جور نار
ورقات يتيم … الورقة 60
نشرت
قبل 3 أشهرفي
عبد الكريم قطاطة:
وحان يوم العودة النهائية الى تونس … كان من الصعب عليّ ان انتقل على سيارتي من باريس إلى مرسيليا بمفردي … فرخصة سياقتي يعود تاريخها الى سنة 73 بعد 11 ساعة فقط من التدرّب على السياقة ثمّ (امسح مات) بعدها … لم اضع يدي على ايّ مقود فكيف لي ان اغامر بسياقة سيارة ؟؟؟
لم تطل حيرتي حيث اقترح عليّ احد الزملاء التونسيين الدارسين لهندسة الفيديو بنفس معهدي التكفّل بالمهمة، على ان أوفّر له مصاريف تنقّله ذهابا وايابا باريس تونس وتونس باريس عبر ميناء مرسيليا … وكان ذلك …تلك كانت المرّة الوحيدة طيلة حياتي التي اسافر فيها بحرا … مكرها لا بطل.. الم اقل لكم انّه بقدر عشقي الجنوني للبحر بقدر خوفي المرضي منه؟؟؟ وحتى اجمّد ذلك الخوف الرهيب بداخلي حرصت على اخذ اقراص منوّمة ممّا مكّنني من اغماض عينيّ، والاستسلام الى نوم ليس كالنّوم بميناء مرسيليا لم استفق بعده الاّ في ميناء حلق الوادي …
عند الوصول بدأت متاعبي المهولة مع السيارة …رفضت وبعناد كبير ان يشتغل محرّكها … رصاتلي ندزّ فيها انا وبعض المتطوعين وحشمتي على وجهي … الله الله عليك يا سي الطوالة جايب كرهبة من فرنسا ومن اوّل يوم تشمّر على سواعدك (غير المفتولة طبعا) وعرقك شرتلّة …_ غادرت الميناء صحبة زميلي المهندس الذي تولّى أيضا سياقة السيارة من تونس الى صفاقس وبالتحديد الى مقرّ سكناي بساقية الدائر حيث حوشنا الجميل .. ولكم ان تتخيّلوا المشهد …سيارة تلمع لمعانا تتبختر في ازقة رملية وتقبع ليلا امام حوش متداع للسقوط …كم هي سريالية تلك اللوحة … ولتقريب المشهد فقط تصوروا الاميرة ديانا في طمبكها قبل ان يفتك بها من رفض علاقتها بذلك العربي تصوروا ديانا (تحبك في الشعير في محبس) … او تغسل في دوارة العيد وخوفها الكبير من جهلها بفنون تنظيف الفحتة طلاّقة النساء …
فرح العائلة كان دون حدود ..الوالد كعادته كان مزهوّا بابنه (اللي في نظرو ولّى موش فقط راجل بل سيد الرجال اشبيكم راهو جاب كرهبة من فرانسا)… خاصّة وهي اوّل بل الوحيدة التي امتلكها واحد من سكّان الحوش .. لذلك كان يدعو الجميع لزيارتها والتبرّك بها في زهو ودلال دون حياء ..امّا عيّادة فكانت دوما من الفصيلة التي تشهق صمتا بفرحها …هل تفهمون جيّدا ما معنى ان يشهق الواحد منّا صمتا بالفرح … انّه الوجوم الجميل الذي لا حراك فيه ظاهريّا والذي تتشابك فيه كل الشرايين داخليّا في حركة مرور مزدحمة جدّا ..كلّ شريان فيها يريد ان تكون له الاسبقية والتمتّع بالسبق ليجنّح .. ليصرخ.. ليبكي بفرح … ليقول يا ربّاه … الا انّ انانية كلّ شريان للظفر ببطولة السباق للحصول على ذاك السبق الصحفي تسّد عليهم ابواب البوح من جراء ازدحامهم … فتبقى الشهقة حبيسة الصّدر …
في الغد صبّحنا والملك لله وكان عليّ ان اتعامل مع زمردتي بما اتذكّر من قواعد السياقة … شغّلت المحرّك وندهت .. ويعد 20 مترا وانا احاول ان اعكس المقود لآخذ منعرج الخروج من الجنان الى الزنقة الرئيسية وجدتني ادخل في الطابية … وكم هي كثيرة نعم الطوابي علينا …اذ باستثناء “استئجارها” من لدن سكان غير مرغوب فيهم تماما (العقارب) والتي تتعدد في حجمها واصنافها وتُعتبر من اقرب الجيران الينا خاصّة عندما تخرج ليلا تتمشّى وتتبختر بيننا اينما كنّا … العقارب في حوشنا من الفصيلة الجريئة جدا في تعاملها معنا ..اكاد اكون الوحيد الذي لم تسع يوما لتقبيله من نوادرها المؤلمة ان الوالد رحمه الله بعد ان ذهب الى بيت الراحة (يعمل بيشار، هكذا كانوا يقولون عن تعامل الفرد مع بيت الراحة …بيشار ؟؟؟ وفقط … لا اعرف لا معنى ولا سرّ اختيار هذه الكلمة والتي عُوّضت الان بـ “بيبي”)…
