تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 54

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

كلّ من يعرفني عن قرب يعرف انّ باريس غيّرت فيّ اشياء هامّة جدا ونحتت شخصيّتي ايّما نحت وقلبت عديد القناعات رأسا على عقب .. لعلّ ابرزها والتي طبعت بقيّة حياتي، مراهقتي السياسيّة قبل دراستي بفرنسا …

عبد الكريم قطاطة

في باريس عاشرت عديد التيارات من اقصى يمينها الى اقصى يسارها …كنت اُجيد الاستماع الى خطبهم والى تنظيراتهم السياسية … وفهمت انهم جميعا يشتركون في خاصّية مشتركة: الجعجعة السياسوية على مستوى القيادات وسلوك القطيع على مستوى القواعد … والنتيجة ان تتمتّع القيادات في جلّها بالكراسي وبالعيش الكريم من قصور وجواري وانهار خمر وان تواصل القواعد “نضالها الغبي” ومسيراتها واعتصاماتها وجوعها وعطشها والدمّار لا فقط الازرق بل بكل الالوان القاتمة… من اجل سادتها ومن اجل قصور اخرى وجواري اخريات وانهار من العسل المُصفّى الشيفازي الكنية (نسبة الى ارقى انواع الويسكي شيفاز) ..

لهذا السبب آليت على نفسي ان اقاطع نهائيا فكرة الانتماء الى ايّ فصيل سياسي طيلة حياتي و لا انضمّ إلا الى حزب الانسان المدافع عن الانسان ..احسست بأن الانسان الكوني هو الاجمل والارقى والاعمق بعيدا عن ايّة رغبة انتهازية …ترسخت لديّ قناعة بأن الدفاع عن الانسان كونيا هو الاقرب لمنطق الحياة بعيدا عن السياسة والسياسويين ..لأن الانسان اينما كان وبقطع النظر عن جنسه ولونه هو رغم انفي وانف الجميع اخي ..نعم السنا جميعا احفاد آدم وحوّاء ؟؟؟ … اختلف قطعا مع العديد من البشر في سلوكاتهم الحياتية وارى ذلك امرا طبيعيا تماما كما اختلف قابيل وهابيل …ولكن تعلمت ان لا اكره اي بشر على وجه الارض …قد لا اتوافق مع تصرفاته …قد اقف منددا بجانب الشرّ فيه مسلما كان او مسيحيا او يهوديا او بوذيا .. ولكن لنا جميعا رب هو الكفيل بمحاسبتنا … اذ كيف لي ان اخلع الله من كرسيّ عرشه واجلس مكانه لأكفّر زيدا او احكم على عمرو بالجنة وزيد بالنار ؟؟؟ ذلك عندي ليس فقط خطأ بل هو شرك خفيّ .. مثل هؤلاء الذين يُكفّرون ويعطون صكوك الجنّة ولم يدركوا انّهم بافعالهم تلك تقمّصوا جُبة الربوبية وجلسوا على العرش ليصدروا احكامهم ويعيثون في الارض فسادا …هم لم يقرؤوا يوما (لايُزكّي الا الله)…

في فرنسا ايضا تعلمت ان الانسان لا معنى له ان لم يُفصح عن قناعاته دون وجل او تردّد …لانه ان اصاب فيها سيواصل التشبّث بها وان لم يُصب جاء الرأي الاخر ليُصلح له خطّ مساره … في هذا الباب ساسرد عليكم حادثة هامة عشتها مع مدير الدورة في دراستي الاستاذ كلود اوتزن بيرجيه .. في نهاية الدراسة النظرية وبعد مجموعة من الاشرطة الوثائقية القصيرة التي انجزتها كدروس تطبيقية لما تعلمناه (لعلّ ابرزها شريط وثائقي حول مهرجان المسرح بأفينيون)، جاء موعد الاستعداد لديبلوم ختم الدروس …اخترت انا كموضوع لهذا المشروع انتاج شريط وثائقي حول صفاقس _ واسميته صفاقس حبّي Sfax mon amour ..

كان الهدف بالنسبة لي ان اقوم بانتاج واخراج فيلم وثائقي طويل حول الاوضاع في تونس بكل مفاصلها الساسية والاجتماعية والثقافية… واخترت صفاقس كمثال لمدينة من مدن تونس… لماذا صفاقس دون غيرها ؟؟؟ _ لأنو ما تخرج الصّدقة كان ما يشبعو امّاليها … حظي المشروع المقترح بالقبول من لدن مدير الدورة و ايضا من لدن مؤسستي (الاذاعة والتلفزة التونسية) والتي ساهمت بالجانب التقني من معدات تصوير صورة وصوتا، مرفوقة بمدير تصوير (الزميل عبدالله رتيمي) وبمصوّر (كاميرامان) هو الزميل الهادي ملاّك… دون نسيان مصاريف تنقلهم واقامتهم بصفاقس … وكان لي ذلك …

التصوير امتدّ على ثلاثة ايام رجعت بعدها الى معهدي بباريس لأقوم بنفسي بعملية المونتاج …تمّ انجاز الشريط والذي يمتدّ على 50 دق وجاء يوم مناقشة المشروع أمام لجنة الامتحان والتي يرأسها السيد اوتزن بيرجيه … كانت القاعة تغصّ بالطلبة وكان من بينهم تونسيون وجزائريون (طلاّب درجة ثانية) …الشريط كان ملتزما بالدفاع عن حقوق الغلابة والمساكين، عن الفئات الضعيفة والمسحوقة… واخترت له كنهاية شبّان النادي الصفاقسي في الكرة الطائرة انذاك صنف اواسط… القائمة كانت تضمّ افضل جيل عرفه النادي الصفاقسي والفريق الوطني عموما: غازي المهيري، عبدالعزيز بن عبدالله، صرصار، كسكاس، الحشيشة الخ .. اخترت هذه المجموعة وهم يسددون ضربات ساحقة (زماتشات) وبعد كل ضربة تنفجر الصورة ليخرج منها حرف باللغة الفرنسية “ف” كالفقر وياتي التعليق: (هؤلاء الشبان سيقضون يوما على “ف” كالفقر، “ظ” كالظلم، “ا” كاستغلال … وكانت كل ضربة زماتش مرفوقة بدويّ يتلاءم وانفجار الصّورة وآخر حرف وانا المعارض انذاك لسياسة بورقيبة، كان حرف “ب” وبزرت صورة الرئيس بورقيبة وهي تنفجر وبدوّي هائل لينتهي الشريط …

