جور نار
ورقات يتيم … الورقة 38
نشرت
قبل 6 أشهرفي
عبد الكريم قطاطة:
انتقال اي تونسي من داخل الجمهورية الى تونس العاصمة كان درسا تطبيقيا لما قرأناه في الابتدائي … (بدويّ في العاصمة) … نسق الحياة ….ضجيج العاصمة ..انوارها … الوانها … هي بمثابة المرجل الذي بختلط فيه كل اصناف التونسيين ..كل العطور.. وكل الروائح ايضا ..
نحن شباب تلك الحقبة في بداية السبعينات كنا نتطلّع نعم الى تحقيق طموحاتنا الدراسية ..ولكن ايضا كنا ايضا تواقين لاكتشاف حياة الحرية بكل مفاصلها …فالعاصمة تعني اول خطوة للنضال السياسي … ومرتعا لتفتيق مواهبنا في هذا الباب من خلال حضور الـ”آجيه” (اجتماع عام) في الكليات وخاصة في الكامبوس معقل اليساريين …حيث كنا في جلّنا مزبهلّين باصحاب القامات الفارعة في الخطابة …ورغم اننا في جلّنا أيضا لا نفقه كثيرا في خطابات الرفاق، الا اننا كنا ننساق في ترديد الشعارات ونحن نتماهى مع تشي غيفارا والشيخ امام …ومع مقولات فلاديمير اوليانوف لينين، مستعينين في ذلك بالمخزون الكبير الذي تركه فينا اساتذتنا سنة الباكالوريا خاصة …كنا نستهزئ بمن لا يعرف شيئا عن السوفخوزات والكولخوزات (وهو النظام الانتاجي في معجم الشيوعية) بل نصبح احيانا منظّرين وبكل فخر وزهوّ وتطاوس لاولائك الذين “كعبة لا” في هذا القليّم.. لنكتشف بعد عمر متقدّم اننا كنا اشبه بالببغاءات …رغم ان البعض من اليسار مازال لحد الان لم يكتشف ببّغائيته بل هو يفاخر بذلك وبكل حماقة …
حياة الواحد منّا انذاك يمكن تقسيمها الى جدولين ..جدول النضال الثوري كما نسميه والخروج في مظاهرات منددة باستبداد بورقيبة وجماعته ومطالبة بالحريات …وجدول “المقرّرات” …هذه المقررات هي تلك التي حكى عنها سعيد صالح في مدرسة المشاغبين ..العلاقة بين الفتاة والشاب في المناطق الداخلية بما في ذلك المدن الكبرى كانت محتشمة جدا … انعدام شبه كلّي ان لم يكن كلّيا لعلاقة مادية خارج اسوار بيوت البغاء المسموح بها .. كنا نُمنّي النفس بكثير من المقرّرات عندما انتقلنا الى العاصمة ..وهذا التمنّي لم يات من فراغ .. انا كنت من ضمن القلائل في شلّتي بالساقية الذين زاروا العاصمة من قبل ضيفا على والدي رحمه الله عندما عمل بها ..هنالك اكتشفت ان الحياة مختلفة تماما ضمن باب المقرّرات …اكتشفت مثلا حديقة الباساج …حديقة الباساج هذه كانت ملتقى للعشاق عند غروب الشمس ..والعشاق هناك لا يكتفون بـ” حائرون ..يتساءلون ..يتهامسون ..عن الوضع كيف سيكون” …بل هم “يتكوبلون” ويتشابكون ويتعانقون… اما عن القبلات المحمومة فهم لا يتأخّرون …عيني عينك… هي ليست حُمّى مساء السبت ..هي حُمّى يومية …
كنت اذهب يوميا اتلصّص عليهم بنصف عين اعتقادا منّي انه من العيب ان ازعج العشّاق المحمومين قبلا …ولكن اكتشفت فيما بعد اني غير موجود غير موجود غير موجود …فاصبحت امتّع النظر بتلك المقرّرات الى درجة الاصابة بالحُمّى …تماما كالكلب اللاّهث (يشوف يعينو ويموت بقهرتو) ..كيف الوصول الى حماكم المحموم وليس لي في الامر حيلة؟؟ …كنت اعود الى الشلّة لافاتحهم فيما راته عيناي في تونس العاصمة وكنت ارى لعابهم يسيل تماما ككلب بافلوف …وكنت وبكل شماتة افعل ذلك وبداخلي شيطاني يردّد (نتقّهر وحدي ؟؟؟)… والان ..انا في تونس ومع رضا ..الاستوديو موجود ..ماذا تبقّى ..؟؟؟ الم اقل لكم انه بعد نجاحي في مناظرة التلفزة كانت كلمة السرّ بيني وبين رضا (خاربينها خاربينها)؟؟؟ .. هو نوع من الانتقام من العلاقة شبه المنعدمة ماديا بين رغبتنا في ان تكون لنا تجارب مع الفتاة، وبين وضع اجتماعي لم يكن يسمح بتاتا …والحال الان ؟؟.. .حضر الملعب (الاستوديو)… اللاّعبان جاهزان، بل على اتم الجهوزية بدنيا ونفسانيا ..ولم يبق الا البحث عن المحمومات …
في بداية البحث عنهن لم تكن الجرأة تنقصنا ..الا اننا اكتشفنا اننا هواة …وان بنات العاصمة متعوّدات على اللعب في الشامبيونزليغ ..اساليبنا كانت بدائية في الاطاحة بهن ..كنّا فقراء جدا في ابجدية الغزل المُجدي ..بل كنا نتعرض الى اهانات من غواني العاصمة ..لعلّها كلّها تتلخّص في: “ملاّ دغفة ..امشي اتعلّم راك ما تلعّبنيش” …ولأن ترمومتر الحمّى العاصمية تتصاعد درجاته يوما بعد يوم فاننا كنا مضطرّين للبحث عن حلول بديلة لاطفاء الظمأ ..ومن لنا يغير (عبدالله قش) او الدار الكبيرة وغيرهما من دور بغاء سرّي رغم انه علني بتونس العاصمة … او بالبحث عن بائعات هوى بشوارع تونس واشهرها شارع جان جوريس …ومن منّا في تلك الحقبة من الشباب لم يعرف “البكّوشة” هي بائعة هوى خرساء ذات قوام جميل ..وتتعامل بتلك المقولة الاشهارية التي كانت تستعمل انذاك في عديد الحفلات (اسعار خاصة بالطلبة والجيش)…
واستقبل الاستوديو الخرساء ..كانت اول مقرّر يدخل الاستوديو ..ويبدو انها كانت طالع خير عليه ..اذ بعدها اصبح مزارا للمقرّرات (وعلى كل لون يا كريمة) لاننا تجاوزنا مرحلة “ما ابنّك” التي كنا نستعملها مع المقررات وهي التي كانت مدعاة لسخريتهن… الى “عندك وقت ..؟؟” فيظن المقرّر اننا نسأله عن الساعة ..وعندما يجيب ننقضّ عليه بـ” لا ..لا …عندك وقت نشربو قهوة ..؟؟؟”… قد يكون هذا الاسلوب حاليا من امسط الاساليب واتفهها ..ولكن ثقوا انه وقتها يلعّب …قد اعود وحتما ساعود الى المقرّرات في ورقات قادمة ولكن عبثنا وجوّنا لم ينسنا يوما واجباتنا الدراسية ..
اليوم الاول في الدراسة بالنسبة لي وفي دفعة 1971 للمركز التابع للتلفزة التونسية كان يوم تعارف ..كنت الاصغر سنا وجسدا ..وكان يدير المركز واحد من افضل اطارات التلفزة الوطنية، المهندس الباجي صانصة ..كاريزما ..وكفاءة ..وكان يساعده المهندس الشاب عمر كنّو الذي كان الاكثر التصاقا بنا ..الجدول كان مكتظ المواد وبمعدل ثماني ساعات يوميا .. ولم نعرف انذاك من الاساتذة الا بعض المخرجين الذين نقرأ اسماءهم على الشاشة كالحاج سليمان وسالم الصيادي …ثم اكتشفنا مع مرور الايام انّ المركز خصص جمعا متميّزا من خيرة الاساتذة ..السيد ابراهيم الغضاب وهو عند تخرجي عرفي المباشر ليُكمل حياته مهنيا مديرا تقنيا عاما للمؤسسة… كذلك الفرنسي الرهيب في الموسيقى… جان بول نيكولاي رئيس الأوركسترا السمفوني لمدينة تونس ..أيضا الزميل عبدالعزيز الفريخة، واحد من افضل مديري التصوير بالتلفزة… وغيرهم ..
