عبد الكريم قطاطة:
مشكلة العديد منّا، اثبات الذات… وهو ولئن يبدو امرا شرعيا بالنسبة لأي كائن بشري فانه يصبح ظاهرة مقيتة ومنفّرة لمن لا يُجيد الطرق المؤدّية اليها لأنها تتحوّل تدريجيا الى كابوس في علاقتنا بالاخر وتُوتّر العلاقات بشكل مُقرف …وافضلنا هو من يعرف متى وكيف والى ايّ حد يتدخّل في شؤون الاخر حتّى لا يُصبح عبئا ثقيلا عليه …
هذا ما حدث لي مع قريب لي (ابن خالي رحمه الله) عندما سمع بخبر نجاحي واستعدادي للانتقال الى فرنسا لمواصلة دراستي العليا في العلوم السمعية البصرية …جاء هذا القريب يوما الى عيّادة وانطلاقا من حرصه على تحسيسها بخطورة ما قد ينجم عن تحوّلي الى عاصمة النور من مخاطر قال: “شوف يا عميمتي انا يلزمني ينبهّك ..راهو عبدالكريم اذا مشى لفرنسا امسح مات ..راهو ماعادش يرجعلك ..يخاذلك فرنساوية ويعرّس بيها ويستقرّ غاديكة ..انا قلتلك باش ما تلومش عليّ نهار اخر” … صمتت عيادة طويلا ولم تشأ حتى اخباري بذلك …الا انه ومع اقتراب موعد سفري بدأت عيناها تحكيان… كنت استمع من خلالهما الى شجنها العميق ..صدقا لم اتصوّر لحظة واحدة ان ابن الخال هذا وراء ذلك الشجن .. هكذا هو اراد ان يثبت ذاته بذلك التدخّل …
.وجاءت ليلة السفر الى تونس واذا بعيّادة تُلحّ ان تكون معي لتودّعني في مطار تونس قرطاج صحبة ابنة اخيها …. وشلّة الاصدقاء ..اندهشت للامر ..وقلت: الامر غريب هنالك شيء ما … ليلتها لم تنم عيّادة… كانت طوال الوقت تنظر الى طفلها الذي قد يغادر دون رجعة كما وشوش لها ابن اخيها ..كانت وكأنها تملأ عينيها بكل تفصيلة من ملامح طفلها …كانت وكأنها تتدخر تلك التفاصيل لغد مجهول …عندما صعدنا الى صالة المطار العليا وقبل الدخول الى الجمارك، كانت تبحث عن قارورة ماء صغيرة …تصوّرت انه عطش الفراق …الا انها لم تفتح القارورة ولم تشرب منها قطرة واحدة… كانت تخبئها لترُش ماءها على آثار قدميّ وانا اغادر للدخول الى قاعة الرحيل …
عادة رش الماء وراء حطوات المسافر تعني حتميّة عودته في اعرافها … فهمت ذلك وانا التفت لانظر اليها قبل المغادرة … وفجأة وجدتني اعود اليها وامسكها من كتفيها واقول: قللي يا عيادة احكيلي انتي بيك حاجة ومخبّيتها عليّ ؟؟ … اسبلت عينيها الى اسفل وهمهمت: ” ما ثمة شيء يا وليدي ربي يوصلك سالم ويجيبك سالم”… مسكتها من يدها وابتعدت بها عن الجميع من اهل واصدقاء وقلت: “مانيش مقدّم خطوة اخرى اللي ما تقللّي اشبيك”… مسكت يديّ بارتعاش وقالت: “قالولي انك وقت تمشي لفرنسا ماعادش ترجع” … اشكون قللك هالحديث ؟؟” همهمت: “ولد خالك” … وفارت دماء الدنيا في عروقي…