عذرا ايّها الزعيم والف عذر لأن من اتوا بعدك ورغم كل خطاياك لا يساوون ظفرا منك …هكذا ختمت الشريط وصفّقت ايادي التونسين والجزائرين وحتى الطلبة الافارقة بكل حماسة ونشوة … الموضة انذاك ان تكون معارضا حتى ولو كنت غبيّا في معارضتك… اثنت لجنة التحكيم والتي كانت في جلّها يسارية ايضا على قيمة المنتوج تصوّرا وتنفيذا … وجاء دور رئيس لجنة التحكيم ليعلن عن النتيجة رسميّا وعن العدد المرصود ..وقبل الاعلان ابدى رغبته في ملاحظة صغيرة على حد تعبيره… قال السيد كلود: “كريم انت واحد من الطلبة المجتهدين وكلّ اساتذتك فخورون بك وبالعمل الذي قدمته في رسالة ختم دروسك الا انّ هناك امرا حيّرني ولم استسغه منك انت بالذات كطالب له خبرة كبيرة في المونتاج .. عند عرضك لمقارنة بين الاحياء الفقيرة والاحياء الثريّة ورد خطأ منهجي في المونتاج لست ادري كيف لم تتفطّن اليه …القاعدة تقول انه في المونتاج المقارن علينا ان نختار مشاهد بنفس الحجم تصويرا بينما مشاهدك لم تكن كذلك اذ انّك اخترت مشاهد قريبة جدا في الاحياء الفقيرة ومشاهد بعيدة جدا في الاحياء الثريّة …اليس هذا خرقا لقاعدة علمية في المونتاج ؟ هل من تفسير لهذا الخطأ الفادح؟؟” …

وسكت الجميع لم ينزل على رأسهم الطير بل اسراب طيور ..كيف لعبدالكريم (الباع وذراع) في المونتاج ان يسهو على هذا الامر…؟؟؟ ابتسمت ابتسامة فيها (صدقا) شيء من المكر …وبكل هدوء اجبت: سيد كلود بقدر احترامي وتقديري وتثميني لمزاياكم العلمية علينا جميعا، بقدر استغرابي من انّكم احيانا وبشكل لا اشكّ لحظة في انّه لاشعوري تعودون لارتداء جلباب المستعمر في رؤيتكم للاشياء وتحليلكم لها …سيد كلود علّمتمونا فيما علّمتمونا ان الكاميرا هي عين المخرج وبالتالي عين البيئة التي يعيش فيها وان لا قيمة لعمل ينفصل عن واقعه وبيئته …سيد كلود .. انتم في فرنسا مسموح لكم ان تخترقوا عديد الابواب لتصوير ما تشاؤون بفضل حرية التعبير .. التصويرالتلفزي ..سيد كلود في مجتمعاتنا لم يصل لهذه المرتبة بعد …لذلك كان من السهل عليّ ان انزل بالكاميرا الى ممرات وازقة الاحياء الفقيرة لاصوّر ما اشاء .. ولكن في الضفة الاخرى لم يكن ممكنا بالنسبة لي… القصور عندنا محاطة بالكلاب الشرسة …فكيف لكاميرا ان تقتحمها …لذلك جاءت صور الاحياء الفقيرة من عمق اعماقها وجاءت صور الاحياء الراقية تكاد تكون ضبابية … نظرا إلى بعدها عن اعيننا ..ورغم ذلك ولتدارك الاختلال عدّلت الامر باستعمال مقطوعتين موسيقيتين تتزاوج كل واحدة منهما مع الفصيل الذي يناسبها” …

عجّت القاعة الكبرى بالتصفيق الحاد (مرسي الزناتي لم ينهزم يا رجّالة!)… سكت الجميع وانتظرت ردّ رئيس لجنة التحكيم السيد كلود وانا الذي وصفته بالاستعماري في ما ابداه من رأي …نظر اليّ الاستاذ الكبير وقال: “استسمحكم جميعا ايها الاساتذة في ان اقدّم اعتذاري لطالبي العزيز كريم …نحن جميعا ومهما كبرنا في ميداننا نتعلّم … وانني اعتبر ردّ طالبي كريم درسا لنا جميعا حتّى لا نخطئ في حق طلبتنا… نعم من حقهم بل من واجبهم ان يثعبّروا عن افكارهم ومنطلقهم في ذلك البيئة ولا شيء غيرها” …وخرج من مكانه واقبل عليّ قائلا: “نحن ليس من عاداتنا ان يُقبّل الرجل رجلا آخر ولكن تعلّمت منكم انتم انكم تُقبّلون بعضكم بعضا ..هل تسمح لي كريم بتقبيلك؟” …طبعا وبكل فخر وسعادة واعتزاز بك سيدي كلود ..وعجّت القاعة ثانية بالتصفيق وقُوبل مشروعي بملاحظة ممتاز جدا وبتهنئة خاصة من لجنة التحكيم …

في فرنسا تعلمت ايضا وبكل عمق ان المرأة كائن بشري كسائر الاخرين … في مجتمعاتنا العربية عموما هي للمخدع …متى اراد سي السيّد وعلى طريقة سي السيد وكيفما شاء سي السيّد … انذاك ايقنت سرّ تخلّفنا بل سرّ جهلنا لابسط قواعد الحياة معها ..نحن لا نعرف في جلنا المراة الا كأم اذا عرفناها هي ايضا… فلا الاخت لها مكانتها ولا الزوجة لها مكانتها ولا الصديقة ولا الزميلة وهذه الاخيرة يقول عنها البعض (لو كان عطاها ربّي شدّت دارها واتلهات بصغارها) … لهؤلاء اقول: (لو كان عطاكم ربّي راكم قريتو شوية وتنوّرتو وعرفتو ماذا فعلت المرأة في حياة الرسول الاكرم)…

في فرنسا ايقنت انّي كنت قبل لا اختلف كثيرا عن الحيوان في تعاملي مع المرأة .. في فرنسا …نعم في فرنسا …وانا ابن القرآن الذي تعلّم انّ آدم خلق له الله حواء لتكون سكنا له لا لتكون مخلوقة ذليلة درجة رابعة … محرومة من جل حقوقها ككائن بشري ليس فيها من البشر الا الاسم واحيانا يجرؤ البعض على تسميتها باسم الحيوان… وهذا موجود في بعض جهاتنا بتونس نعم والله موجود ..الم يقل محمد عبده ذهبت للغرب فوجدت اسلاما ولم اجد مسلمين ولمّا عدت للشرق وجدت مسلمين ولكن لم اجد اسلاما …؟؟؟