عند عودته بعد البيشار تمكّنت بيه صيفة عقرب … قنفود على حالها … وهرع الى الثوم يأكله كما لو كان يأكل قطعة فقّوس… عندما وصل الى المستوصف ساله الممرّض ماذا فعلت حتّى تنقذ نفسك من قبلة العقرب المسمومة اخبره بذلك الانتيبيوتيك الثومي …اثنى عليه وقال له …هاكة اللي جابك للصواب … من نوادر مؤنستنا دوما العقرب عافاكم الله انّه كانت لي ابنة عمّ تستعد لزواجها …الا انّ اهل عروسها لم يُوفوا بوعودهم في حكاية الشرط …والشرط انذاك اتفاق بين العائلتين المتصاهرتين حول الجواهر والملابس والمواسم التي يتكفّل بها العروس لعروسته … يومها كانت ابنة عمّي رحمها الله غاضبة جدا من اهل عروسها الذين اخلّوا ببعض تفاصيل الشرط ..فما كان منها الا ان انهالت عليهم بالدعاء وكانت آخر دعواها (يعطيهم عقرب) … ودعوتها طلعت دخان للسماء واجابتها العقرب لتوّها وعطاتها حسابها …
عودة لمزايا الطوابي التي هي حيّ النصر لآل عقرب وهو الاستثناء هي المعبد الهام والجميل لسلطان الغلّة ..انذاك كان سطل الهندي يُباع بخمسة مليمات ..ونبدا نقّرق بالشاري …واليوم اصبح الهندي ارفع ثمنا من الموز … اووووووووووووووووف من الدنيا وعمايلها … والحقيقة اووووووووف منّا ومن عمايلنا …. قضينا على كلّ الطوابي وتربّضت الغابات وغاب بريقها وانتفت رائحتها الى الابد …كم لا نُقدّر نعم الاشياء الا بعد فقدانها …
يوم سياقتي للسيارة بعد 6 سنوات صوما عن السياقة كان فضل الطابية عليّ كبيرا …داهمتها بجهل منّي في استعمال المقود فقابلت هجمتي بروح رياضية ولامست سيارتي بكل لطف وهي تهمس: (موش من ثمّة يا ولد موش من ثمّة)… هذه العبارة ذكرتني بحكاية واقعية لصديق ذهب لأوّل مرة في حياته الى دار خناء علني وكان ان وجد نفسه مع بائعة هوى مالطية… ولأنه لأوّل مرّة دخل فيها قعباجي… فما كان من تلك بائعة الهوى الا ان استغربت جهله وصاحت …موش من ثمّة موش من ثمّة … وما كان منه الا ان ردّ عليها موش مشكلة يا مدام البرّ الكلّ جايينو ..تقولشي فلاّح ماشي يميّل جنانو …
اعود بكم الى تلك الحادثة مع الطابية لاقول لكم انّها كانت المرّة الوحيدة في حياتي التي فقدت فيها السيطرة على المقود يعني ضربة الزلوع … عدّلت المقود وغادرت المكان ..في مرحلة اولى كان اللقاء بالاصدقاء في بيتنا الدائم حانوت الحلاق بو احمد ..وبجانبه سي المبروك الحمّاص رحمه الله وهو ينظر الى ابنه كُريّم بسيارته الجديدة بكل فخر واعتزاز… بعد ذلك كان التوجّه الى اذاعة صفاقس في محطّتي الثانية …في تلك الفترة لم اكن اعرف من الزملاء في اذاعة صفاقس سوى فئة قليلة… المدير قاسم المسدّي رحمه الله والزميل الهادي المزغني اللذين اعرفهما من فترة زمالة بالتلفزة التونسية عشناها معا منذ 1972 قبل نقلتهما الى صفاقس… والزميلين مختار اللواتي (زميل دراسة بالحي الزيتوني، 15 نوفمبر حاليا) والزميل عبدالمجيد شعبان الذي كان يدرس ويشتغل بشكل مواز في معهدي كقيّم ..وبعض الاسماء القليلة من الذين كانوا يعرفونني من خلال عملي بالتلفزة التونسية وظهور اسمي على الشاشة كمركّب افلام …
