهناء وراحة بال وبسعادة وهّاجة لمن ذكرت ..لامعة براقة في اعينهم …

وبدأت مشوارا جديدا في حياتي …عبدالكريم المنشط الزوج …هي فرصة لأتقدّم بعبارات العرفان الى زوجتي التي ضحّت معي بالكثير وعلى حساب حياتها ..البرنامج كان يتطلب منّي يوميا 16 ساعة عملا، اعداد ومونتاجا وتنفيذا وخاصة قراءة رسائل ..ايّة زوجة منذ الشهر الاول من حياتها تعيش شبه طلاق مع زوج منغمس للعنكوش في عمله؟ … اية زوجة تحملت ومازالت (وبكل فخر واعتزاز ) العشق المجنون للمعجبات بزوجها …سألها مرة احد الصحفيين عن هذه المسألة فاجابت بكل ثقة وصدق (هات لي اي واحد منكم لا يعشق فنانا ما او فنانة ما … اذن اين الاشكال ..؟؟ عشق الاخرين والاخريات لزوجي يعني انه ناجح في عمله وذلك مصدر سعادتي)… وتضيف: .انا اسعد زوجة في الوجود لاني احب زوجي جدا ولانه لم يرفع صوته يوما عليّ ولم يتفوه طيلة زواجنا بأية كلمة نابية او سبّة معي ولا مع اطفالي ..والذي على الجميع ان يعرفه انه في الاخير يدخل الى بيتنا ويُغلق الباب دون الجميع …. ثم تضيف وبدموعها: يا رب اجعل يومي قبل يومه …

شكرا منية على صبرك شكرا على سعة بالك وعذرا ان قصّرت في حقك ولكن تلك هي مهنتنا وذلك هو قدري و قدرك …

في نهاية تلك السنة ايضا ونظرا إلى لنجاح الجماهيري الذي حظي به الكوكتيل بدات اشعر بتضايق البعض من الزملاء منّي ولكن بشكل خفيّ… لكنّ هذا لا ينفي وجود بعض ممن ربطتني بهم علاقات ممتازة جدا وعميقة جدا وناصعة البياض …لعلّ في مقدمتهم جل التقنيين الذين كانوا يقدّرون نوعية عملي وحرصي الشديد على الاتقان والجودة منا جميعا ..كذلك جل الاداريين والموسيقين الذين رأوا فيّ اسما يمكن ان ينافس وبجدية اسماء المنشطين بالاذاعة المركزية وفي ذلك فخر لابن مدينتهم واذاعتهم …

بعض المنشطين وفي مقدمتهم انذاك الصديقة والزميلة ابتسام المكوّر …كانت من المعجبات بحق وصدق بعبدالكريم المنشط والانسان… وكان نفس الموقف منّي تجاهها لانها بالنسبة لي تُعدّ انذاك وحتى خروجها من اذاعة صفاقس، واحدة من افضل المنشطات للبرامج الثقافية في المشهد الاذاعي التونسي دون ايّ جدال …علاوة على علاقة الصداقة العائلية التي ربطتني بزوجها ذلك الرجل المحترم جدا والنقي جدا (خويا التوفيق المكور) والذي كلما وقع سوء تفاهم بيني وبين ابتسام الا وكان دوما من جانبي …

مقابل ذلك كنت ارى وجوها لبعض الزملاء يصعب انذاك فك شفرتها …انا من الذين يؤمنون بأن بعض الظن اثم اذ انّي كلما رايت تجهما في وجه زميل ما اُرجعه الى مشاكل حياتية يومية خاصة به كسائر الناس …وابدا في البداية ان اقرأه كموقف مبطّن منّي … الا انّ ما وقع لي قي السنة الثانية من عمر الكوكتيل كان مغايرا تماما لقراءاتي وتوقعاتي …كانت هناك مقالب تُطبخ على نار هادئة وتنتظر الساعة الصفر لتنفيذها… للتخلّص من عبدالكريم اذاعيا وبشكل شيطاني… وكلّ لحسابه الخاصّ..

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

“صعيدي” في الألعاب الأولمبية!

نشرت

في

عبد القادر المقري:

في باريس، انطفأت أنوار لتضاء أخرى… ودعنا ألعابا أولمبية صيفية للأسوياء، وجاء الدور على ألعاب أجمل وأنبل: ألعاب بارالمبية… أولمبياد مواز… ألعاب أولمبية لذوي الاحتياجات الخاصة.. التسميات متعددة والكائن واحد، رائد، صامد.

