جور نار

ورقات يتيم … الورقة 72

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

…وعاد الكوكتيل !

كانت فرحة المستمعين عارمة وكان صدى عودته صحفيا كبيرة… ولم تدم عودته بالصيغة المسجّلة طويلا ….بضعة اسابيع وعاد الى شكله المباشر …

الاّ انّ الملأ لم يُلق السلاح بل تجاوز المقصورات الخفيّة ليتحوّل الى المصدح في بعض البرامج بالهمز واللمز … لم اردّ وقتها على مثل تلك الاستفزازات لكن مرة اخرى تكفّلت بذلك بعض الاقلام في الصحافة المكتوبة… وهنا وللامانة والله شاهد على ما اقول لم اطلب يوما وفي كل حياتي المهنية ان يكتب عنّي ايّ زميل لا دفاعا ولا مدحا … رغم انّ مثل هذه الاشياء كانت ومازالت متواترة بكثرة في علاقة الاذاعيين او الفنانين بالاقلام المأجورة (مسّني ونمسّك)…

من جملة ما كُتب انذاك عن استفزاز بعض الزملاء بعد عودة الكوكتيل هذا المقال الصادر بجريدة الاعلان وبتاريخ 22 جويلية 1983 وتحت عنوان (لا تجرحوا كرامة عبدالكريم قطاطة)… يقول صاحب المقال: (بعد عودة برنامج من البريد الى الاثير إثر زوبعة لعبت فيها عدة اياد خفية غير نظيفة، وبعد طيّ صفحة الماضي واستبشار المستمعين بهذه المبادرة الجديرة بالتنويه والتي قامت بها الادارة الحالية لاذاعة صفاقس ونخصّ بالذكر السيد التيجاني مقني مديرها، يبدو انّ الايادي التي ابعدت المنشط الممتاز عبدالكريم قطاطة عن العمل الاذاعي عادت من جديد لتُسمّم الاجواء امام الميكروفون وتكيل له شتّى انواع الثلب والشتم والاهانة وذلك باحدى حصص مطلع جويلية … ونحن نعجب من هذا الموقف المُخزي والذي يتنافى وابسط قواعد الزمالة .. وعلى ايّة حال انّ حكم الجمهور وحده كاف للتعبير عن مدى تعلّق المستمعين بهذا المنشّط الذي سحر الالباب… وقد بلغ الى علمنا انّ رسائل استنكار عديدة وصلت الادارة للتعبير عن استيائها من هذه الاعمال وتناشد المسؤولين ان يضربوا بشدة على ايدي هؤلاء، حتّى يكفّوا عن عرقلة عبدالكريم الذي اثبت للجميع انّه الافضل والاحسن والانظف)

وللتاريخ لم يُعمّر ذلك البرنامج المعني طويلا واندثر …وللتاريخ ايضا طُويت صفحة الخلاف مع صاحبه بعد 10 سنوات …الكوكتيل بعد توقفه وعودته شهد ألقا كبيرا … في تلك السنوات اعتبر المتلقّي والناقدون في الصحافة المكتوبة وحتى بعض الزملاء في اذاعتي تونس والمنستير… اعتبروا عودة الكوكتيل انتصارا لنهج اذاعي جديد، اذ رأوا فيه نفَسا ذا جرعات من الجرأة مضمونا وفيه شيء من الامتاع شكلا … ودائما للتأريخ وليس من باب استعراض العضلات، يكفي ان اعرض عليكم موقفا من قامة من قامات التنشيط انذاك، المرحوم نجيب الخطاب، عندما صرّح في استجواب صحفي بجريدة البيان وبتاريخ 4 جويلية 83 وهو يُجيب عن سؤال حول اذاعة صفاقس، بالقول: (بالنسبة لاذاعة صفاقس لا اضيف شيئا عندما اقول انّي معجب بعبدالكريم قطاطة الذي عرفته كفنّي ممتاز وذكيّ جدا في تركيب الافلام بالتلفزة التونسية، واملي ان انتج في يوم ما، برنامجا اذاعيا مشتركا بيني وبين عبدالكريم)…

