جور نار
ورقات يتيم … الورقة 37
نشرت
قبل 6 أشهرفي
عبد الكريم قطاطة:
وانا في طريق العودة الى صفاقس بعد اعلان نتيجة مناظرة الاذاعة والتلفزة التونسية لتكوين اطاراتها التقنية دفعة 70 ـ 71، لم يكن وقتها القطارالسريع قد حلّ ركبه بقطاع السكك الحديدية ..كان “الاومنيبوس” وسيلة النقل الوحيدة .
الاومنيبوس بالنسبة لي علّمني ان الحياة امتع واجدى للمعرفة ..أن تاخذ قطارا سريعا في حياتك فهذا يعني انّك ستتوقّف في محطّات قليلة وانّك لن تتعرّف الا على حرفاء تلك المحطّات .. اليست الحياة في حاجة لنتعرف على كل محطّاتها …؟؟ ما قيمة الواحد منّا اذا اقتصرت حياته على الشمس المشرقة والبلابل الشادية اذا لم يعرف يوما صهيل الرعود ودعاء الكروان ؟؟.. ما قيمة النهر الخالد والجندول والكرنك اذا لم نستمع يوما الى “انا موش مريڨل وانت موش مريڨلة” ؟ ما قيمة العقربي وديوة وبيليه ومارادونا اذا لم نشاهد يوما عبدالنور او عبد الظلام؟؟…
نجاحي في تلك المناظرة كان بمثابة الشمعة الاولى التي اخرجتني من ظلمات الاحباط والضياع الى نور.. نور غمرني بشيء من استرداد الايمان النفسي ..كنت وانا في قطار العودة اراجع ما حررته في الامتحان الكتابي لتلك المناظرة ..الفيلم الذي عُرض علينا يومها لتحليله ونقده كان من النوع الكلاسيكي وكان بالنسبة لي تافها شكلا ومضمونا ..لأني تعودت ومنذ السنة الخامسة ثانوي ان امرّ من مرحلة استهلاك الافلام العاطفية الساذجة الى اختيارات ارقى… فالافلام المصرية لم تعد تغريني نظرا لتشابه الطرح فيها ..حبيب وحبيبة ومصاعب للوصول لبعضهما ثم الـ”هابي فينيشينغ” … النهاية السعيدة بتزوج الحبيبين … وافلام جيمس بوند لا تختلف كذلك في الطرح (ذلك العبقري البريطاني الذي يقهر كل الصعاب لينتصر على اعدائه وخاصة الروسيين)… وافلام الويسترن تنحو ايضا نفس المنحى باستثناء البعض منها كـ”حدث ذات مرة في الغرب” والكبير شارل برونسون …وبعض افلام سيرجيو ليوني عموما خاصة عندما يكون واضع موسيقاها اينيو موريكوني، ذلك الموسيقار الايطالي الكبير ..
تلك النوعية لم تعُد ترويني ..خاصة وزخم الافلام الرائعة في تلك الحقبة بدأ ينهمر … فمن “ذهب مع الريح” اسطورة السينما عبر العصور ، الى “فتاة ريان”، الى “دكتور جيفاغو” الى “ساكو وفانزيتّي”، الى “رجال الرئيس” ..تلك الموجة من الافلام الهادفة والعميقة والتي كنّا نعشقها حسّيا وفكريا ودون الالمام بالجانب العلمي لعالم السينما، طوّرت في اختياراتنا …والغريب انه ورغم وجود نادي السينما انذاك والذي تتلمذ عليه العديد من رواد السينما التونسية (بوزيد ودمق وغيرهما) ..