كنا مجموعة من الطلبة لا تتجاوز الثلاثين وكنا مقسّمين حسب دراستنا الثانوية الى اربعة اختصاصات… مديري تصوير، مصور تلفزي (خريجي الشعب العلمية) …كاتبة مخرج ومركب افلام (خريجي شعبة الاداب) ..وكنا من جهات مختلفة من الجمهورية … وهذه النقطة اتاحت لي امرين ..اولهما التعرف على الاخر ذلك الآتي من الغرب والشمال والوسط والجنوب… وثانيهما تفنيد فكرة الاخر حول الصفاقسي … الاخر يرى الصفاقسي عموما بانه مثال لـ”لشحّ” _” وحبّ الذات ولعدم استعداده للانخراط مع الاخرين ..وللامانة اقول ان بعض هذه الصفات موجودة، خاصة ان القوالب الاجتماعية النّمطية ساعدتها بشكل لا شعوري على ان تكون ..الم يعّودوننا منذ صغرنا على “المشوم اللي تعرفو خير من الخير اللي ما تعرفوش”؟؟… الم يكرّروا لنا كلمات من نوع برّاني ..عربي ..و”اش يدخّل الطبايع على بعضها” …الم يثقّفوننا بثقافة انهزامية من نوع “الباب اللي يجيك منّو الريح سدّوا واستريح” ..و”لا تدخّل ايدك لمغاور ولا تلسعك عقارب” …
نعم هذا وُجد لدينا ..ولكن هل هو مقتصر على مدينة ما ..او على جهة ما ؟؟؟ اليست نفس القوالب النمطية تُعشّش في اغلب المدن؟ ..ماذا نقول عن جارة و المنزل في قابس …؟؟ ماذا نقول عن ملّيتة ويقية قرى قرقنة؟ ..اليس الملّيتي ذلك الذي يقول له الواحد منا انت قرقني فيجيب لا، انا ملّيتي ..ماذا عن مكنين وقصر هلال ..ماذا عن منستيري ومستيري ..؟؟… اما عن الشحّ لماذا لا نراه من زاوية حسن التصرّف في الميزانية والادّخار للايام السوداء .. اسال …ايُعجبكم ذلك الذي “كبوس هذا على راس هذا” …و”اللّي يجيبو النهار يدّيه الليل” ..؟؟ مثلي تماما ..انا لم احسب يوما ايّ حساب لما قد يأتي به الغد وبقيت طوال عمري عاجزا تماما عن ان اكون “صفاقسي” كما يقول عنّي زملائي ..كانوا يُصرّون دوما بعد معرفتي على القول: انت مستحيل تكون صفاقسي…وكنت ارفض قطعيا هذه المواقف ..كنت ارد عليهم وعلى طريقة جيمس براون وهو يتغنى مفتخرا بلونه الاسود Say it loud I am black and I am proud اما انا فاقول لهم مفتخرا بانتمائي لمدينتي say It loud I am sfaxian and I am proud … كنا ثلاثة من صفاقس في تلك الدفعة …وربّما دعوة عيّادة (يعطيك القبول ومحبّة الرسول) حضرت في علاقتي مع زملائي في تلك الدفعة ..كنت مندمجا معهم والاصح انهم وبعد مواقفهم الاحترازية منّي في البداية اندمجوا معي عن طواعية وبكل حب .. وحتى في نهاية السنة الاولى من دراستي عندما انتصر النادي الصفاقسي ذات جوان بملعب المنزه على الترجي وبعد تلك الفضيحة المتمثلة في حرق الملعب من طرف انصار الترجي… المتفرعنين ولحد الان هم متفرعنون … وتجميد نشاطه ..وفوز السي اس اس بالثنائي .. التزم جميع زملائي باحترامي رغم استفزازي ومشاكستي لهم …
الدراسة ومنذ بدايتها كنت فيها كالاطرش في الزفّة …. عائق اللغة الفرنسية مثّل حاجزا رهيبا بين ما اتلقّى من دروس مكثّفة يوميا وبين قدرتي على الاستيعاب ..وخاصة تلك الحصص العلمية كتقنيات الفيديو وتقنيات التحميض وحتى نقنيات المونتاج …لم اجد ايّ حل لاشكالي …وصدقا لم تكن مغامراتي مع المقرّرات هي التي اعاقتني عن دراستي ..لانني كنت دوما اضع لكل حادث او حدث او حديث روزنامته التي تليق به .. واعيد القول لم اجد حلاّ لاشكالي فكنت دائم الترديد (مولاها ربّي) … المنحة التي كانت تعطينا ايّاها المؤسسة هي منحة طالبية 30 د شهريا ..وكنت مندهشا من بعض زملاء الدراسة الذين يخصصون لعائلاتهم البعض من تلك المنحة …انا لم اعش يوما في حياتي منحة تلحق باختها او مرتبا شهريا يلمس اخاه …نعرف روحي فلاّقة _ لكن ومقابل هذا وجدت دائما في اصدقائي من يسند ظهري وقت الشدائد ..وكم هم كثر ..وكم انا ممنون لهم وكم البعض منهم كانوا بكل امانة المنقذين في ايام صعبة ..كم انا خجول منهم لأني وددت يوما لو تبّرعت لبعضهم باعضاء من جسدي علّني اقول لهم بتلك الطريقة: شكرا من عمق اعماقي …