من ضمن هؤلاء كانت ابتسام الغطاسي انذاك …لقيتها اوّل مرة بمكتب الزميل الهادي المزغني ..انا اعرفها منذ كانت تلميذة وكانت ناشطة جدا ومغرمة بالمحاضرات والشعر … يوم التقينا قدّمني لها الهادي المزغنّي وكانت فرصة لتدعوني لمشاركتها كضيف في حصتها العاب وانغام مع ابتسام …كانت هنالك بيننا تقاطعات فكرية وفنّية متينة تحوّلت في ما بعد الى صداقة متينة جدا مع عائلتها وللقصّة بقايا في ورقات لاحقة ..دعوني اقل وبكلّ الم الدنيا وبايجاز ..كيف لاذاعة مثل اذاعة صفاقس ان تتخلّى عن واحدة من افضل المنشطات في البرامج الثقافية في الاعلام التونسي: ابتسام المكوّر ..؟؟ وكيف لاذاعة مثل اذاعة صفاقس ان تتخلّى عن واحد من افضل القامات العربية في الميدان الصحفي… زميلي الكبير جدا عبد المجيد شعبان ؟؟؟؟…..صدقا جريمة كبرى في حقّهما وفي حقّ اذاعة صفاقس …وللحديث حتما عودة …
مدّة اطلالتي لم تدم بصفاقس… اذ بعد ان زرت كلّ الاقارب وفي مقدمتهم عائلة خالي اي عائلة خطيبتي (ووين نحطّك يا طبق الورد) كان عليّ ايضا ان اعود الى العاصمة لترتيب بيتي بنهج كندا وللاستعداد لتسلّم مهامي الجديدة بمؤسستي التي غادرتها مركّب افلام وعدت اليها مخرجا … بداية قمت باحضار ملفّ كامل لهذه الوضعية المهنيّة الجديدة حتى تتمّ معادلة الديبلوم في وزارة التعليم العالي بما يتوافق مع ما يوازيه في الجامعة التونسيية … ديبلومي في المعهد الفرنسي هو مواز لست سنوات تعليم عال في الجامعة الفرنسية …الا انّ سيادة الجامعة التونسية استكثرت علينا هذه الدرجة المعترف بها دوليّا واشترت ديبلوماتنا بالصولد ولم تمكنّي انا وزملائي المهندسين الذين تخرّجوا في نفس دفعتي الا من اربع سنوات جامعية …
لكنّ الاغرب انّي وجدت نفسي مرسّما كمهندس لا كمخرج …اي وقع اعتباري كواحد من زملائي المهندسين ودزّ يخطف …. وبقدر ما اغتبط لي زملائي في اختصاصهم واعتبروا ذلك خطأ من نوع ربّ ضارة نافعة باعتبار انّ المهندس انذاك يتمتّع بامتيازات مادّية هامّة جدا مقارنة بسلك المخرجين… بقدر ما عادت اليّ طباعي العنيدة ورفضت رفضا قاطعا القرار ..اي ضحك على الذقون هذا … ايّة علاقة لي بسلك المهندسين وانا الذي لا اشمّ شيئا في ميدان انا اجهل الجاهلين فيه …ثمّ المشكلة اساسا بالنسبة لي مشكلة مبدأ… انا غادرت مؤسستي لاحرز على ديبلوم عال في المونتاج و في وسط الطريق ارتأت ادارة معهدي رسميا على إثر مذكّرة من اساتذتي أن احوّل وجهتي الى الاخراج فكيف لي ان اقبل باختصاص لا ابجدية لي فيه …وهل كان المال يوما محدّدا لاختياراتي ..؟؟؟
رفضت رفضا قطعيا الامر وطالبت عبر عشرات المراسلات باعادة النظر في وضعيتي وتمكيني من حقّي الذي لا نقاش فيه …المراسلة الاولى كانت في شهر افريل 1979 ولكن الاستجابة لم تتمّ إلا سنة 1990 .. 11 سنة من عمري وانا جاثم في النقطة الصفر معنويا وماديا …. عمر الشاقي باقي ومازال مازال …هنا وللامانة التاريخية عملية حصولي على حقّي كانت بتدخّل من صديقين لن انسى جميلهما في ذلك… اوّلهما الزميل والصديق صلاح معاوية والذي شغل في تلك الفترة منصب رئيس مدير عام الاذاعة والتلفزة التونسية.. علم بالامر فدعاني الى مكتبه ودعا الزميل مختار الرصاع الذي كان يحتلّ انذاك منصب مدير التلفزة واوصاه بالتعجيل في اصلاح الوضعية، معتذرا عن عدم رجعية مفعول العملية لأن ذلك ليس بمقدوره ….شكرا سي صلاح شكرا سي المختار …