فانّي لم اكن من رواده الدائمين …كنت اضجر من تلك النقاشات التي لا تعتني بالفيلم بقدر انسياقها في معالجات ايديولوجية بحتة …ورغم ميولاتنا انذاك نحن كشباب مراهق للفكر اليساري، الا أنني كنت ومازلت وخاصة بعد دراستي لدنيا العلوم السمعية البصرية اعتقد، وبكل اصرار، أن اي عمل سمعي بصري هو حتما يناقش ضمنيا التوجه الايديولوجي للعمل المُقدّم ولكن بحيّز زمني محدود اوّلا و الأهم ان يكون انطلاقا من احداث ووقائع المنتوج الذي يقع عرضه وبعيدا عن استعراض العضلات السياسوية …لعلّ ذلك المخزون السينمائي الذي امتلكته (حسّيّا لا معرفيّا علميا) هو الذي حضر لدي يوم المناظرة والذي عرفت في ما بعد ان العدد الذي تحصّلت عليه في الكتابي هو الذي شفع لي ايضا يوم امتحان الشفاهي باعتبار عجزي عن مجاراة الحوار باللغة الفرنسية …
وصلت ليلا الى ساقيتي …الشلّة وقتها غادرت والحوانيت اغلقت ابوابها …وها انا ادُقّ باب قصرنا (الحوش)… العائلة لم تكن تدري ايّ شيء عن نتيجة الامتحان الشفاهي …نظر الجميع الى عبدالكريم دون النبس لا ببنت شفة ولا بابنة عمّها …السؤال بعد خيباتي التي سبقت اصبح مغلولا ..مكبّلا ..غير قادر على الانعتاق …ما ابشع تلك الحالة عندما نريد ان نطرح الف سؤال ولن نقدر على طرح حتى ربع سؤال …وكان عليّ ان ارحم الجميع وان اروي ظمأهم …نظرت اليها وعيناها مُسدلتان في خوف وامل ورجاء وقلت …الحمد لله نجحت ….فرح ابي كعادته والدموع تنهمر من عينيه وقبّلني اخوتي وطفقت عيّادة صاحبة المُسدلتين تتمتم: حمدا وشكرا …نظرت الى العينين المُسدلتين وسألتها ..اشبيك يا عيّادة ماكش فرحانة؟ ..اجابت دون ان ترفعهما: “آه يا وليدي، قللو يا كلب اشبيك تلهّف، قللو خايف من قايلة غدوة” …كنت اعرف ما تعنيه ولكن وبكل استعباط (وكم احبّ الاستعباط) سالتها: اش ثمة زادة ..؟؟ نظرت إليّ بكل عمق وريبة و اردفت: راك ماشي لبلاد الغربة …وماشي تبعد عليّ ..وتونس صعيبة (تقصد العاصمة) صعيبة برشة …وكان ما ربّي يبعّد عليك اولاد الحرام وبنات الحرام” …
هي ربّما ملتاعة من تجربة احد اخوتها (احمد رحمه الله ) الذي كسّر قيود القبيلة وغادر صفاقس ليعمل ويعيش بالعاصمة، وليتعلّم هناك معاشرة بنت العنبة ويعمل خلاه فيما ولاه حسب تعبير القبيلة …ثم هي تعني اساسا في عبارة “اولاد الحرام وبنات الحرام” عجُز العبارة “بنات الحرام” …لانها تعرف جيّدا ولدها وتعرف انّ “عينو محلولة وقافز” مقارنة باقرانه …وهي في جانب من طروحاتها على حق ..لأنني كنت قريبا جدا من الفتيات في افراحنا ولمّاتنا ..وكانت تكرّر دوما وبضجر: اش عاملهم ..؟؟؟ طلاسم ..؟؟ اشبيهم في جرتك تقولشي ذبّان مڨجّجين عليك …؟؟؟ واذا كان هذا هو انا وهنّ في ذلك الزمن وحتى بعده فهي وانتم ليتكم تعرفون الحقيقة …جلّنا انذاك كانت علاقاتنا بالفتيات من نوع (قطاطس باردو القفز وقلّة الصيادة) ..اي لا شيء .. لا شيء ..لا شيء ..في علاقتنا .. والله حتى بوسة لا ثمة ولا كانت ولا صارت ! ….