في فرنسا كذلك ايقنت اني على صواب عندما قررت ومنذ بداية وعيي بالاشياء ان لا اشرب ابدا الخمر …انا لم اذق الخمر يوما … ولكن وبباريس كنت وفي غياب الواعز الديني تماما انذاك اقوم اسبوعيا باعداد طاولة ابي نواس لكافة اصدقائي لسهرة نهاية الاسبوع… اعرف متطلبّات كل واحد منهم من مشروبات مُسكرة ومن _ (عدوها) اي ما يرافقها من مأكولات …كنت اعشق جدا تلك الاجواء وكان بداخلي رغبة جامحة لسبر اغوار السكارى لا لمعرفة اسرارهم ابدا بل لمعرفة حقيقة شخصياتهم… اذ انهم انذاك يتعرّون تماما ويصبحون في منتهى العفوية والبساطة …دون قناع ..يخرجون من كهوف الزيف الى صدق المشاعر والمواقف ..اتذكّر يوما كنّا اقمنا حفلا على شرف قدوم مجموعة من الطالبات الجزائريّات اللاّتي اتين لتدريب خاطف بالمعهد لمدة شهر ..ذلك الحفل حضرت فيه دون شك ولائم ابي نواس وانتحى كل واحد منّا مع صديقة جزائرية لم تمر على صحبتها بضعة ايام ليشكوا لبعض نوستالجيا البلدين… ولكن باسلوب عمر ابن ربيعة لا مكان للحب العذري فيه ..حيث يجد الطرفان تحقيق مآرب قد لا ترى النور ابدا في وهران او عنابة (حتى هي باريس يا سي)…

انتهى الحفل وذهب كل فارس الى فراشه بعد انتهاء الغزوة وما كدتُ امد جسدي في سريري حتى سمعتُ طرقا على الباب …نهضت وفتحت… فاذا به العربي ..”العربي” هذا طالب جزائري درجة ثانية بالمعهد تجمعني به صداقة حميمة جدا ..نظرت في وجهه فاذا به ليس العربي …وجه مكفهرّ تعلوه مسحة غضب رهيبة ..صامت … جامد كجلمود صخر …نظرت اليه وسألت: “لاباس عليك خويا العربي اشبيك ؟؟؟”… لم يُعر لسؤالي ايّة اهمية وواصل صمته ..اعدت النظر اليه وقلت: ” ادخل اشنوة ماشي تقعد واقف كي المسمار قُدّام الباب؟ ..البيت بيتك” … انذاك ارتمي في احضاني وهو المزطول خمرا وطفق في بكاء كالاطفال ..ادخلته واجلسته على سريري وقلت له خوذ راحتك ..ووقت ما تحب تحكي نسمعك …ابتعدت عنه قليلا لالمح سكّينا سقط منه بجانب السرير ..حملته بكل دهشة ..تاملته ..واشرتُ للعربي …هذا متاعك ؟؟؟ لم يجب وزاد بكاؤه …لم افهم البتة الامر …وانتظرته يُنهي مواويل البكاء …مسح عينيه ومسح انفه ونظر اليّ مليّا ثم انزل وجهه الى الارض وبكل خجل قال: “تعرف يلخو احنا الجزائريين دمّنا يفوّر فوران …اليوم شفتك وانت معنكش في بنت بلادي ما حملتش ..الله غالب احنا شعراويين وجيت توة باش ندغرك بهاكي الموس ..ما نجمتش وقت غزرت لعينيك .السكرة تعمل يا كريم …يرحم والديك سامحني راك موش صاحبي انت …انت خويا راك” …وعاد لبكائه الشديد …طبطبت على كتفه وقلت:”ولا يهمّك ياالعربي …هاكة الشراب موش انت ولا يهمّك ..انت خويا آمس واليوم وغدوة ..انا عندي اثنين منّك ؟؟” …

هذه الحادثة علّمتني ان الخمرة قد تصل بي الى مثل تلك المواقف خاصّة وانا من الذين ان هُم عشقوا يعشقون بعمق ..انا لست من الذين يسيرون على شواطئ العشق انا اعشق الغرق في بحوره …ما العشق ان لم يكن جنونا لا يعترف بالنمطية … هكذا عشت حياتي مع العشق ..عشق الفن.. عشق المصدح ..عشق السي اس اس… عشق الجمال …عشق الانسان …لذلك كنت اخاف من الخطوة الاولى في دروب الخمر ولعلّ اهمّ تجربة عشتها في حياتي اكّدت اني كنت على حق عندما لم اقم بمعاشرة ابنة العنب حفظكم الله هي تلك التي عشتها ذات يوم بامستردام بهولاندا …

اوووووووووووووووووووووووف تجربة رهيبة جدا …ولأني اخاف عليكم من الرهبة سارويها لكم في الورقة القادمة ان كُتب لي ذلك… خاتمة بليدة تقولون؟؟؟ … فرصة لكم كي تكتشفوا عيبا آخر من عيوبي ..

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 79

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الشجاعة عندي ان نواجه الخصم وجها لوجه لا ان نكيل له كلّ التّهم في ظهره ونواجهه بابتسامة خادعة، هي النفاق وهي الجبن والخزي والعار …

عبد الكريم قطاطة

لذلك لمّا انهى السيّد عبدالرزاق الكافي مكالمته مع السيّد منصف بن محمود الرئيس المدير العام لمؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية انذاك ليُشعره بقراره المتمثّل في عودتي لبيتي لاذاعة صفاقس… طلبت منه بكلّ لطف ورجاء ان كان لا يُزعجه، ان يُعلم عبر مكالمة هاتفية مديري السيّد محمد عبدالكافي بقراره، حتّى لا اعود اليه بمنطق المنتصر من خلال قرار فوقي ياتيه من اعرافه … اذ انّ في ذلك اهانة لشخصه ..وانا يعزّ عليّ ان يُهان الانسان مهما كانت نوعية الخلاف الذي بيننا …الكرامة كانت عندي وستبقى خطّا احمر ومثلما دافعت عنها عندما يتعلّق الامر بكرامتي، فمن باب المنطقي جدا ان ادافع عن غيري في هذا الباب مهما حدث …

للامانة فوجئ السيّد الوزير بموقفي … سكت لثوان ثمّ وبابتسامة رضا قال لي: (هذا موقف رجولي …وتقديرا لك سافعل) … رفع سمّاعة الهاتف وباختصار شديد وبصوت هادئ قال: (سي محمد مرحبا بيك معاك عبدالرزاق الكافي .. انا توة بحذايا توة سي عبدالكريم قطاطة حكيت انا وياه في الاشكال اللي وقع بيناتكم ويبدو انو موش كبير… واعتقد انو حان الوقت لانهاؤو ولعودة المذيع للمصدح … مازلت كيف كلمت سي المنصف وعلمتو بقرار عودة سي عبدالكريم وبطلب من هذا الاخير انا كلمتك باش تكون على علم … نطويو الصفحة اللي خذات برشة وقت ونعوّل عليك وعليه باش تخدمو في كنف التأخي بما فيه مصلحة الاعلام …ايّا في لمان)… علّق السيّد الوزير سمّاعة الهاتف ثمّ مدّ يده لي بكلّ حرارة وقال … تشرّفت بمعرفتك ونعرفك تهنّيني …اجبت: (شكرا انّك سمعتني وان شاء الله نكون في مستوى ثيقتك) …

خرجت من الوزارة بفخر واعتزاز وسعادة لا تُوصف … للامانة لم تكن سعادة مشوبة بالخيلاء والانتصار على الخصوم بقدر ما كانت سعادة العودة الى المصدح والى اصدقائي المستمعين… كنت دوما اقول لكلّ متدرب عندي في ميدان التنشيط الاذاعي …. المصدح امّا ان يكون حبّا كبيرا غامرا عارما لحدّ الغرق الجميل او لا يكون… بعضهم لم يكن في بدايته يستوعب مثل هذه الكلمات بل كان يستغرب منها … وكثير منهم من غرق في لجج حبّ المصدح لحدّ الهوس …لكن يبقى الاشكال الاكبر في توظيف هذا الهوس بشكل ايجابي ومن زاويتين … الاولى الايمان بالرسالة الكبيرة التي على المنشّط ان يعتنقها من اجل اعلام يرتقي بالذات وبالوطن وبالانسان والا اصبح المصدح والاعلام من صنف هشتكنا بشتكنا …

الزاوية الثانية الايمان وبشكل دائم انّ حبّ المصدح وتحقيق بعض النجاح ستكون عاقبته الفشل متى اصبح المنشّط يعتقد انه اصبح نجما لمجرّد ان ينهال عليه مجموعة من المستمعين بعبارات النفخ والشكر والمديح وعبارات من نوع انت مبدع وانت رائع ..وهو لم يفهم بعد انّه سلك بضع خطوات في سلّم الطريق الصعب والشائك والطويل… ولم يتفطّن انّ عملية النفخ هذه هي تماما كالنفخ في الرماد …كنت دائما اردّد: شرعيّ جدا ان يتوق ايّ منشّط للنجومية …ولكن بداية النهاية ان تصبح لدى المنشّط قناعة كاملة بأنّه نجم لا يُشقّ له غُبار منذ بداياته وهو غير قادر احيانا حتى على صياغة فقرة دون الوقوع في اخطاء لغوية ونحوية بدائية … درب التنشيط ينتهي فقط عندما ننتهي …علاقتنا بالمصدح هي علاقة التلميذ بالدراسة ومدى الحياة …لذلك كنت كثير الانزعاج بالنسبة لي ولمن ادرُسهم فنون التنشيط من كلمات الاعجاب على شاكلة (انت مبدع) …. عن ايّ ابداع تتحدثون ؟؟ هذا هو الفخّ الكبير الذي ينساق اليه العديد من المنشطين وخاصة المبتدئين منهم …

عندما غادرت مبنى الوزارة اتجهت مباشرة الى محطة اللواجات …كنت لا الوي على شيء وكان كلّ همّي ان ازفّ البشرى لعائلتي واصدقائي … بعد اربع ساعات وجدتني بمنزلي… زوجتي كانت اذاك تُقيم بالمستشفى الجامعي قسم الولادات نظرا لاشكال صحّي حتّم عليها الاقامة والعناية الدائمة بها، ووالديّ رحمهما الله كانا في استقبالي … توجّست الوالدة خوفا وهي تعلمني بأنّ سيارة الاذاعة جاءت لتسأل عنّي، وكعادتها بادرتني بالسؤال (لاباس يا وليدي ؟؟ كرهبة الاذاعة اربع مرات تجي وترجع تسأل عليك جيتشي من تونس ؟؟)… طمأنتها بالقول (وراسك لاباس يا عيادة الحمد لله عن قريب ترجع تسمعني في الاذاعة) … (ايّا الحمد لله ما تخافش في جرّتك دعاء الخير مادامنا راضيين عليك) …

وماكادت تُنهي كلامها حتى رنّ صوت منبّه السيارة … خرجت لأجد الزميل السائق …سلّمت عليه وسألت لاباس ؟؟ اجاب زميلي … لاباس سي محمد حاجتو بيك وقلّك دوب ما توصل ايجاني … تبسّمت وقلت … اوكي هيّا نمشيو …كنت قد فهمت قصد سي محمد عبدالكافي … لمّا وصلت وتطلّعت الى نظرات عينيه … سلّمت عليه وقبل ان ينبس ببنت شفة قلت له: صاحبك راجل اقسم لك بكلّ المقدّسات اني لم اقل فيك كلمة سوء … كلّ ما في الامر وبالحرف الواحد قلت للسيّد الوزير وقعنا في سوء تفاهم انا ومديري استغلّه اصحاب السوء ليُعكّروا الاجواء بيننا، وطلبت منه بعد مكالمته مع الرئيس المدير العام ان يبلغك مباشرة بقراره حفاظا على كرامتك وعزّة نفسك …

كان متجمّدا في كرسيّه ينظر اليّ بكلّ تركيز … نهض من الكرسيّ وجاءني معانقا والدمع مترقرق في مقلتيه وقال …الله يهلك اصحاب الشرّ واكاهو … ومدّ يده وقال … )هذا وعد من عند خوك من هنا فصاعدا ما ترى منّي كان الخير) … وللامانة كانت بداية عهد جديد مع الزميل والعرف سي محمد … اصبحنا صديقين جدا لدرجة انه كان يستشيرني عند ايّ تغيير او مع بداية ايّة شبكة، مما جعل البعض يعلّقون على ذلك بالقول وبشكل مازح (الشبكة ما تخرج اللي ما يشوفها عبدالكريم) … كانت فرحة للعائلة والاصدقاء والزملاء في الاذاعة وفي الصحافة المكتوبة كبيرة… وطبعا الصدقة ما تخرج كان ما يشبعو امّاليها وباعتبار انتمائي لجريدة الاعلان لعدد الثلاثاء، ظهر اوّل خبر عن عودة الكوكتيل بهذه الجريدة وبتاريخ 6 جانفي 1987:

