كيف لي ان انهي ورقاتي مع فرنسا دون ان اذكر محطات اخرى هامة في ما عشته هناك …لعلّ ابرز بصمة فيها الفخر بكوني تونسيا …
في جانفي 1978 عاشت تونس ثاني اكبر هزة في تاريخها مع بورقيبة… اولاها كانت فشل النظام التعاضدي في نهاية الستينات مع مهندسها احمد بن صالح… وثانيها احداث 26 جانفي 78 … لا ادّعي انّي مؤرخ مالك للحقيقة الكاملة حتى اجزم بموقف موضوعي في ما حدث، ولكن كانت ومازالت لديّ قناعة ان كلّ احداث العهد البورقيبي كان مأتاها سببان… اوّلهما تفرّد الزعيم بورقيبة بالرأي وثانيهما ما يجري انذاك في الكواليس السياسية داخل القصر وخارجه من اطماع انتهازية انتهت الى انقلاب السابع من نوفمبر … كانت الاطراف الفاعلة في كل ما حدث لتونس في عهد بورقيبة تعيش تطاحنا وتكالبا على: إما التقرّب لبورقيبة اي للمناصب ..او الطّمع في خلافته في آخر مراحل حكمه … وهذا الامر لم يختلف اطلاقا بعد 14 جانفي… التكالب على الحكم… ولهذه النقطة عودة بالتفاصيل في ورقات متقدمة …
في احداث جانفي 78 كنت موجودا في تونس وبالتحديد في صفاقس … لن ادّعي البطولة حتى ازعم انّي جئت خصّيصا لمواكبتها والمشاركة فيها ..بل كنت في اجازة قصيرة فكُتب لي ان اعيشها …ولكم ان تتصوروا مواطنا تونسيا يعيش في بلد الديموقراطية (فرنسا) بكل مفاصلها من حرية اعلام وحرية تظاهر والوان لا تُحصى من الاطباق الايديولوجية .. ويجد نفسه في واحد من اهم احداث تونس البورقيبية … انتفاضة 26 جانفي 78 …كانت صور ماي 68 بفرنسا تتخايل امامي وانا وسط الحشود امام مقر الاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس …وكانت صور محمد علي الحامي وفرحات حشاد واحمد التليلي والحبيب عاشور تتمايل في زهو وخيلاء امام ناظريّ … وكانت ميولاتي اليسارية انذاك تُحيلني حتما لاكون الى جانب العمال والشغالين في تلك الاحداث …وذلك ما دفعني يومها لشراء بعض الدجاج المصلي لاقدّمه غداء للزملاء في اذاعة صفاقس والذين اشتغلوا يومها بالاذاعة الداخلية للاتحاد، كمساهمة منّي في حركتهم الاعلامية …
ذاك ما فعلته فقط … اقول هذا حتى لا ادّعي مرّة اخرى البطولة كما فعل العديد من زملائي في اذاعة صفاقس ليصبحوا كذبا ابطالا بعد مرور سنوات …والحال ان الابطال الحقيقيين كانوا لا يتجاوزون عدد الاصابع الواحدة وفي مقدمتهم عبدالمجيد شعبان ومختار اللواتي … اذن يومها شعرت بفخر غامر بأنني تونسي ..لم اغرق في تفاصيل ما حدث ومَن وراء ما حدث وكل الصراعات التي ولّدت تلك الاحداث ولكنّ مصدر نشوتي تلك الهبّة الشعبية الرافضة لما يحدث في تونس …هل كانت مصيبة في هبّتها ..؟؟؟ هل كانت واعية بما يحدث وراء الكواليس من صراعات ..؟؟؟ صدقا لا اظنّ … المهم انّي كنت ارى في تلك الهبّة لوحة مما يحدث في فرنسا بلد التظاهرات والمظاهرات اليوميّة …
عندما عدت الى فرنسا زاد فخري واعتزازي بكوني تونسيا لأنّ الاخرين (فرنسيين وعربا وافارقة) كانوا ينظرون اليّ بعين التقدير والاحترام …تونس تثور على واقعها …هكذا هم يُقدّرون الشعوب التي لا تستكين لاوضاعها …وانا هنا اتحدّث عن الراي الشعبي العام لا عن مواقف الحكّام …اذ انّه متى كانت مواقف الحكّام في كلّ دول العالم متطابقة مع مواقف شعوبها؟؟؟… الامم في جلّ تاريخها منقسمة الى اربعة ألوية ..لواء الحكّام وهم في معظمهم طغاة ولصوص ..لواء الازلام وهم القطيع الذي لا يعرف في السياسة (كوعو من بوعو)، هم من فئة عاش الملك مات الملك…لواء الشياطين الذين هم الحكام الفعليون حيث يصبح حكام القصور مجرّد بيادق لتنفيذ الاجندات التي تتوافق ومصلحتهم… وهؤلاء من الفئة الميكيافللية تلك التي لا تهمّها اساليب وادوار مشبوهة حتى ولو وصلت الى اهدافها على طريق معبّدة بالجماجم …