ولكن قلب الام لا يستكين حتى للاّشيء ..وعندما تتحدث مع اختها الصغرى نفيسة رحمها الله وهي التي تلعب معي دائما دور المحامية الجيدة في محاورة عيّادة، كانت تردّ بكل ثقة: “بالله يزّي يا للتي محسونة توة تاخذ عليهم ..مازالو صغار” ..الا ان عيادة ترد وبكل جدّية: “اشكون يعرف تلصقشي فيه نحاسة مسوّدة” … وهذه العبارة تُطلق على فتاة غرّر بها احدهم وافقدها عذريّتها …
نظرت مجدّدا الى تلك العينين المسدلتين ومسكت يد عيّادة وقلت لها: اغزرلي اغزرلي … مليييييييييح …انت جبت راجل والا طلطول؟ ..ودون انتظار ردّت: “جبت راجل وسيد الرجال …اما خايفة عليك” ..قبّلت يدها ..واخذت نفسا عميقا كما افعل كلّما اقبّل يدا احبّها وقلت: “ما تخافش على كرمة العسل متاعك” ..هي تلك العبارة التي كانت تردّدها دوما وانا طفل … بعدها سالتني: “توة اش ماشي تولّي تخدم …؟؟ ماشي يولّيو يشوفوك في التلفزة” ..هل لاحظتم انها لم تستعمل ضمير المتكلم ..؟؟ هي تريد ان تفتخر بابنها …قبل حتى ارتوائها من رؤيتي على الشاشة …اجبتها: “لا، انا ساُصبح تقنيا من تقنيي التلفزة” …فاستفسرت: “اش معناها ..؟؟” …حاولت ان افسّر لها نوعيّة الاختصاصات في العمل التلفزي واشهد اني لم اُفلح ..ربّما لعجزي عن الشرح او لعدم رغبتها في الفهم … وتدخّل الوالد بسؤاله: “والخلاص باهي ؟؟” .. كل فول يهمّو فلوس نوّارو…. موش لاهي بيه برك .. واجبت ببرود: ان شاء الله … وتمتم: ربي يجيبك في الصواب وما تنساناش عاد ..انت تعرف البير وغطاه …
في الغد كان اللقاء مع الشلة …كان سي المبروك الحمّاص اوّل من حظي ببشارة الخبر …نظر إليّ وقال ..والله نعرفك ماشي تنڨزها …. كان فرحه طفوليا بطفله الذي “سلّكها”… وهاهو رضا يصل ..لم ينتظر اجابة منّي لانه احسّ بالنتيجة بادية على وجهي ووجه سي المبروك ..وقال: “قلتلك … ماشي نعيثو فيها فسادا غاديكة … نعيثو يعني نعيثو” .. عانقني وانا ارد: “خاربينها خاربينها” …وتسللت الشلّة من حانوت بو احمد حلاقنا وراعي حوار العصابة، وعلى طريقته دوما، علّق: ايّا سيّب سي المبروك وحضّر روحك للمبروك (يعني الزردة الخمرية) …وكانت لهم زردتهم وكان لي ولرضا الاستعداد للرحيل … فنهاية سبتمبر على الابواب وبداية دراسته الجامعية وبداية دراستي بمركز بيكلار التابع لدار التلفزة التونسية لتكوين اطاراتها، تنطلق في غرّة اكتوبر …
سجّل رضا بالمدرسة العليا لتكوين الاساتذة قسم تاريخ وسجّل ايضا بالمبيت الجامعي راس الطابية ..اما انا فاصطحبت مجموعة من زملائي الذين نجحوا في الباك، لاقطن معهم بنهج قلاتيني بلافايات وتحديدا وراء معهد بورقيبة سكول ..ورغم تميّز المكان جغرافية ومعين كراء، فانه لم يكن مناسبا لي ..اولا لبعده عن مركز دراستي وثانيا وهو الاهم انه لم يكن ليتسع لي ومعي رضا نتقاسم وجودنا يوميا …لذلك قضيت معظم اوقاتي معه في البيت اف 16 بمبيت راس الطابية ..اف 16 وكما تعرفون عنوان لطائرة حربية ..واف 16 براس الطابية هو عنوان لقاعدة حربية يجتمع فيها كل الطلبة المنحدرين من ساقية الدائر ..هي تتسع في تركيبتها لـ4 طلبة ..ونحن نُخضع مساحتها لعشرة على الاقل ..وياما حروب جميلة ان لم تكن خمرية فهي بولاتية ..ويا ويلو اللي نركّحو عليه، مشى بازڨة …
يوم السبت عشيّة كنّا نقصد نهج اين خلدون ..وهنالك وبمقهى صغير جدا يجتمع الرفاق … مقهى علي بابا …انه مقهى الطلبة اليساريين… وتبدا الطروحات التي لا تنفك ..فهذا زعيم اللينينيين وهذا التروتسكي المتطرف وهذا من جماعة ماو .وهذا وطد وهذا دستوري “فليك” (يتبهنس ثمّشي ما يسمع حويجة على تحركات الطلبة ويهزّها لسيادو) … واغلبنا من القطيع …نتلمس طريقنا وسط الزحام الطلابي …
يوم الاحد هو يوم عيد بمبيت راس الطابية ..يوم الكسكسي بالعلوش حيث يتوافد من دبّ وهبّ من الطلبة لوجبة الغداء والتي عادة ما تكون على ڨازون المبيت ..كنا انا ورضا نقف احيانا في بداية طابور الطلبة المتوجه لاخذ وجبته وكانت تذكرة الوجبة الجامعية بـ100 مليم… وكان الواحد منّا يحمل بيده 5 ملّيمات ويتعاطى مهنة طالبي الصدقة امام المساجد وهم يتكاثرون يوما بعد يوم، بقولنا: (يا رفيق تكمّلّي على تيكيه) …