هذه شهادة من جملة العديد من الشهادات التي لم اذكرها والتي فقط اردت من خلالها التذكير بانّ النجاح ووهجه قد يسير بنا الى الهاوية اذا لم نضعه في مكانه الطبيعي … اي وجب على ايّ نجاح نحققه في حياتنا ان يكون دافعا للافضل … للأجود … للارقى … والا تحوّل وهج النجاح الى نار تحرق في داخلنا الارادة لمواصلة الطريق باكثر حماسا ورغبة في التجاوز … من ثمة اصبحت مسؤوليتي في الكوكتيل مضاعفة… بدرجة اولى المحافظة على ثوابته، وبدرجة ثانية البحث عن اشكال اخرى لاخراجه من التحنيط… لذلك يبقى العمل الاذاعي الناجح رهين التجديد والخلق والبحث … من هذه الزاوية ومن زوايا اخرى كان عليّ ان لا اكتفي بالمثابرة اليومية بل اتجاوز ذلك الى ابعاد اخرى …قلت من زوايا اخرى وهاكم التفاصيل …

اوّلا انا جُبلت على الاعتراف بالجميل مهما كان حجمه … ومن خلال تعاملي مع السيد التيجاني مقني احسست الى حد اليقين انّ الرجل كان نزيها جدا معي … هو لا يتكلم كثيرا نعم …ولكن للصمت ولنظرات الاعين مفرداتها الرشيقة ايضا … وكان واجبا عليّ ان اقول له وعلى طريقتي شكرا لك يا رجل … هذه زاوية اولى … الزاوية الثانية كيف عليّ ان اتعامل مع الملأ الذي كان وسيكون ؟؟؟ من طباعي ايضا انني لا اغضب سريعا ولا اردّ الفعل سريعا وحتّى ردود افعالي كانت ومازالت مغايرة للسائد … انا اصمت كثيرا واردّ الفعل بالعمل…

هذه الزوايا الثلاث التي تحدثت عنها جعلتني افكّر في عمل غير مسبوق… اذاعة صفاقس على بعد بضعة اشهر من الاحتفال بعيد ميلادها الثاني والعشرين (8 ديسمبر 1983)… اذن الفرصة مواتية لفعل شيء ما يرتقي الى مستوى الحدث … ماذا لو كان الاحتفال في شكل سهرة اذاعية مباشرة حتى الصباح ؟؟؟ اعرف ان مثل هذا لم يحدث سابقا في تاريخ الاعلام الاذاعي التونسي؟؟؟ … ايه وين المشكل ؟ … لماذا لا نكون سباقين في ذلك باذاعة صفاقس ؟؟ وقفزت سريعا الى مكتب المدير …. استقبلني ببشاشته التي اصبحت جزءا من لقاءاتنا وقال: اشنوة شكون تسلّط عليك هذي المرّة ؟؟… انا لم اكن اشتكي من ايّ كان ولكن هو يعرف انهم متسلطون … اي اصبح مدركا لما يجري في الكواليس …

ضحكت وقلت: لا لاباس اما عندي فكرة مشروع نحب نعرضها عليك … اصلح جلسته وقال: ان شا الله خير… قلت له: اذاعة صفاقس ستحتفل بعيد ميلادها الثاني والعشرين عن قريب … اجاب ايه نعرف والمطلوب ؟؟ … قلت له ما رايك لو يكون الاحتفال حدثا هاما بالنسبة لمؤسستنا … قال لي: هات اشنوة المطلوب منّي، اما راهو الخزينة نهاية عام وما فيهاش برشة فلوس … قلتلو: لا الفكرة من نوع البلوشي… تهلل وجهه وقال: ايّا هات اش عندك … طرحت عليه فكرة برنامج اذاعي بما يّسمّى (نون ستوب) اي بث ليلة كاملة دون انقطاع ….لم يردّ للحظات ثمّ قال لي سافكّر في الموضوع … خرجت من مكتبه دون ان افكّ شفرة (سافكّر في الموضوع) … كنت واثقا من انّ “الملأ” لن يوافق… ولكن كان هنالك بداخلي احساس انّ سي التيجاني بمقدوره ان (يتملّح) من الملأ …