اللواء الاخير الفئة التعيسة وهي الاقلية الواعية بهموم الشعب والتي آلت على نفسها ان تبقى دوما الشوكة في حلوق اللصوص …. قلت تعيسة لسببين اولهما الجانب الكمّي لأنها عادة ما تكون فئة ضئيلة عددا وثانيهما انّها لم تتجدّد في خطابها وفي اساليب عملها ومن لا يتجدّد يتبدّد … ولهذا السبب الاخير وعبر التاريخ ايضا لم ينجح هذا اللواء الاخير في حركات التغيير الا متى خرج عن منظومة المعارضة السائدة و قامت بتقديم بديل مقنع جماهيريا ..شكلا ومحتوى … ما تبقّى جعجعة فيها كلامولوجيا لا غير ..وهذا حال اغلب المعارضين في الوطن العربي …
اثر عودتي إلى فرنسا بعد احداث جانفي 78 ..كان الجميع من زملاء في الدراسة واساتذة ينظرون اليّ كتونسي وكما اسلفت نظرة غمرتني فخرا وسعادة .. ومازال للسعادة عناوين اخرى… سنة 78 لم تكن مقتصرة على جانفيها كيف لي ان انسى جوانها …؟؟؟ شهر جوان 78 هو ايضا كان بالنسبة لي ولكل التونسيين شهر السعادة حتى الثُّمالة …كيف لا واليوم الثاني منه تعزف تونس اوّل سمفونية ابداع عربي افريقي ..الملعب هو روزاريو والمناسبة مشاركة تونس في كأس العالم المُقامة بالارجنتين ..والمنافس منتخب نجم مدريد آنذاك، “هوغو سانشيز” المكسيكي …التونسيون قبل ذلك اليوم كانوا مزهوين بالانتصار العريض الذي حققه الفريق الوطني على حساب شقيقه المصري في مباراة العودة بملعب المنزة بتونس باربعة اهداف مقابل هدف والتي رشحته ليكون الممثل الوحيد لافريقيا بكأس العالم بالارجنتين … هذه الكأس التي لم يحقق فيها فريق عربي او افريقي اي انتصار …
كانت تطلعاتنا انذاك وبكلّ امانة ان نمثّل تونس والعرب والافارقة تمثيلا مشّرفا …على الاقلّ ان لا نتكبّد خسائر مُذلة كتلك التي تكبدتها بعض البلدان الافريقية الاخرى والتي سبقت تونس في تمثيل القارة الافريقية …يومها خرج جل التونسيين واشقاؤنا العرب واصدقاؤنا الافارقة الى الساحات العامة في باريس … لمشاهدة المباراة على الشاشات العملاقة …وازداد توتّرنا والفريق المكسيكي يضرب شباكنا …الهدف المكسيكي بالنسبة لنا نحن التونسيين كان شبيها بطعنة خنجر حاد …صمت رهيب ممزوج بخجل اكثر رهبة .. وملوّن بخوف باطني من (طبيخة) …. هكذا كان احساسنا …. يومها وعلى غير عادتي لزمت مكاني … لم ابرحه …اذ انّه من عاداتي كمتفرج على الفريق الوطني او على فريق السي اس اس ان اغادر الملعب او حتى التليفزيون عندما يكون فريقي منهزما ..وهذا يحدث معي لحد هذا اليوم ..اغادر اما الملعب او البيت وابقى سائحا مهموما في الشوارع والانهج المجاورة المزدحمة بالمقاهي… وكلّما سمعت صيحة اهرع بسرعة لمعرفة الجديد ..واحيانا اكلّف ابني الاكثر تعقّلا منّي حتى يهاتفني بأيّ تغيير في النتيجة …هل اكتشفتم مدى ضعفي في تحمّل ما لا استطيع تحمّله …الم اقل لكم منذ بداية كتابة ورقاتي هذه انّ عيوبي لا تُحصى ولا تُعدّ ….