في بداية السنة الدراسية منّ عليّ واحد من اصدقائي ببطاقة اكلته الجامعية بمطعم بوزيان الذي هو على بعد امتار من مركز الدراسة ..شكرا صديقي عبدالعزيز الملّولي، رجل التربية وزميل الدراسة ..وكان العون المكالّف بمراقبة البطاقات ينظر اليّ مليّا ويبتسم ..كان واثقا من ان البطاقة ليست لي ولكنه كان يبتسم ..و يدعني امُرّ وكأنه يقول: لا شفتني لا شفتك.. (القبول ومحبّة الرسول)… لكن وعند اقتراب اخر الشهر اضطرّ احيانا الى العشاء “نصف باڨات ڨدمة على ڨدمة” بعبارة اخرى … القرقوش هو الطبق الرئيسي والفراك هو العُدُو …يااااااااااااااااه كم هو شهيّ ذلك الطبق ..اليس هنالك من يكتفي ببعض الحشائش يمضغها !…
سنة 2017 …بعد 14 جانفي …كنا نظن ان زمن “الجيعان ياكل الحجر” ولّى … فاذا بزمن انقرض فيه حتى الحجر. ليؤكل.. طلع علينا زمن كما يطلع (كدت اقول البدر…ما اقرب مكة لبوحجر !).. هو كما يطلع البوم وهو ينوح من قهرالزمن …وكما لكل زمن عنادله وبلابله فان لكل زمن بومه وغربانه ….وهذا طبيعي ومنطقي ..ولكن ان تمتلئ الاجواء بالغربان فذلك هو السواد …
وجاء شهر جوان 71 وجاءت العطلة القصيرة الممنوحة لنا نحن دفعة التلفزة الوطنية وعدت الى صفاقس ..الى عائلتي .الى الشلّة … كنت يومها بمنزل اختي الكبرى، ذلك المنزل الذي حضر عديد مواجعي … ودق جرس الباب وخرجت لافتح … تبا لك يا جرس ويا باب ويا فتح …
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …
وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…
وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..
قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …
لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …
وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …
سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…
عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..
وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …
ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …
ـ يتبع ـ
عبد الكريم قطاطة:
المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …
وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..
في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…
اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…
اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…
لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…
في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…
عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…
اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.
يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.
الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.
طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.
وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.
صن نار
- ثقافياقبل 19 ساعة
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- جور نارقبل 19 ساعة
ورقات يتيم … الورقة 89
- ثقافياقبل يوم واحد
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل يومين
الصوت المضيء
- جور نارقبل 3 أيام
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 3 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 4 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات
- صن نارقبل 4 أيام
في المفاوضات الأخيرة… هل يتخلى “حزب الله” عن جنوب لبنان؟