ما افظع ان تفور الدماء في عروقنا فنصبح جبارين قادرين على هدّ كل الجبال ..ما افظع ان نعيش لحظة في الحياة نريد ان ننفجر فيها ونُفجّر كلّ ما يحيط بنا … ما افظع ان نعيش لحظة الهزيمة لأننا غير قادرين على ابتلاع قول ما …كلمة ما ..شخص ما … وقتها عشت بعض الثواني على وقع تلك الحالة ثم استفقت للحظة واعدت مسك يديها بقوّة وقلت: ” انت جبت راجل والا طلطول ؟؟” … اجابت ولست ادري بوعي او دون وعي: “جبت راجل وسيد الرجال” … قبّلت جبينها وقلت: “اطمان يا عيادة يجي نهار ونثبتلك انّك جبت راجل وسيد الرجال” ..هي تعرف مدى صدقي وخاصة مدى تقبُّلي للتحدّيات ..وقدرتي على كسبها ..لذلك عانقتني طويلا وهي تُردّد: “يكبّ سعدهم دموعي وقت حاجتي بيهم ما نلقاهمش”… هي فعلا من الصنف الذي قلّما رايته يبكي … دمعتها عزيزة كما تقول… ولكن حتى الدموع لها من يفهمها سواء تدحرجت ام بقيت في مآقيها …
وصعدت الطائرة ..كنّا اربعة تونسيين من دار التلفزة، اثنان اختصاص هندسة صوت، واحد اختصاص تصوير تلفزي رحمه الله وانا اختصاص مونتاج … كان ذلك في 30 مارس 1976 … عندما دخلت الطائرة اجواء باريس العليا وهي تحوم في سماء اورلي، انتابتني قشعريرة رهيبة …باريس عاصمة النور.. ياااااااه …كان كل ما تحتي انوار برتقالية وكنت كابرة وسط محيط ..الانبهار والضياع …لن انسى ابدا ذلك الشعور ..كنت اردد بداخلي كيف ساجد نفسي وسط هذه الدنيا الغريبة ؟؟ صدقا كنت اشعر يعجز كامل عن تصوّر نفسي في اتون هذه الاضواء المنبعثة من كل زاوية رؤية …ورغم انّ مركز تكوين الطلاب الافارقة كان ينتظرنا بحافلته الصغيرة في بهو قاعة مطار اورلي… ليتكفّل بنقلنا الى المركز اولا لاعطائنا لوازمنا من بطاقة الاقامة الجاهزة مُسبقا ولتمكيننا من المنحة الاولى 130د، ثم لنقلتنا الى المبيت المخصص لنا بـ”روني سو بوا” في الضاحية الشرقية لباريس والقريب من معهدنا بـ_”بري سير مارن”…
رغم ان كل شيء كان مرتّبا مسبقا على احسن حال، فان هاجس العجز والضياع لم يفارقني خاصة وتلك السيارة تنهب الارض نهبا وتلك الانفاق الفوقية والتحتية تتقاطع فيها ومنها تلك الاضواء البرتقالية يمينا وشمالا وتحتا وفوقا ..كنت اشبه بذلك الذي انتقل الى عالم افتراضي لا حقيقة فيه … كنت احيانا اُغمض عينيّ لاعود الى طفولتي في الوادي الظهراوي الرابط بين ساقيتي الدائر والزيت، فأرى صور البغال والاحمرة الوانا واشكالا وقد انتظر احيانا ساعة كاملة لأرى سيارة بيجو 203 سلسلة رقم واحد ..نعم انا ممن عاصروا السلسلة رقم واحد للسيارات في تونس …وانا من عاصر البيجو 203 و 403 و404 وعندما تطلع علينا يوما سيارة من نوع جيفا 4 او دي اس .. ننبهر بها كمخلوق لا ينتمي الى كوكبنا …كنا نرى الترف في افلام جيمس بوند وكنا نرى باريس في اغاني جاك بريل او ايديت بياف وكنا نتصور باريس في فيكتور هيغو وبؤسائه او في لافونتين و”فابلواتو” …او موليير وبخيله …