دعوني اصارحكم بحقيقة اخرى …انا لحدّ يوم الناس هذا لم احضر ايّة مباراة لفريقي الابيض والاسود مع الترجّي …من عيوبي ايضا انّي اتقبّل الهزائم مع كل الفرق الاخرى واعتبرها طبيعية لاّن الفريق الذي لم يُهزم لم يُخلق ولن يُخلق بعد … الا اني مع الترجّي بالذات لا اقبل الهزيمة فكيف لي ان اكون شاهدا عليها … (صحّيتك يا سي الطلطول تدخل للستاد تتفرّج على السي اس اس والمكشّخة وتربحك المكشّخة بكل روح رياضية اللي يقولو عليها …,لا راجل وسيد الرجال انت!) … _ نعم مع المعذرة لأصدقائي من احبّاء المكشّخة …لا اطيق الخسارة امامكم …
اعود لذلك الـ 2 جوان 1978 بباريس وجموع غفيرة نتابع معا اوّل مباراة لتونس امام المكسيك ..كنت احس قبل الشوط الثاني وتونس منهزمة هدفا لصفر بأن اعين اصدقائي من الافارقة خاصة ترمقني ..وكان يُخيّل اليّ بانّها تتتغامز عليّ وكأنّ لسان حالها يقول (شنوّة سي كريم …فخفخت علينا برشة راك بالعقربي وعقيد وطارق وغمّيض وعتّوقة … تي وينو عتوقة متاعك ؟؟..اصلا موش موجود في التشكيلة) … صدقا لم اكن قادرا بعد ان سجّلت المكسيك هدفها الاول والوحيد ان انظر في اعين الاخرين بينما كنّا نحن التونسيين نتبادل نظرات فارغة… ما اشقى الواحد منّا وهو ينظر دون ان يرى ..و ما ابشع ان نرى دون ان ننظر … وانطلق الشوط الثاني …كنت احس بأن شيئا ما سيحدث ..تسمّرت بشراسة على الكرسي كمن يحاول من يثبّت رجله على الارض .. وهذه حركة يعرفها من لعب كرة القدم ..هو لا شعوريا يقوم بحركات عبر رجليه ..كم يريد اصلاح تصويبة ما او اعطاء الكرة للاعب في موقع افضل ودون حتى شعور منه يصيح (اوكة الكعبي اعطيه ..اعطيه) ..ويعطيه ويسجّل الكعبي …
يااااااااااااااااااااااه ..كيف لي ان افسّر لكم ماحدث لي ولكل التونسيين انذاك والكعبي يسجّل هدف التعادل ….دعوني ابحث عن صورة مقاربة لما عشناه ..عندما نغوص في البحر لمدّة ما حتى انتهاء الاوكسجين بداخلنا نًسرع في الخروج من عمق اليمّ الى سطح الماء ..هنالك لحظة فارقة وهامة جدا لا يتجاوز عمرها عًشر الثانية ..لحظة خروج الرأس من تحت الماء ….هو من جهة يضرب الماء حتى يتجاوزه ومن جهة ثانية لحظة التزاوج مجددا مع الاوكسيجين … هي الشهقة الجميلة بالعودة الى الحياة …هي تحدّي الموت والانتصار عليه ..هي لحظة الصراخ دون صوت بأن الواحد منّا مازال حيّا …الغطس تحت الماء عندي هو بمثابة تحدّي الموت… انا تحتك ايّها الماء ميّت ولكن اتحداك وساعود حيّا ..اقول هذا فقط من زاوية تقريب الصورة الى الاذهان …اذ انّي اجبن الناس في علاقتي بالبحر ..احبّ البحر بشكل خرافي ولكنّي اخافه جدّا ..في داخلي قناعة بأنه هو ايضا يحبّني جدا وابدا ان يتركني ابارحه لو جازفت يوما ودخلت الى يمّه …نعم في داخلي قناعة متجذّرة فيّ كأني به حينما ارمقه بعشق كبير يبادلني ذلك العشق ..والقناعة تتعمّق اكثر الى مستوى التخاطب ..اخاطبه بعشقي للجمال وهل هنالك امتع من جمال البحر بموجه صاخبا كان ام هادئا… فيخاطبني باسلوبه هامسا احيانا هادرا احيانا اخرى: (يا نهارت اللي نطرّف بيك ..والله لا نسيّبك)… سيضمّني الى سكّانه دون رجعة لذلك لم ولن اتجرّأ يوما على غزله او بعبارة ادق على مندافه …
