عبد الكريم قطاطة:
كنت حدّثتكم سابقا عن مخطّطي في مسيرتي المهنية والتي وللتذكير عزمت فيها على تخصيص العشر سنوات الاولى منها للعمل الاذاعي اي من 1980 حتى 1990… والعشرية الثانية للعمل التلفزي كمخرج وهو اختصاصي بعد تخرّجي من المعهد الوطني للعلوم السمعية البصرية بباريس افريل 1979… ثم أنتقل بعدها وكحلم ايّ مخرج للعمل بعد سنة 2000 في دنيا السينما…
الا انّ تجربتي الاذاعية وما نتج عنها من شغف سحري بالمصدح وباصدقائي المستمعين، جعلني اعدّل بعض الشيء… نعم لم استطع فكّ طلاسم وسحر المصدح الذي احتلّني وارتأيت ان يصبح لي موعد اسبوعي قارّ معه… نعم للعشق احكامه… وفي العشق لزاما علينا ان نكتفي بالقول “وما تشاؤون الا أن يشاء الله إنّ الله كان عليما حكيما” .. نعم كنت اخطّط لذلك وبكل حزم وإرادة وبكل حبّ ايضا، خاصة وقد اصبحت وظيفيا احمل رتبة مخرج… والفضل في ذلك يعود الى الصديق صلاح الدين معاوي رحمه الله حين كان رئيسا مديرا عاما لمؤسسة الاذاعة والتلفزة… والذي حرص وفي وقت قياسي على تسوية وضعيتي وتمكيني من حقي بعد 11 سنة ظلما …
في بداية سنة 1990 بدات في دراسة مشاريع اكون فيها المنتج والمخرج وراء الكاميرا كطبيعة عمل ايّ مخرج… ومرة اخرى ولانّه وما تشاؤون الا ان يشاء الله، وجدت نفسي اعمل تلفزيا ولكن هذه المرة كنت امام الكاميرا كمنشط… اي نعم … كان ذلك عندما اجتاحت تونس فيضانات جانفي 1990… ادارة التلفزة فكّرت في تيليتون لجمع التبرعات لفائدة الجهات المنكوبة ..وهو اوّل تيليتون في تاريخ التلفزة .. وطبعا فكّرت مؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية في الاسماء التي ستنشط سهرتي التيليتون ..وعادي جدا ان تختار الاسماء التي تحظى بحيّز جماهيري كبير لتامين البرنامج ..وكان على راس القائمة من تونس الزميل نجيب الخطاب رحمه الله وكنت مرشّح اذاعة صفاقس مع مرشحين اخرين من اذاعة المنستير …
كانت تجربتي الاولى والاخيرة في التنشيط التلفزي وساعطيكم لاحقا تفسير كلمة الاخيرة …في السهرة حرصت ان اكون كما اريد انا لا كما يريد الاخرون ..كنت مثلا الوحيد من بين المنشطين الذي نشّط وهو جالس… نعم وانا لحدّ الان لم افهم لماذا ينشط البعض وهم وقوفب.. التنشيط عندي في مثل هذه المواقع يحتاج الى الهدوء والرصانة اكثر من حاجته للوقوف والتروقيص… وكان مدير اذاعة صفاقس انذاك الزميل محمد عبد الكافي رحمه الله لم يهدأ له بال وهو يراني عكس الاخرين ملتزما بمقعدي ..جاءني مرات ليقنعني ان اقف مثلهم وكان موقفي دائما الرفض حيث كنت اردّ عليه بالقول (ومن قال لك اني اريد ان اكون مثلهم ؟)… ربما موقفي فيه نوع من الغرور قد يراه البعض ولكن كانت ومازالت تلك ثوابتي… انا ابحث لي ولكلّ من تدرّب على يديّ ان تكون لكل منا بصمته الخاصة …
اتذكّر هنا جيّدا احد الشباب الذين تدرّبوا عندي يوما ما وقد جاءني وهو يحكي عن طموحاته واحلامه قائلا (اتمنى ان اكون مثلك يوما ما)… اجبته مباشرة بالقول (اِعتبر نفسك من هذه اللحظة فاشلا)… كانت اجابتي بالنسبة له صدمة… قمت بالطبطبة عليه وقلت له (اريدك ان تكون انت لا نسخة منّي او من ايّ كان ..وقتها ستحقق كل احلامك ووقتها ستكون افضل منّي) … زميلي محمد عبدالكافي رحمه الله يئس منّي وفهم انّو يصب في الدواء في العين العورة …ولا حول ولا قوة الا بالله …
في ذلك التيليتون الذي نجح نجاحا باهرا وقعت اشياء بقيت عالقة في الذاكرة… لاحظت مثلا تدفق العديد من التونسيين بمختلف تركيباتهم الاجتماعية، وهو ما اكّد دوما انّ التونسي للتونسي رحمة وفي كل الازمنة والازمات ..لكن في المقابل لاحظت الغياب الكلّي لحاملي المناصب فتوجهت بالدعوة الصريحة وبكلّ استغراب وعتاب لتلك الشريحة وذكرت مناصبهم (الوزراء والمديرين العامين الخ) ..قلت لهم اينكم .؟ توحشناكم راهو ؟ والمفروض انكم تكونوا السابقين في مثل هذه الحالات حتى تعطوا المثل .. كنت موقنا انّ الدعوة فيها نوع من الجرأة التي قد وقد وقد ..اما بالنسبة لي، فـ”بوزيد مكسي بوزيد عريان” ..انذاك كنت مقتنعا بتدخّلي ذاك فـ”تڨرّعت”… وفوجئت بعدها بعديد المسؤولين الكبار يتسابقون للتبرع ..معناها جابني ربي في الصواب…