“رسمي… كوكتيل عبدالكريم يعود يوم الاثنين القادم

في ظرف اقلّ من شهر نسجّل للاستاذ عبدالرزاق الكافي مبادرة ثانية في اعادة المياه لمجاريها وتحقيق رغبة الجماهير الواسعة… فبعد ان استجاب لطلب الزملاء الذين اتصلوا به في صفاقس لاعادة الزميل مختار بكور للنقل الرياضي (هنا لابدّ من الاشارة الى انّ الزميل الهادي السنوسي هو الذي وقع تكليفه منّا جميعا كي يكون المحاور في قضية الزميل مختار بكور وفعلا نجح في مهمته وعاد الينا بوعد من الوزير باعادة زميلنا مختار)، علمنا انّ السيّد الوزير تدخّل شخصيا في الايام الاخيرة لاعادة شيطان الميكروفون الزميل عبدالكريم قطاطة الى التنشيط الاذاعي …اذن سيعود في الايام القليلة القادمة الكوكتيل الى شبكة اذاعة صفاقس بعد غياب تواصل حوالي السنة وثمانية اشهر، ليزيد في تدعيم البرامج المباشرة … وقد اتصلنا بالسيّد محمد عبدالكافي مدير اذاعة صفاقس الذي افادنا انّ سيادة الوزير قد قرّر اعادة الزميل عبد الكريم الى حظيرة العمل الاذاعي بداية من 2 جانفي، وعلمنا انّ توقيت البرنامج قد تغيّر ليصبح يوميّا من الاثنين الى الخميس من الثانية والنصف بعد الظهر الى الرابعة وذلك لضغوط الشبكة الحالية”

قد يتبادر لذهن البعض مجموعة من التساؤلات حول توقيت البرنامج ومدّته ويوم عودته الذي تأخّر إلى 12 جانفي عوضا عن 2 جانفي …اوّلا وبكلّ موضوعية عندما قرر الوزير اعادتي لاذاعة صفاقس كانت الشبكة جاهزة تقريبا .. لذلك عندما تحاورت مع السيّد محمد عبدالكافي عبّر لي عن انشغاله لعدم وجود مساحة كافية للكوكتيل واستحالة عودته في مكانه المعتاد (العاشرة صباحا)… وطلب رايي في الامر وبكل صدق ونزاهة عبّرت له عن يقيني بأنّه ليس التوقيت ما يخلق نجاح ايّ برنامج بل المحتوى وسترون اني في ما بعد عملت بكل المساحات توقيتا … الاصيل ما بين الثانية والنصف الى الرابعة … المساء من الرابعة الى السادسة … الليل من التاسعة الى منتصف الليل… وصولا الى فجر حتى مطلع الفجر من منتصف الليل الى الخامسة صباحا ….

وللامانة ايضا كان ذلك نوعا من التحدّي من جانبي للذين يقولون (طبيعي انو عبدالكريم نجح في الكوكتيل لانو واخذ احسن توقيت من العاشرة الى منتصف النهار … متجاهلين اني عندما اخذت على عاتقي الكوكتيل في ذلك التوقيت كانت تلك الفترة اذاعيا فترة ميّتة وليس بها سوى برامج اهداءات … لذلك قبلت التحدّي واضفت متحدثا الى الزميل محمد عبدالكافي… ما رايك بما انّ توقيت البرنامج يأتي في الاصيل ان نبدّل اسمه إلى “كوكتال الاصيل” ؟… وللامانة مرة اخرى كان تفكيري ليس مأتاه التوقيت فقط بل صفة الاصالة تعنيني ايضا …لست ادري هل فهم سي محمد الامر كما فهمته ولكنّه وافق دون نقاش….امّا تاجيله ليوم 12 فذلك كان حرصا منّي على استنباط محاور جديدة للكوكتيل بعد ان وقعت سرقة جلّ اركانه القديمة إلى برامج اخرى… وهذا ايمان منّي ايضا بأنّ المنتج والمنشّط غير القادر على الابتكار والخلق مآله الموت الاذاعي السريري …

وجاء يوم 12 وقسمت الكوكتيل الى محورين… نصف الساعة الاولى يحتوي على المقدمة الشخصية اي (الموقف) باعتباري كنت ومازلت اؤمن بالاعلامي صاحب المواقف لكن دون غرور وبكل تواضع… ولا قيمة عندي لذلك الاعلامي عموما الذي يكون (صباب الماء على اليدين او القفاف والانتهازي والذي تشتريه بكسكروت) وهذا وقع …. نعم هنالك من وقع شراؤه بشاطر ومشطور وبينهما كامخ (وهو اسم الكسكروت باللغة العربية القحّة… ما ارزنو وقداش فيه تجوعيب على لغتنا الجميلة) …امّا النصف الثاني للكوكتيل وبمعدّل ساعة فادرجت فيه ركنا جديدا تحت عنوان بكلّ احراج …وفيه اقوم بدعوة ضيف لاطرح عليه بعض الاسئلة الخالية من المجاملة ولكن بكل لياقة وبعيدا عن الاساليب الوقحة التي انتشرت بشكل مقذع بعد 14 جانفي (وقيّد على حريّة التعبير والتي هي في الحقيقة حريّة التبعير)…

وللعدد الاوّل اخترت ضيفا من الوزن الثقيل… ومن يكون غير ساحر الاجيال حمادي العقربي …دعوني احك لكم عن علاقتي بحمادي … انا اعرفه منذ كان يكوّر في البطاحي …حمّادي من ميزاته انّك وانت تشاهده في ايّة تكويرة يستحيل ان تتكهّن بايّة حركة كروية سيقوم بها …ومن عيوبه انّه لا يُجيد الكلام الا برجليه …اتذكّر جيّدا انّي وفي اوّل لقاء طويل معه وانا اقترح عليه لقاء صحفيا مطوّلا بجريدة الايام، وجدته معجبا بي وببرامجي… فاجأني بذلك وفاجأني اكثر عندما قال انه لم يسبق له ان ادلى بحوار مطوّل لايّة جريدة وانّ العديد من الحوارات التي صدرت ببعض العناوين الصحفية كانت وهمية … وبكلّ صدق كان يومها يفضّل ان لا يكون الحوار … لكن لم استسلم واقنعته بأنّه من حقّ الناس عليه ان يعرفوا العديد من التفاصيل واكّدت له انّني لن اقدّم الحوار للنشر الاّ بعد ان يطّلع عليه كاملا …الاّ انّ اجابته اخجلتني واسعدتني … قال حمادي … نعرفك معلّم وعندي ثيقة فيك … وكان الحوار صفحة كاملة في جريدة الايام …