لم تدّم سكناي بنهج قلاتيني اكثر من اسبوعين ..فذات يوم وانا بمقهى ابن خلدون التقيت صدفة باحد متساكني الساقية وهو طالب في سنته الاولى بتونس اختصاص علوم (محسن المنجّة) وهو قريب لقائدي في الكشافة محمد المنجة ..وككل لقاء يتم بين افراد المنطقة الواحدة تجاذبنا اطراف الحديث العادية ..اشنية حوالك ..اش عامل ..وين تسكن …؟؟ وهنا عبرت له عن قلقي من موضوع السكنى ..وها هو يعرض عليّ الإقامة بنهج ابن خلدون …. (كلب وطاحت عليه جردڨة)… مكان لا يبعد عن مركز دراستي اكثر من 100 متر ..وهو استوديو يتسع لشخصين … وصديقنا هذا لا يّقضّي نهاية الاسبوع فيه، حيث ينتقل الى اطراف عائلية له بتونس … و6 الاف معلوم الكراء شهريا …(موش قلتلكم كلب وطاحت عليه …لا موش جردڨة مبسوطة اصلا!) …اتفقنا واسرعت الى رضا ..”فُرجت” ..ذكرتها وانا اغني وارقص، على وزن “بُعثت” التي تجدونها في اغنية كيلوباترة (بُعثت في زورق مستلهم من كل فنّ … مرح المجداف يختال بحوراء تُغنّي … يا حبيبي هذه ليلة حُبّي .. اه لو شاركتني افراح قلبي) …
هل فهمتم ماذا اعني بـ”بُعثت” وبمعارضتها “فُرجت” ؟؟؟… ان غدا لناظره لقريب …
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
جور نار
العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟
نشرت
قبل 10 ساعاتفي
22 نوفمبر 2024محمد الزمزاري:
ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.
ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1991… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.
لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…
هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..
أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.
عبد الكريم قطاطة:
فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …
وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…
وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..
قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …
لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …
وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …
سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…
عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..
وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …
ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …
ـ يتبع ـ
عبد الكريم قطاطة:
المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …
وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..
في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…
اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…
اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…
لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…
في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…
عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…
اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…
ـ يتبع ـ
تونس: مؤتمر وطني حول ريادة الأعمال النسائية
بعد 61 عاما… هل يكشف ترامب عن معطيات جديدة حول مقتل “جون كينيدي”؟
النفيضة: وقفة احتجاجية لأهالي “دار بالواعر”… على خلفية سقوط تلميذ من حافلة
حرب أوكرانيا… رسالة روسية في شكل صاروخ قادر على الدمار الشامل
لندن.. “طرد مشبوه” يتم تفجيره قرب السفارة الأمريكية
استطلاع
صن نار
- اقتصادياقبل ساعتين
تونس: مؤتمر وطني حول ريادة الأعمال النسائية
- صن نارقبل ساعتين
بعد 61 عاما… هل يكشف ترامب عن معطيات جديدة حول مقتل “جون كينيدي”؟
- داخلياقبل ساعتين
النفيضة: وقفة احتجاجية لأهالي “دار بالواعر”… على خلفية سقوط تلميذ من حافلة
- صن نارقبل 3 ساعات
حرب أوكرانيا… رسالة روسية في شكل صاروخ قادر على الدمار الشامل
- صن نارقبل 3 ساعات
لندن.. “طرد مشبوه” يتم تفجيره قرب السفارة الأمريكية
- صن نارقبل 3 ساعات
بعد وقف الإجراءات الإدارية ضدهم… الاحتلال يطلق أيدي المستوطنين في الضفة الغربية
- صن نارقبل 4 ساعات
الجنائية الدولية تأمر بإيقاف نتنياهو، والكيان يتهمها بمعاداة السامية!
- ثقافياقبل 5 ساعات
بنزرت… ملتقى إقليمي عن برامج المؤسسات الثقافية وتوقيت عملها