ذكرت كل هذا وبشكل مُبالغ فيه ربما ولكن اردت فقط ان اعبّر لكم عن انبهاري وجزعي وخوفي وانا اطأ ارض باريس حتى اني كنت اردّد في داخلي كيف ساستطيع العيش في هذه الدنيا الرهيبة والمتشعبة …حينما وصلت الى مبيت روني سوبوا لم يكن همي اطلاقا لا المأكل ولا السكنى ..المهم كيف ساتمكّن من فكّ لغز الضياع …اتذكّر جيّدا ان احد الافارقة المقيمين بنفس المبيت اقترب منّي وكأنه احس بشحوب نظرتي وهلعها وسألني: “الاخ من اين ؟؟؟” … استملحت وجهه وابتسامته الناطقة من بياض اسنانه وقلت له: “من تونس” … مد يده مصافحا وقال انا فيليب من السنغال …احسست بحرارة صادقة في عينيه وفي تحيته اليدوية ..بادلته نفس الصدق وانا اقول تشرّفنا ..نظر اليّ وقال سنصبح اصدقاء ..قلت له وبكل ثقة نعم …جاءني احد الزملاء من تونس ونهرني بقوله: “رد بالك اشبيك هابط على ڨلاڨمك ؟؟”… قلت له علاش ..؟؟ قال يخخي تعرفو ..؟؟ لم اجبه لان هنالك احساسا بداخلي يقول انّ فيليب هذا انسان جميل …ولأني مدين لاحساسي في غالب علاقاتي بالاخر، فان هذا الاحساس اصبح حقيقة واصبح فيليب من اقرب الناس الى قلبي ومن افضل من عرفت في المعهد ..
ليلتها تناولت “عظمة” مقلية وطرف هريسة _ لأن رائحة المأكولات في مطعم المبيت ليس فقط لم ترق لي بل سدّت انفي وانفاسي ..وانا الذي عادة ما آكل بانفي قبل فمي (ياسر خوكم جعبار في الماكلة وماسط وكل الصفات فيه)… ارتميت على احد مقاعد صالة المبيت واخذت سيجارة المنته التي جلبت منها عشر علب من تونس وقطعة الحلوى وطفقت ادخّن … حكايتي مع السيجارة هي لم تكن يوما ولن تكون حكاية مدمن مع النيكوتين ..انا بيني وبين سيجارتي حكاية عشق وحياة …بل اصل احيانا الى حد السخرية ممن يكتبون على علبة السجائر (التدخين قاتل) … الحياة في نظري لا تقاس بعدد السنين التي نعيشها بل بعدد اللحظات التي نستمتع فيها بتلك الحياة ..من ثمة تفهمون ربما ما معنى عشقي لسيجارتي ..في لحظات تعاملي معها احس بأني اعانقها وتعانقني الثمها وتلثمني اُمتّعها وتمتّعني .اشكو لها وتشكو لي ..السيجارة هي الحياة بدبيب الحياة فيها وهي تبدأ لحظة اشتعالها.. بعد ان ركنت الى علبتها لست ادري كم من حياة الكهوف…. ثم بتوهجها شيئا فشيئا لتبلغ ذروة انتعاشها …ثم بانطفائها بعد قضاء رسالتها ..اليست تلك هي الصورة المصغّرة لحياتنا …فقط اسال ما قيمة السيجارة وهي في علبتها ..؟؟؟ وبالتالي ما قيمة حياتنا وهي في علبة الكهوف ..؟؟؟