عبد القادر المقري Makri Abdelkader

هي بعدُ الألعاب الأولمبية “العادية” حزمة تحديات تحضر فيها الموهبة والعمل والذكاء والتكنولوجيا والقيم الإنسانية والصراع الأزلي بين الإنسان والطبيعة… الطبيعة في حدود الجسد البشري التي لم تتوقف عن الاتساع ولو بالسنتيمتر، ولو بكسور الثانية، ولو بما لا يطاق من تحمل وتنفس ومغالبة للتعب والوجع وعناد الآخرين، منافسين وأعلاما وأناشيد وطنية… الطبيعة في قوانين الجاذبية وهبوب الرياح وهطول المطر وصلابة الأرض التي نجري فوقها…الطبيعة في تيارات الماء التي لها نزواتها ومطلوب من الحفناوي والملولي وغيرهما، مقاومتها مقاومة محرك ديزل بعشرة خيول حتى يفلتوا من سطوتها…

والطبيعة أخيرا في طبائع أفراد اللجان وسياسات الحكومات وتكييف الرياضة لخدمة الأقوى ولو كال بمكيالين… فإذا بمئات الأبطال الروس يُحرمون من الألعاب وتٌحرم منهم بدورها وهم الذين كانوا يكملون اللوحة برشاقتهم وعطائهم اللامحدود، ويعتلون جدول الميداليات ولا يبزّهم أحد في بعض التخصصات… وكم كان مؤسفا غياب الرائعة “إيزنباييفا” أو من يخلفها في القفز بالزانة مثلا… والسبب حرب لا ناقة (بل لا “دب”) لهم فيها ولا جمل… ولا نجد من يعامل بنفس المقياس “رياضيين” سيعودون فورا بعد الألعاب إلى ثكنات ودبابات وطائرات تقصف أهالينا في غزة أطفالا ونساء وكل من يتحرك هناك ولو كان رضيعا، ولو كان جنينا في بطن أم…

هذا عن أولمبياد الأسوياء… فما بالك بالدورة الأخرى التي تقام بنفس المكان ونفس الاحتفال ونفس الأمم ونفس البروتوكول… ولكن مع أبطال أعيق من أجسادهم بعض أو كلّ، ويسابقون ويقاتلون ضد ما ذكرناه أعلاه من تحد، يضاف إليه تحدي النقص الذي حُكم به عليهم، ومطلوب منهم مع ذلك أن يراهنوا وأن يتفوقوا وأن يحملوا على أكتافهم المظلومة رايات شعوب وأحلامها… وأن يصعدوا حيث منصة الميداليات أخيرا … وأن يفرحوا ويُفرحوا، ولكن بعد أي جهد وبعد أية تضحية!… ومطلوب منهم أن يحطموا أرقاما وقبلها أغلال وُلدت معهم … فإذا الصرخة آتية من أفئدتهم ومن جمهورهم ومن معلق منبهر بما يأتي به هذا الكائن المليء ضعفا وحتى تشوّهات مفروضة عليه: اخلع نظّارتيك ما أنت أعمى.. انهض وسر في سبيل الحياة… ستعيش نسرا رغم كل داء!

ثم وهذه مباراة أخرى بين الشعوب والدول والمنظومات… بين حال المعاق في بلد، وحاله في بلد ثان… بين مدللين مرفهين مرعيين رعاية كاملة تحرسهم مؤسسات وجمعيات وقوانين وتمييز أكثر من إيجابي… وبين آخرين لم يكفهم ظلم القدر الذي سلبهم بعضا من الحواس أو الأعضاء، فإذا به أيضا يُسقطهم في بلاد لا أهمية فيها لإنسان سويّ ولا معاق… حيث الحياة صعبة على الكل، وحيث الإهمال هو القاعدة، وحيث المعيشة أقرب ما تكون إلى ظروف الغابات…

إذن هو “تحد ثالث” ما يخوضه أبطالنا وبطلاتنا في ميادين باريس… نحن الذين رياضتنا بلا نسب ولا وليّ أمر… يطلع فيها الموهوبون كأزهار البرّ لا أحد يزرع ولا أحد يسقي ولا أحد يحمي… وكم يضحكني المتحدثون اليوم عن مراكز التكوين عندنا وكأنهم يخوضون في سيرة بلد آخر… عن أية مراكز تكوين يهذون؟ وما نُشر عن المركز “الوحيد” ببئر الباي ذات مرة، يصيبك بالهزيمة قبل أن تبدأ يومك… عن أية مراكز تكوين يخرّفون ونحن مركز تكويننا الوحيد هو حانوت الجربي الذي كان يبعد 20 كلم عن منزل أسرة محمد القمودي… وبفضل الركض المزمن والمفزوع بين النقطتين، وُلد عندنا واحد من أفضل عدّائي العالم والتاريخ… وما تزال تلك هي بنيتنا التحتية اليتيمة، ما تزال…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار