عبد الكريم قطاطة:
في حياة الواحد منّا ما يُسمّى باللحظة الفارقة ..وقتها لن يرحمك الزمن ولن يمكّنك من بونيس الانتظار… وقتها يجب ان تكون ..
كان جميع الزملاء التونسين متحلّقين حولي بعضهم برغبة جامحة في معرفة قراري وبعضهم بشفقة على هبلة من هبلاتي… اذ كيف لواحد مثلي يفرّط في مرتب شهري يتقاضاه من مؤسسته على امتداد سنتين ويُوضع مباشرة في دفتر ادّخاره البنكي دون المساس منه ولو بـ”دانقي” واحد، من جهة …ثم هو ايضا يتمتّع بمنحة جامعية من المعهد 130 د شهريا، علاوة على ما تجود به بعض الاعمال الاضافية كمركّب افلام في شركة خاصّة … و”الجود” الاضافي هذا مرموق جدا… من هذه الزاوية ترك كل هذه المغريات المادية تدخل حتما في خانة سوء التقدير للاقدار التي حبتني بهذه الفرص ..وهذا منطقي ومعقول ومهبول من يعمل ضد هذا التيار ..
لكن يا جماعة يا جماعة*…
… في تلك اللحظة الفارقة التي سآخذ فيها قراري حول مواصلة دراستي او اجراء المناظرة والعودة الى بلدي صفر اليدين من المنح والمرتب والعلاوات الخاصة، ارتسمت على شاشة فكري لوحتان اولاهما تعليق كتبته يوما على احدى صوري وانا ادرس بمركز تكوين الاطارات التابع للتلفزة التونسية: (لابد ان اصل يوما الى هيمالايا)… وارتأيت يوم اتمام الدراسة والولوج الى دنيا المهنة اني مازلت في حدود الشعانبي**…
..اللوحة الثانية والتي تابعتني طيلة حياتي، وعدي لعيادة بان اكون لها “راجل وسيدي الرجال” وانا ااهديها كل براهين الدنيا على انّ ولدها لن يخيّب آمالها فيه …انتفضت من مكاني بين زملائي دون الاعلان عن اي قرار وتوجّهت مباشرة وتوّا ..توّا..الى مكتب مدير المعهد ..اندهش من مجيئي وبادرني بالقول ..اهلا ..يبدو انك اخذت قرارك ..انا امهلتك اسبوعا فاذا بك تاتيني بعد نصف ساعة …قلت له نعم . لا فائدة في تأخير قرارا اليوم الى الغد… ساُنهي علاقتي بالدراسة في المستوى الثاني وانا مستعد لاجراء مناظرة المستوى الثالث والعودة الى بلدي في انتظارالنتيجة … صمت قليلا وقال: “انا فخور بقرارك ..لانه قرار شجاع ..الاسبوع المقبل سامكّنك من اجراء المناظرة وفي نهايته ستعود الى بلدك ..انه قانون اللعبة يا ابني” …
في الحقيقة انا ايضا كنت سعيدا جدا وفخورا بالقرار ..لم اكن يوما مثاليا في مثل هذه المواقف ولكن كنت دوما اعطي للجانب المادّي في حياتي الدرجة العاشرة من اهتماماتي …ولهذا يقول عنّي العديد ممّن يعرفونني وهم محقّون في ذلك (هاكة علاش قعدت طول عمرك منتّف)… في قراري كان كلّ همّي مزيد العلم والمعرفة حتى أقترب من هيمالايا … قلت اقترب ولم اقل اصل لأن الوصول الى هيمالايا فقط والاكتفاء بها كآخر محطّة من الطموح، هو يعني عندي الموت … حياة الانسان بالنسبة لي قطار لا يعرف التوقف الا عندما يشاء الله ذلك ..لذلك وبعد سنوات من العمر ضحكت من نفسي وانا اعتبر هيمالايا هي المحطة الاخيرة والهدف الاقصى ..بعد سنوات من عمري اصبحت اؤمن بان هيمالايا لا تساوي شيئا امام حدود السماء… نعم يجب ان نرسم يوما ما هدفا في الطموح نسمّيه حدود السماء والتي ننظر من موقعها الى كل العالم ليبدو لنا هيمالايا نقطة صغيرة جدا… ولنكتشف ان الحلم لم يكن كبيرا وهائلا كما رسمناه… وحتى عندما نحقق الوصول الى حدود السماء، علينا ان نتجاوز ذلك الى ما بعد حدود السماء …
الحياة بحلوها ومرّها علمتني ان لا حدود للطموح، تجسيدا لـ”لو تعلقت همة المرء بما وراء العرش لناله”… لكن المأساة في العديدين منّا انهم يطمحون ويعملون ويسعون الى العرش القذر ..سواء بافتكاك مكان الرب ليفتوا ويستفتوا ويمنحوا صكوك الجنة للغلابة البسطاء ..دون ان يفهموا انهم بفعلهم ذلك يشركون بالله الواحد الاحد ..اذ انه لا يزكّي الا الله …او اولئك الذين يسعون الى عرش الحكم اما سياسيا او ماديا… رغم انّ العلاقة بينهما قائمة على اقتسام عرش السلطة بما معناه (غمّض عينيك عليّ نغمّض عينيّ عليك… ناقف معاك وانت اوقف معايا … وتعرّي عليّ الستر نعرّي عليك الستر)… هل فهمتم ان المصالحة التي يُحكى عنها كذبة؟؟ هي فقط للاستهلاك ..هي فقط حربوشة . احيانا لتلهية عن امر ما وقع او سيقع …واحيانا للابتزاز السياسي كلما قرُب موعد انتخابي …اقول هذا لماذا ..؟؟.لان المصالحة وقعت من زمااااااااااااااااااااااان بين شياطين المال وشياطين السياسة وهذا هو المعنى الحقيقي للتوافق …
يوم اتخاذ قراري لم تكن المعادلة صعبة الحل عندي .. في الكفّة الاولى كان هناك الجانب المادي المهم جدا كمّا ..ثم كان هناك ايضا امكانية الفشل في مناظرة المستوى الثالث وهو امر وارد ..وفي الكفّة الثانية كان هناك وجه عيادة يوم توديعي بمطار تونس قرطاج بتجاعيده الرقيقة وبعينين كم هما الجمال والرهبة ..كم هما الخوف من مجهول مّا لولدها في بلاد الغربة والخوف من بنت الرومية ..وكم هما التوق الذي لا حدود له حتى يعود اليها ولدها سيد الرجال كما وعدها ..وهل هنالك كفّة اخرى تستطيع ان تغلب هذه الكفة؟ ..عندما انتفضت واسرعت لمقابلة مدير المعهد لاعلمه بقراري الذي لا رجعة فيه ما كان وقتها بشر في الدنيا قادر على اثنائي في قراري ..والله لو وضعوا الشمس والقمر وكل الكواكب في يدي لما عدلت عن قراري …وهكذا كنت طيلة حياتي ومازلت لن يردعني اي كان في اتخاذ قراراتي ..قد اخطئ واعتذر ولكن ابدا ان اندم ..لأني اتعلم ايضا من اخطائي ..وحده الذي لا يقرّر هو الذي لا يخطئ …
عدت الى زملائي لاعلمهم ايضا… نظروا اليّ دون اي بوح ..قرات في اعين بعضهم “ملاّ طلعة … يسلّم في النعيم ويمشي للجحيم”…وفي اعين بعضهم “هاكا ماهو يحب روحو موش كيف لخرين …توة يندم ويرجع ياكل في صوابعو” … هذه الفئة لم تفهم يوما انك عندما ترضى بان تكون كالآخرين فمعنى ذلك ان تكون دجاج حاكم… فمتى ينتفض الواحد منّا على ذاته كي يخلع عنه ريش دجاج الحاكم ويكون مختلفا لا متخلّفا ؟؟؟ .. صنف آخر في تعامله مع قراري .. اللامبلاة …اي “يدبّر راسو يخخي هو صغيّر اش دخّلني في امورو؟”…كنت وقتها اقول لهم بنظراتي فقط ..عندكم حق اللي ما يدريها يقول سبول …
في نهاية الاسبوع دُعيت لاجراء المناظرة وبشكل استثنائي ..هكذا قررت الادارة ..مناظرة استعجالية ثم عودة سريعة بعدها الى تونس … نوع من انواع الترحيل … ولانني قبلت بقوانين اللعبة اجريت المناظرة وبدأت الاستعداد بعد يومين منها للرحيل ..كان عليّ ان اتصل يوم الاثنين صباحا لارتّب اموري مع المركز الفرنسي للطلبة الافريقين و المكلف بكل شؤون وجودنا على التراب الفرنسي …كان عليّ ان اسلّم بطاقة اقامتي وان يمكّنوني من تذكرة طائرة العودة لتونس …