مما اتذكره ايضا انّ التيليتون خصص مجموعة من اللوحات الفنية التي تبرع بها اصحابها الرسامين لتكون للبيع بمزاد علني يُرجى من ورائه تدعيم خزينة التبرعات بثمن تلك اللوحات .. صدقا في بداية فتح المزاد العلني لم اكن اتصور ذلك التهافت على شراء اللوحات… نعم كنت جدّ منبهرا بالحصيلة ..لكن ما لفت انتباهي وجود متدخّل دائم من اذاعة المنستير عند بدء عملية المزاد العلني… نعم نفس الاسم وفي كل مرة يضيف رقما مهولا على الرقم الذي سبقه ..فهمت بعد ثلاثة او اربعة تدخلات …منه انّه شخص استُعمل خصيصا للغرض … وانا لا احبّ النفاق عموما وخاصة النفاق الاذاعي ..وهنا تدخلت وبشكل غاضب وقلت لذلك الشخص مستسمحا زميلي نجيب الخطاب في مبادرتي ووقتها وصل ثمن اللوحة الى ملايين ..قلت له (طاح عليك السوم وننتقل الى لوحة اخرى) .. وفصّ ملح وذاب ..ذلك الشخص لم يشتر اللوحة واختفى نهائيا من المشهد … اي نعم احيانا الميادين فيها بعض المنزلقات ..والسيد زلق طاح ما في عينو بلّة … خدموه شوية رقّاص ومشى على روحو…
اعود الان الى تفسير ما معنى كانت التجربة الاولى والاخيرة في العمل تلفزيا امام الكاميرا … عندما وقع اختياري لاكون ممثل اذاعة صفاقس في التيليتون لم اكن صدقا كما يفعل البعض وعادة ما يفشلون… لم اكن فرحا مسرورا وفي قمة سعادتي لترشيحي من اذاعة صفاقس لاقوم بتلك المهمة ..ولكن صدقا ايضا لم اكن رافضا لها ..موقفي كان (وين المشكل نجرّب ونشوف)… لم اكن مهتما بما سيقوله البعض عنّي خاصة في خانة الاعجاب والشكر و المديح وذلك لسببين: اوّلهما انّو اذا حبّوك ارتاح ..والله مهما كانت عيوبك يخخي موش يقولو القرد في عين بوه غزال .. ؟؟ والسبب الثاني انّ عمليّة التقييم والنقد ليست ممكنة لكلّ من هبّ ودبّ ..اي نعم اقرا الان بعض التعاليق على العديد من الزملاء في المسموع والمرئي وابكي لحال هؤلاء .. للمعلّق وللمُعلّق عليه …
سآخذ مثالا على ذلك… اقرا كثيرا في بعض التعاليق عبارات من نوع (انت مبدع او انت مبدعة) لزملاء، الله اعلم كيفاش موجودين امام الكاميرا او وراء المصدح… وأجزم ومن خلال ما تعلمته في كل ما هو سمعي بصري ومن خلال تجربتي، أن ذلك المنشط او تلك المنشطة اللذين يوسّمهما البعض بتوصيفة الابداع لا يستحقان ايّ وجود في الميدان السمعي بصري …تي اصلا من المطر ما تدخلهمش… لذلك وعندما قررت المشاركة في التيليتون، رجوت من بعض الزملاء في وحدة الانتاج التلفزي ان يقوموا بتسجيل البرنامج حتى اعود اليه في الغد لقراءة تجربتي امام الكاميرا… اي نعم… وفعلت… وشاهدت… وبعدها قررت انها ستكون الاخيرة…
عبدالكريم لم يقتنع بعبد الكريم امام الكاميرا ..انا لي قناعاتي في كيف يجب ان يكون المنشط التلفزي لعلّ اولها الحضور والكاريزما ..نعم كنت متاثرا ومقتنعا بعديد المنشطين التلفزيين وشغوفا بهم وخاصة الاوروبيين منهم… وكنت ارى فيهم القدوة شكلا ومضمونا… وعندما قارنت نفسي بهم وجدتني لا علاقة … اييييييه ما اقرب مكة لبوجربوع… مع احترامي لاصدقائي في بوجربوع… اي نعم اعترف بقساوتي في النقد لانّ ايّ نقد لا يحكمه العقل هو عبث ومُلغى بالنسبة لي… اذن يا عبدالكريم يسلّم ولدي سكّر باب التنشيط التلفزي والى الابد راك موش متاعو… واغلقته وللابد…
والشيء بالشيء يذكر… هناك من قام ببعض التجارب من الزملاء في التنشيط التلفزي وعلى قلّتها وتواضعها مازالوا يتباهون بها….اقسم بالله قلّة حياء ومسخرة… حاصيلو عاش من عرف قدره واكاهو…
ـ يتبع ـ