يومان فقط وبعدها دعاني السيّد التيجاني الى مكتبه … وكعادته وبنظّارته التي تحجب عنّي قراءة ما بداخله قال لي: اقعد سي عبدالكريم…جلست ولم يمهلني طويلا حتى سأل: انت واثق من قدراتك على ننفيذ المشروع اللي حكيتلي عليه لعيد ميلاد اذاعة صفاقس ؟؟؟ اجبته نعم وبكل حزم … ابتسم وقال في دعابة: معناها ما كذبوش عليك اللي قالو انّك مغرور …. قلتلو هذا كلام نعرفو وما يقلقنيش …. فما كان منه الا انّو زاد تفّحّها يقوله: اما هوما قداش يحبّوك (طبعا بلهجة ساخرة) …. فرددت عليه بنفس اللهجة: لو كان تشوف انا ! … عاد الى جديته وقال لي: اشنوة يلزمك لتحقيق الفكرة متاعك؟ … قلتلو: موافقتك …. قللي اعتبرني موافق نحكي ماديا … قلتلو باستثناء تخصيص استوديو للمونتاج واخرين للبث لا شيء لانني ساعمل وكل الفريق مجانا هدية منّا لاذاعتنا …

نظر اليّ بكلّ عمق وقال: (اخدم على روحك وانا عندي ثقة فيك) … بكلّ صدق خرجت من مكتبه كطاووس … وبكلّ صدق اعتبرت موافقته دفعا ايجابيا لي وضربة قاصمة للملأ … وبدأت في نسج سيناريو البرنامج … اوّل ما عملت عليه ان يكون التنفيذ جماعيا لذلك دعوت العديد من الزملاء للخوض في الموضوع ولتمكينهم من المساهمة في البرنامج ….لكن وبكلّ صدق ايضا كنت حاسما في اختيارات محتوياته … انا هكذا متسلط جدا عندما اتبنّى فكرة ما … لا يزيحني عنها الا من يقنعني بالافضل منها … وشرعت في العمل … كنّا خليّة نحل في اعداد ومونتاج الاركان المسجلة والريبورتاجات … ثم قمت بعدها بتوزيع الادوار بين كامل اعضاء فريق المنشطين في استوديوهين وانطلقت السهرة الحدث …

احتفظ منها باشياء عديدة ولكن اهمّها انني يومها اكتشفت مدى تناغمي مع زميلي عبدالجليل بن عبدالله في التنشيط الثنائي… وثانيهما ونحن على بعد هنيهات من اختتام البث، وباب استوديو البث يُفتح ليدخل منه السيّد التيجاني مقني وكلّه سعادة وليشدّ على يديّ بكل حرارة وعمق … وليقول برافو ربحنا جميعا الرهان… وكنت اكثر سعادة وانا اقرأ رجع الصدى في الصحافة المكتوبة لعلّ اطرف ما جاء فيها ما كتبه احد الزملاء في جريدة البيان بتاريخ 13 فيفري 84: (سهرة عيد الميلاد التي تواصلت الى الصبح شدّت آلاف المستمعين، فمن ذلك فتاة صغيرة تدرس بالمدرسة الابتدائية سهرت مع الحدث ولما كانت في القسم داعب النوم جفنيها فسألها المعلم عن السبب، قالت: عبدالكريم وعيد ميلاد اذاعة صفاقس… ردّ المعلّم: انت اشجع منّي… انا لم استطع متابعة البرنامج للصباح)

… وانا اكتفي بما كتبته في الورقة 72 منذ الصباح …

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version