عندما دعوته ليكون ضيفي الاوّل في كوكتيل الاصيل …كان سعيدا بعودة الكوكتيل وكان مراوغا كعادته وبابتسامته الخجولة المعهودة قال … تي اشنوة يا سي عبدالكريم موش لو كان نخليوها مرة اخرى خير؟ …قلت له لا يا حمادي، الحلقة الاولى نحبّها مع معلّم … ومرة اخرى يرواغ ويقول … يخخي انت موش معلّم ؟؟….ودون تطويل مشاور قلتلو يا حمّادي قُضي الامر انت ضيفي في الحلقة الاولى … وبكلّ حبّ وحياء يُجيب حمادي … وانا عندي حكم معاك؟ …. وكان ذلك …وكان يوم 12 جانفي وكان يوم 13 جانفي ايضا …حاصيلو كيف تمشي تقطّع السلاسل وكيف تجي تجيبها سبيبة …اقداااااااااااااااااااار

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 78

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الثلاثية الاخيرة لسنة 86 شهدت مجموعة من الاحداث الهامة … لنبدأ بسبتمبرها حيث انتقلت مجموعة “الايام” الصحفية بجلّ عناصرها وبعد الاستقالة من الجريدة الى خانة صحفية اخرى .. جريدة الاعلان …

عبد الكريم قطاطة

هذه الجريدة كانت، اسما على مُسمّى، عنوانا صحفيا جلّ صفحاته اعلانات … كانت تصدر يوم الجمعة وبرئاسة تحرير للمتميّز جدا الزميل جمال الدين الكرماوي، ربي يشفيه*… جمال هو فنان بكل موازين الكلمة فهو لاعب ممتاز في كرة القدم لعب بالملعب التونسي … وهو عازف غيتار وهو ايضا قلم فينو ومن افضل من عرفت الساحة الصحفية فيانة ونقشا… اشتهر في جريدة الاعلان بمقاله الاسبوعي الو الاعلان …مقال كان ينتظره عشاق الكلمة الرشيقة والاسلوب السمح …

السيّد نجيب عزوز مدير الجريدة اغتنم فرصة انسحاب فيلق الايام من الايام ليضرب عصفورين بحجر واحد… العصفور الاول تمثّل في استغلال تألّق مجموعة الاقلام في تجربتها مع الايام وانتدابها … والعصفور الثاني توسيع دائرة انتشار جريدة الاعلان لتصبح جريدة نصف اسبوعية وذلك بالصدور مرتين في الاسبوع … يوم الجمعة لفريق جمال الكرماوي و يوم الثلاثاء لفريق نجيب الخويلدي … كان ذكيّا جدّا في ادراكه لما قد تخلقه روح المنافسة بين الفريقين واستغلالها ايجابيا … وفعلا نجح في الرهان رغم كلّ عوائق ومشاكل الغرور التي عاشها الفريقان …وفعلا انطلقت التجربة الثانية لاسرة الايام داخل اروقة الاعلان في 30 سبتمبر 1986…

شهر ديسمبر من نفس السنة شهد حدثين اوّلهما عيد ميلاد اذاعة صفاقس (8 ديسمبر) والذي كان بالنسبة للمستمع المتعلّق بالكوكتيل مناسبة اخرى لاحياء مأتم … هاكم ما كتب عبداللطيف الحداد مرة اخرى بجريدة النهار يوم 3 ديسمبر 86 حول الحدث وتحت عنوان “خطاب عاجل الى مدير اذاعة صفاقس .. عيدا سعيدا في غيابنا”:

(سيّدي .. تحتفلون بعيد ميلاد اذاعة صفاقس الـ 25 وكلّكم فرح وترح واشياء اخرى وذلك من حقّكم طبعا ..اعرف انّ ربع قرن من الحياة والجهد والدأب له وزنه وثقله المُعتبر ولونه الخاص جدا .. اعرف وثانية انّها فرصتكم كاملة لتقولوا هكذا فليذهب المتنطعون الى الجحيم … انّنا نفهمهم وبكلّ تاكيد ونحتفظ ـ مازلنا ـ بأدقّ تفاصيل ذبحة ذلك المطرود منذ عشرين شهرا عبدالكريم قطاطة … انّها 8 ديسمبر اخرى لن يكون فيها فتى اذاعة صفاقس الاوّل هناك ..وانّه امر يُثير فينا كثيرا من الحزن والبكاء … اتُصدّق سيّدي انّ كلّ التقارير التي تصلك عنّا كاذبة ..؟ فنحن لم نعد نُننصت اليكم منذ ماي 85 والسبب بسيط جدا جدا ..وهو انّ اذاعتكم امست بدون الكوكتيل كأيّة قلعة خاوية … ونحن اصدقاؤه ما كنّا عصابة مافيا ولا جماعة كوكايين .. بل انّنا لم نقتل قطّة ولم نحرق قمحة ولم نطالب برأس احد .. فقط نادينا ومازلنا باعادة الكوكتيل وصاحبه الى ساحة الاذاعة…

ونحن ثالثة يا حضرة المدير مازلنا على عهدنا مع صاحب الكوكتيل حبّا وارادة واملا الى ان ينام القمر .. هكذا ذاكرة الناس الطيبين في هذا الوطن العزيز وهذا الجنوب الطيّب لا تنقطع بتلك السهولة المزعومة وتعوّدت ان تخبّئ الحب لمن حفر ويحفر فيها بالمثل فهل تُجبر الكسر وتضع امرا ؟؟… لقد كان لك ومازال كلّ الوقت لتطرح وتجمع وتضرب وتقسم وتكسر وترتّب الاوراق وتُمعن في تجميد تلك الامبراطورية الهائلة في التنشيط، وبث الفرح في البيوت الحزينة والمدن الباردة ولكن عبدالكريم قطاطة عائد الينا غبّا وكفّه مضرّجة بالحبّ والفرح لجما ودما … ذلك حدسنا ورهاننا … لاننا تعلمنا معا انّه حيث البكاء والبكاء والبكاء نتقمّص الكلمة ونحفر المدى حتّى ينبجس الحلم غدا وتمطر السماء .. وحتى يأتي ذلك اليوم الاكيد فهو سيظلّ منّا في العمق وفي تجاويف الذاكرة امّا انتم يا سيّدي فطاب عيدكم في غيابنا… عبداللطيف حداد ـ قصر الحدادة غمراسن)