حين سجّل “العقربي” هدف التعادل كانت الشهقة وقتها مُدوّية … طبعا انا تعمدّت قول العقربي اذ انّ المُسجّل كان علي الكعبي ..وتعمُّدي هذا مأتاه انّ الجميع (تونسيين عربا افارقة ..والمعلّق الفرنسي) كانوا منبهرين باللاعب رقم 8… انه المعلّم …ورغم الماكينة الاعلامية انذاك للمكشّخة كي يكون طارق هو نجم تونس الاوّل، فان الاجماع لمن يفهم سحر الكرة تونسيا عربيا وافريقيا واوروبيا كان حول العقربي ..وحتى اقف قليلا عند هذه النقطة ساحاول تفسير الفارق بين حمادي وطارق …في معاهد تعليم الموسيقى يتخرّج العديد من الطلاب بديبلومات في علم الموسيقى ولكنّ قليلين من يصبحوا ملحّنين مبدعين ..احمد فؤاد حسن هو من اهم قادة الاوركسترا في مصر الشقيقة ولكن ابدا ان لحّن اشياء تُذكر باستثناء بضع القطع الموسيقية ..فبقدر ما لا احد يُنكر حذقه لإدارة الفرقة الماسية … وهو فعل ذلك مع الكبار وردة عبدالحليم نجاة… بقدر ما لا ولم ولن يستطيع ان يصل الى مرتبة المبدعين في التلحين لأنّ التلحين موهبة والموهبة لا نتعلمها في المدارس …
من هذه الزاوية يبقى طارق قائد اوركسترا ممتازا ويبقى العقربي المبدع الساحر … وفعلا كان في الارجنتين الطائر الذي غرّد خارج السرب ولفت انظار عاشقي السحر والابداع واسألو كاسبرجاك عمّا فعله به ..(بعثو من روزاريو حتى لجنوب افريقيا) … بعثه الى حيث بقي التاريخ يضحك عليه بحركة واحدة لا يعرف سرّها الا المعلّم ..دعوني اختم كلامي عن حمادي وهو الذي يستحقّ مجلّدات …كان ذلك في بداية الثمانينات وكان الدربي بين السي اس اس والرالوي وكان ان كلّف مدرب الرالوي مدافعا اسمر اللون يُدعى الطرابلسي بالرقابة المشددة على حمّادي… قال له: (تلقاشي تسعة داخلين راسهم راس الڨول اش يهمّك فيهم سيّبهم و شدّ حمّادي اكاهو)… التزم هذا المدافع بتوصيات ممرنه وبكل شراسة …حمّادي فهم اللعبة وفي كرة وصلته اوهم ذلك المدافع بانّه سيعطيها لاحد زملائه في الفريق وبلغة يفهمها الكوارجية (قرص الكورة)… فذهبت سنتمترات وعادت اليه ليجد المدافع نفسه مذهولا امام هذه الحركة ويواصل حمادي طريقه ليسجل الهدف ..
المدرب استشاط غضبا من لاعبه واخذ يصيح في وجهه قائلا: (اش قلتلك … هكة تخلّيه يتعدّى منّك يا بهيم؟) … المدافع كان مازال في ذهوله عندما ردّ على مدرّبه: (اش نعملّو عمل واحد اثنين هو والشيطان) …ذاك هو حمّادي …وتواصلت شهقاتنا مع الثاني لغميض وانفجرنا مع الثالث لذويب …وقتها ذابت باريس نهائيا بالنسبة لنا نحن التونسيين ..اندثرت تماما ..لاننا حوّلناها الى ضواحي المنزة بتونس او شاطئ بوجعفر في سوسة او المائة متر، شارع الهادي شاكر بصفاقس… اختفت كل الاغاني الفرنسية وحضر النشيد الرسمي التونسي ويا ديني محلالي عرسو والله الله يا بابا سيدي منصور يا بابا …يومها كنّا فعلا افضل سفراء لتونس… الانتصار وتونس العزّة والفخر ..يومها كنّا افضل من اي خطاب سياسي ..افضل من ايّة نشرة اخبار وافضل من اي برنامج سياحي حول تونس … يومها لم نقم بتكسير بللور واحد ولا بتهشيم سيارة واحدة ولا بحرق ايّة عجلة واحدة …كنّا فعلا على درجة كبيرة من التحضّر وهو الامر الذي زاد في تلميع صورة تونس من خلال سلوكنا الحضاري …
و”امشي يا زمان وايجا يا زمان” …ليتحوّل التونسي الى ارهابي يدعس الناس بعربته المجرورة ويقتل ويذبح هنا وهنالك في بقاع متعددة من انحاء المعمورة …قال اشنوة قال ثورة الربيع العربي ..انها مهزلة التاريخ العربي، حيث نتحول دون وعي منّا الى قردة وببغاءات ننفّذ اجندات غربية تستعمل فيها احيانا اليسار واحيانا اخرى اليمين… يوهمونهم بأن العصر عصرهم وانّه حان الوقت ليكونوا الخلفاء … وبكلّ غباء نبتلع جميعا الحربوشة ولم نكبّد انفسنا حتى عناء التساؤل وبكل بساطة: متى كان الغرب يهتم لمصالحنا وهل يسمح لاية خلافة ان تقوم هنا وهنالك ؟؟؟ اهكذا بكل غباء ينتحر الغرب .؟؟…متى ندرك ان كل الدّول الغربية دون استثناء كان ومازال كل همّها تشتيتنا وتشريدنا… حتى تضمن لاسرائيل سلاما يمتد على قرون وتضمن لمصانعها الحربية ان تعمل لتسويق اسلحتها …؟؟؟؟.. السنا بعالم صايع من حيث الفاعل و خاصة المفعول به …؟؟؟؟