كانت الساعة تشير الى التاسعة صباحا عندما وصلت ..وكالعادة وبكل بشاشة الموظّفين الواعين بدورهم استقبلتني احداهن ..اعلمتها بموضوعي… تسلمت منّي بطاقة الاقامة ورجتني ان انتظر قليلا لترتيب اموري ….وانتظرت .. وطال انتظاري ..وقتها همهمت (اشنوة حتى في فرانسا يخلليونا نستناو ساعة زادة؟)… وفعلا انتظرت ساعة كاملة ..حتى تخرج اليّ الموظّفة بابتسامة صادقة وتقول ..اعرف جيّدا اني اثقلت عليك بالانتظار ولكن كل ما ارجوه ان تعذرني عندما تكتشف اسباب ذلك …دعتني الى داخل مكتبها ودعتني للجلوس قبالتها …اخذت مكانها على كرسيها الفاخر وبدات:
السيد عبدالكريم كنت ابحث مع المسؤولين في معهدك عن سبب رحيلك الى تونس وانت لم تُكمل” دراستك ..وابلغوني بكل ما حدث لك …وانا بقدر ما انا متفهمة لموقفك بل واقدّره بقدر ما عليّ اعلامك بالاتي: صلاحياتنا في هذا المركز لا تمكنك من التمتع بتذكرة العودة …لانك بالنسبة لنا انت طالب انقطع عن دراسته وعليه ان يتحمّل مسؤولياته ..نحن نمكّن الطلبة فقط عند اتمام دراستهم من تذكرة العودة ..وفي هذه الحالة انت لست منهم … الا انني وباجتهاد شخصي تحادثت مع نظرائي في المركز وفي المعهد في نفس الوقت… وحاولت ان اجد لك مخرجا من هذه الورطة ..وانت تستحق منّا جميعا هذا الاجتهاد …وعرفت بوسائلي وارجوك عدم توريطي وانا كلّي ثقة فيك، انك نجحت في مناظرة المستوى الثالث .. لذلك اعتبرنا في المركز انك أنهيت المستوى الثاني ومن حقك ان تتمتع بتذكرة طائرة لعودتك ..اهنئك وارجو ان يبقى امر نجاحك في صدرك لان النتائج ستعلن رسميا بعد ثلاثة اشهر من الان… وعودة ميمونة الى بلدك الجميل تونس …ونراك قريبا بيننا” …
ياااااااااااه يادي النعيم اللي انت فيه يا قلبي ….كيف يمكن لي ان اصف من انا ؟؟ اين انا..؟؟
اوووووووووووووووووف كم هي مستبدة وظالمة تلك اللغة التي تتمنّع دلالا وغنجا لتقسو عليك فلا تمنحنا ابجدية جديدة لنصف بها من نحن اين نحن … نعم في بعض حالاتنا فرحا او الما نحتاج الى ابجدية جديدة ..تصبح فيها جميع لغات العالم عاقرا او هي ان اعطتك البعض من احرفها فهي تافهة وسقيمة …نجاح في المناظرة خطوة اخرى نحو هيمالايا …عودة الى تونسي الحبيبة و الى …عيادة الاحب ….يا دي النعيم اللي انت فيه يا قلبي …
ـ يتبع ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
*انا سبقت ذلك الاعلامي السوري في اتجاهه المعاكس والذي هو في الحقيقة “معاكس” باتم معنى الكلمة… لانه اتجاه مسبوق الدفع من مؤجّريه حتى يخدم اجندتهم كما يريدون… وما هو في الحقيقة الا بيدق رخيص لا ذمة له ولا موقف ولا ضمير رغم كل ما يبذله من تمثيل … وهو يجيد ذلك ليظهر بمظهر الاعلامي الفذ الذي يبحث عن الحقيقة كل الحقيقة دون تحيّز ..الا ان حقيقة ذلك الفيصل اكدت للعاقل منّا انه لم يكن يوما لا فيصلا يفصل بين الحق والباطل… ولا قاسما يقسم حرفته الاعلامية بعدل على ضيوفه…
**يوم كان الشعانبي شعانبي وقبل ان يتحول الى زريبة ذئاب تقوم بانشطة رياضية لازالة الكوليستيرول..، حسب رواية بعضهم وربي يفتقهم من بعضهم على بعضهم..، واذا بها تزرع كل الاورام في جسد تونس او هكذا توهموا ..ولم يعرفوا يوما ان تونس عصيّة عليهم وعلى جنرالاتهم الذين لهم خارطة طريق واضحة انتقاميّة ومخرّبة، عملت ومازالت تعمل في الخفاء .. قطّع الله اوصالهم!