هنا لابدّ لي من توضيح امر هام … نشري لمثل هذه المقالات يأتي فقط من زاوية التوثيق ولم ولن يكون قصدي التفاخر بما كّتب حولي والله على ما اقول شهيد… ثم هو حرص منّي ايضا على العرفان بالجميل للمستمع وهو يُدلي بشهادته في كلّ ما حدث وذلك اراه واجبا تجاه هذا المستمع وتجاه ما دوّنه من اوجاع وجراح …شهر ديسمبر ايضا شهد سابقة اعلامية هامة … اثر مباراة في كرة القدم بين النادي الصفاقسي وضيفه الترجّي والتي تمّ فيها طرد اللاعب منصف الطرابلسي ثم شطبه مدى الحياة وقع ما وقع … ومن ضمن تلك الوقائع ايقاف الزميل مختار بكّور عن التعليق الرياضي للاذاعة الوطنية … نعم … اذ ارتأت في تعليقه انحيازا للنادي الصفاقسي … وهو امر يصل الى درجة الكفر والردّة في نظر المسؤولين الكبار والذي مازال مثل هذا التصرّف العمودي لحدّ الان يتمرّغ على مسامّ جلودنا رغم انّ 99 في ال 100 من الاعلام العاصمي ولحدّ الان هو مكشّخ وبامتياز …اعني وبنذالة …مع احترامي للاقلّية النزيهة والشريفة … لا علينا سآتي حتما يوما ما وفي الورقات القادمة لهذا الملّف … اذن وقع ايقاف الزميل مختار بكور عن النقل الاذاعي الرياضي رغم انه من اكثر المتعاونين هدوءا ورزانة في اذاعة صفاقس …

امام هذا الوضع ارتأيت ان اغتنم فرصة زيارة وزير الاعلام انذاك السيد عبد الرزاق الكافي لاذاعة صفاقس التي ستحتفل بعيد ميلادها الخامس والعشرين، كي انظّم مباراة في كرة القدم بين اعلاميي الجهة وزملائهم من العاصمة… والحرص بعدها على اللقاء بالوزير ومطالبته فضلا لا امرا بارجاع الزميل مختار بكور لسالف نشاطه… تحادثت في الامر مع السيد عبدالعزيز بن عبدالله رئيس النادي الصفاقسي انذاك وعبّر لي عن مساندته المطلقة ماديا وادبيا لحدّ التكفّل بمصاريف اقامة ضيوفنا الزملاء من تونس… وكان الامر كذلك… مباراة ودية بالملعب الفرعي للطيب المهيري… سهرة رائقة شائقة بكلّ المفاهيم …لحدّ الثمالة وبكلّ المفاهيم لاحفاد ابي نواس… ثمّ لقاء مع الوزير واستجابة لرجاء الجميع واعادة مختار بكور الى سالف نشاطه…

اعود بكم الان الى خاتمة الورقة 77 والتي همس لي انذاك وزير الاعلام وهو يسلّمني الكأس … (انت هو سي فلان ؟؟ طلّ عليّ في مكتبي بالوزارة يوم الاثنين المقبل) … عندما ختم كلامه نظرت مليّا في عينيه بعد ان قلت له: حاضر … فقرأت فيهما وداعة ولطفا … ثمّ كان لزاما عليّ ان البّي الدعوة مهما كان الامر …بوزيد مكسي بوزيد عريان …ما الذي سيحصل اكثر ممّا حصل ؟؟… ربّما هي (صحّة راس) … غرور … تنطّع … _ قولوا ما شئتم …فأنا كنت ومازلت هكذا …ثوابتي لن يمسّها احد وقناعاتي ومهما خلقت لي من مشاكل وخصوما لن اتزحزح عنها …والروح ما يهزّها كان اللي خلقها …

يوم الاثنين كنت بمكتب الوزير … استقبلني ببشاشة وابتسامة عرفت مغزاها خاصة بعد انا قال: (مرحبا بيك سي عبدالكريم …تي العريضة متاع 20 الف امضاء امضاء اطول منّك) … ابتسمت بدوري ولم اردّ عليه …ولج للحوار بشكل فوري وسألني: (اشنوة اللي بينك وبين سي محمد عبدالكافي؟؟)… لم اتردّد لحظة واحدة في القول: (سي محمد عبدالكافي عرفي امس واليوم وغدا، والذي وقع سوء تفاهم بيننا استغله اصحاب النفوس المريضة) .. لم يكن موقفي مبنيا على الخوف او هزان القفة لعرفي، ولكن كنت مدركا اوّلا بل متيقّنا بمعرفة والمام الوزير بتفاصيل ما حدث… وثانيا ما كنت ولن اكون من تلك الشريحة التي تغتنم مثل هذه الفرص لتطعن في الظهر الخصوم … لو كان السيد محمد عبد الكافي رحمه الله حاضرا لقلت كلّ ما لديّ في صدري …. امّا اغتنام فرصة غي والتشهير به فذلك الجبن والنذالة بعينها…

نظر اليّ مرّة اخرى السيد عبدالرزاق الكافي بنفس الابتسامة الوديعة … وحمل سمّاعة الهاتف وطفق في تركيب رقم … وماهي الا لحظات حتى سمعته يقول: (عالسلامة سي المنصف بحذايا سي عبدالكريم قطاطة وحكيت معاه ونحبو يرجع لبرنامجو في اقرب فرصة) … فهمت انّ “سي المنصف” هو السيد منصف بن محمود رئيس الاذاعة والتلفزة انذاك … نظر اليّ السيّد الوزير وقال: (انتهى الاشكال سي عبدالكريم؟)… اجبته: (شكرا سيّدي الوزير على الثقة، ولكن لي رجاء لو تسمح) .. (تفضّل سي عبدالكريم) …وانتم لو تسمحون انتظروا معي الرجاء في الورقة القادمة … يخخي موش يقولوا ذوّق وشوّق ..؟؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كتب المقال قبل وفاة الزميل الكرماوي رحمه الله

أكمل القراءة

جور نار

ماذا ينتظر التونسيون خلال العهدة الجديدة من رئاسة قيس سعيد؟ (2)

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ذكرنا في الحلقة الماضية بجريدة جلنار الجزء الأول من انتظارات الشعب خلال طرح تحليلي مختصر يشير خاصة إلى أن الانتخابات الرئاسية التي تمت يوم 6 اكتوبر تعد اول انتخابات نزيهة وشفافة لم تشبها عمليات تدليس مثلما وقع في مرحلة بورقيبة، او تهافتا ومباريات بين الولاة للترفيع في نسب التصويت زمن بن على…

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

كما كانت هذه الانتخابات نقية من المال الفاسد والتدخلات الداعمة الخارجية (القطرية و التركية) عبر الجمعيات الاخوانية المشبوهة التي توزع حقق الطماطم وارطال المكرونة و الأوراق النقدية لاستغلال أصوات البؤساء وضعاف الارادة من المواطنين، وكذلك تكفير من لا يصوت للنهضة من خلال المساجد وابواقها والتهديد بالسحل وغير ذلك من صفحة تلك الفترة الظلامية المظلمة…

الانتخابات التي شهدتها تونس هذه المرة أعطت الصورة الحقيقية لما يستوجب ان تكون عليه الانتخابات بالعالم الثالث والبلدان العربية جمعاء… كما عبر خلالها الشعب التونسي على رغبته الجامحة والحاسمة لكنس منظومة فاشلة وخطيرة لوثت وطنا جميلا… عبّر الشعب عن ثقته بقيس سعيد متمنيا و معتقدا انه الكفيل بتحسين أوضاع البلاد التي دمرتها عشرية ما بعد 2011.