كنت ادخّن سيجارتي وانفث دخانها وهو يتصاعد في حلقات لارى فيه ما خلّفته حولي من مشاهد صبيحة ذلك اليوم في مطار قرطاج الدُّولي …امُُّ تكاد تكون ثكلى لفراق وحيدها … خطيبة مازالت في الدرجات الاولى في علاقتها بخطيبها الذي لا تعرف عنه اشياء كثيرة باستثناء انه ابن عمّتها وانه مقبل على 3 سنوات دراسة في فرنسا … ومجموعة من شلّة نهج كندا الذين يُمنّون النفس بنشرات اخبارية مفصلة يرسلها لهم صديقهم حول حياته بباريس وحول العابه الاولمبية كما يسمونها وهو المقبل على فتوحات من كل الجنسيات .. مشاهد مختلفة حتما او بعبارة اخرى “كل واحد وهمّو” .. لم استفق الا وصديقي رؤوف بن مصلي رحمه الله يدعوني لـ”هبطة” لباريس …ماذا؟ نزول إلى باريس في الليل ..؟؟ لم اصدّق وانا الذي اسبح في عالم الجزع والخوف من باريس نهارا فكيف لي ان اُقامر ليلا …؟؟
لكزني رؤوف وقال لي اشبيك راني باريس نعرفها شكلة شكلة ..توة تشوف باريس اسهل من صفاقس متاعك ويستحيل انك تضيع فيها …تمالكت وقلت هبطنا ..وتصوروا عبدالكريم في باريس بكل انوارها ليلا ..”بدوي في العاصمة” يتذكره الذين عاصروني … هو لاباس عليه امام ما عشته ليلتها …كانت تجربة رائعة بكل المفاصل لعلّ اهم نتائجها اني طلّقت الخوف من المجهول نهائيا وفي كل آت في حياتي …والفضل في ذلك يعود الى رؤوف رحمه الله ….اوّل ما فعله معنا نحن قوم بني جهل الذي وجد نفسه في باريس ذات ليلة بتاريخ 30 مارس 1976 … فتح اعيننا على حقيقة بسيطة وعملية جدا ..الا وهي اذا تاهت بك السبل في باريس عليك وعلى اول حفرة ميترو ..ادخلها وهي كفيلة باعطائك لا فقط اين انت بل اي رقم ميترو يوصلك الى اي مكان تريده شرقا غربا شمالا جنوبا ..
نعم صدقت يا رؤوف .في تونس العاصمة او في اية مدينة تونسية قد نضيع ولكن ابدا ان يكون ذلك في باريس .. وعدت الى المبيت وصدري مُرتوٍ باوكسجين الانتصار … انتصرت ونهائيا على حاجز الخوف من الضياع في باريس… بل لم انتظر في الغد وبعد الترسيم بالمعهد لا رؤوف ولا عثمان ولا بو الزّور لاتنقل وحيدا في باريس …احسست يومها بأن رجليّ لا يتجاوز وزنهما بعض الغرامات ..كنت كفراشة مزهوّة وجدت ربيعها .. كخطاف عاد ليحلّق بحرّية في عاصمة النور والحرية ..كقرنفلة خرجت من غمدها بعد شتاء دام سنوات …بقيت اتجوّل في شوارع لا اعرف عنها شيئا لا اسمها ولا اسم عائلتها ولا اسم روادها ..كان كل همي ان اقول انا فيك يا باريس ..انا بين اضلعك يا باريس انا قادم اليك لاترشف منك … كان همّي ان اقول لها .لقد عانيت الامرين بل الامرّات لكي اصل اليك… وعندما وجدتك لن افوّت لحظة واحدة من عمري كي اعبّئ كل شراييني من نورك وعطرك ..ما امتع الاحساس في حياة الواحد منّا عندما يحطّ ببلد ما، بمدينة ما، فيقرأ في غدها النور والعمق والجمال …
في اول يوم من حياتي بباريس كانت كل هذه الاحاسيس تملؤني وكأنني شاهدتها يوما في حلمي وها انا جئت لتحقيقها على ارض الواقع …وانطلقت رحلتي مع فرنسا على امتداد سنوات ثلاث ..يااااااااااااااااااااااااااااه كم غيّرتني راسا على عقب وكم اكتشفت فيها وبعدها اني كنت ذلك العربي المتخلّف الى حد الجهلوت …ياااااااااااااااااااااااااه كم انا سعيد باقداري تلك …
ـ يتبع ـ