عندما عدت الى مؤسستي بعد عطلة دامت شهرا كاملا … ارتأت الإدارة ان اشتغل بقسم شريط الانباء حيث تنتظر تونس احداثا هامة في الخريف لعلّ اهمّها انعقاد مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري (وفاء وتقدم) في شهر سبتمبر… ومؤتمر القمة العربية في نوفمبر بعد انتقال الجامعة العربية لتونس اثر معاهدة كامب دافيد وانعقاد قمّة بغداد نوفمبر 78 وقرار القطيعة مع مصر السادات… الحدثان هامان جدا بالنسبة للدولة التونسية انذاك… اذ انه داخليا بدأت تتشكل داخل الحزب الاشتراكي لعبة التحالفات وخارجيا على تونس ان تحتضن الاشقاء العرب وهي المعروفة بوسطيتها وحكمتها ..ولهذا كان على جميع الاطراف ان تجنّد خيرة الطاقات لتامين هذه الاحداث المنتظرة ووجدتُني في قسم شريط الانباء مع ادارة جديدة للاخبار يرأسها السيد عبد الحميد سلامة ومع رئيس مدير عام جديد للمؤسسة السيد سالم بوميزة …
كنت بالنسبة لهم الرجل الثقة والرجل الكفاءة … وبدأت مرحلة هامّة في حياتي على قصرها …مرحلة تميّزت بالتّعرّف وعن قرب على ماكينة الحزب اعلاميا وعلى المناورات التي اودت برؤوس البعض واهانت البعض الاخر ومن حسن الحظ اعادت للبعض منهم الاعتبار … عالم وسخ قذر الى حد القرف …لعلّ اهمّ ما علّمني ان رجال السياسة وبيادق اعلامهم هم كالقردة في الغاب اذا تشاجروا افسدوا الزرع واذا تصالحوا اكلوا المحصول ويبقى الشعب المسكين الضحية …تذكّروا هذه القاعدة جيدا للمفكّر جورج اوريل حتّى نتاكّد معا انّ ما حدث في عهد بورقيبة من صراعات القردة لا يختلف في شيء عن صراعات الشامبانزي بعد 14 جانفي …اليست السياسة وكما قال انيس منصور هي فنّ السفالة الانيقة ..؟؟؟ قلت انّ المرحلة كانت هامة جدا لأنّ نهايتها شهدت منعرجا تاريخيا في حياتي الاعلامية ..منعرج الاقدار …
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …
وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…
وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..
قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …
لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …
وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …
سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…
عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..
وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …
ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …
ـ يتبع ـ
عبد الكريم قطاطة:
المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …
وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..
في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…
اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…
اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…
لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…
في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…
عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…
اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.
يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.
الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.
طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.
وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.
صن نار
- ثقافياقبل 5 ساعات
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- جور نارقبل 5 ساعات
ورقات يتيم … الورقة 89
- ثقافياقبل 15 ساعة
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل يوم واحد
الصوت المضيء
- جور نارقبل يومين
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 3 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 3 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات
- صن نارقبل 3 أيام
في المفاوضات الأخيرة… هل يتخلى “حزب الله” عن جنوب لبنان؟