لقد تناولنا باختصار عددا من انتظارات وتطلعات الشعب خلال السنوات القادمة وذكرنا اهم القطاعات ذات الاولوية مثل الفلاحة و الصحة و التعليم وعلى المستوى الاجتماعي تطرقنا إلى التشغيل و القدرة الشرائية للأسر التونسية والغلاء الفاحش للأسعار كما عرجنا على قطاع الخدمات و عصرنة الإدارة التونسية وفرض قدسية العمل وتنقية القطاعات من كل مخلفات الارتخاء والفساد (انظر عدد جلنار ليوم 8 أكتوبر 2024)…

في هذا الجزء الثاني نبدأ بضرورة تأهيل العمل الدبلوماسي والقنصلي بالخارج و الرفع من الدور المناط بمهامه الكلاسيكية وحسن اختيار التمثيليات حسب الأهداف السياسية والامنية وخاصة الاقتصادية، ودعوة القناصل إلى تحسين العناية بمواطنينا بالخارج ونبذ روح الارتخاء و عقلية اللامبالاة التي تطغى من حين لآخر.. كما على السفراء تأكيد لهتمامهم خارج الوطن بالمعطيات الأمنية نعم ولكن الاقتصادية أيضا، عن طريق رسم منهجية لجلب الاستثمارات لتونس و متابعة التطورات التي من شانها دعم تصديرنا وتنمية مدخراتنا من العملة الصعبة… كذلك حث مواطنينا بالخارج على المشاركة في عمليات ومشاريع التنمية.

بخصوص المتطلبات الأمنية.يبدو أنه من البديهي دعم مؤسسة الأمن ومواكبة كل التحولات الفنية وتحديث التجهيزات ومزيد ضمان اكثر رفاهة لاطارات واعوان الأمن، و تعزيز الاجراءات التشريعية لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة…

قطاع الثقافة يعد من القطاعات المظلومة منذ حكم بن علي وسعت منظومة ما بعد الثورة إلى كنس حضور الفعل الثقافي و تقزيم الإبداع والمبدعين… ويكفي الإشارة إلى هرسلة المسرحيين و الاعتداءات على الأساتذة والقناة الوطنية… ولحدود السنوات الأخيرة فإن ميزانية وزارة الشؤون الثقافية (أقل من 1 بالمائة من ميزانية الدولة) تبعث على الاستغراب … فلا إمكانيات لدعم الإنتاج الثقافي من مسرح او سينما او فنون أخرى لتبقى القنوات تلوك مسلسلات السبعينات و الثمانينات…

كذلك هناك احساس تبعا لما ذكرنا بكبح الإبداع والإنتاج الأدبي… وكل ما تفعله وزارة الثقافة اليوم لا يتجاوز “التكرّم” بإقتناء بعض الكتب يخصم جزء من ثمنها لفائدة الضرائب … أين دعم الروايات؟ والسيناريوهات؟ والإنتاج السينمائي؟ وكيف يتم اسناد الدعم على أيدي اللجان او القبول من قبل القناة الوطنية؟؟ كلها اسئلة و مسائل تنتظر مزيدا من التنظيم او الدعم او المراجعة او عدالة الاختيار.

لعل قطاع الطاقة يحتل مكانة أثيرة في أولويات تونس ويفرض تدخلا عاجلا ضمن مخطط واضح المعالم… إذ نحن نستمر في تجاهل الطاقة الشمسية التي حبى بها الله بلادنا والتي يمكن أن تكون أكبر رافد للتشغيل و تصدير الطاقة عوض الترفيع المستمر في اسعار استهلاك الكهرباء و استيراد التجهيزات او المنصات…

كذلك وإثر تحرر قطاع الفوسفات من عبث و تجميد عانى منهما طيلة اكثر من عشر سنوات، يتطلب اليوم هذا المجال مزيدا من الرفع في طاقة إنتاجه و اقتناص مزيد من الأسواق العالمية وتنويعها ..

نمر إلى قطاع السياحة الذي بقي لسنوات طويلة يعزف على وتر واحد، موسيقي كلاسيكية وجب تجاوزها… ذلك أنه اصبح اليوم من الضروري المرور إلى تنويع الوجهات والمواد السياحية. لتشمل الشمال الغربي ومزيد دعم السياحة الثقافية، كالآثار التاريخية المتعددة بجهات جندوبة و القصرين، وقفصة (الحضارة القفصية) ويعين بريمبة بقرية المنصورة قبلي و كذلك توريس… كلها في مجملها وخصوصياتها تمثل ركائز لتنويع المنتج السياحي.

وفي حقيقة الأمر لا يمكننا تناول كل الملفات الوطنية الهامة التي تتطلب الدعم خلال السنوات القادمة مثل القطاع الصناعي والبيئة والعدالة الجبائية والخدمات البلدية ومراقبة انجاز المشاريع المعطلة اصلا منذ العشرية، وكذلك أهمية دعم قطاع العدلية لتسريع التقاضي وتحسين ظروف عمل الفاعلين في المرفق القضائي.

لن انهي هذا الطرح دون أن أشير إلى ضرورة ترسيخ اكثر ما يمكن من مكتسبات الثورة عبر ضمان ديمقراطية حقيقية لكل التونسيين دون استثناء، بالتوازي مع التزام الجميع بمصلحة الوطن ووضوح الرؤيا السياسية ومزيد دعم الحريات الفردية و العامة وحرية الرأي و الصحافة دون أي احتراز ..

الوطن للجميع لكن جميعنا مطالب أيضا بوضع أولوياتها و مصالح شعبها قبل كل الأولويات الأخرى فردية او حزبية، فتونس تستحق دوما الأحسن.

أكمل القراءة

صن نار