عبد الكريم قطاطة:
في هذه الورقة ساخصص محتواها للحديث عن جزء من تجربتي مع التلفزيون كمخرج ومنتج … وانا الذي وبكل صدق وامانة أعتبرها باهتة ومتواضعة جدا ولم تكن في حجم احلامي وطموحاتي …
اذن كما اسلفت وبعد تسوية وضعيتي الادارية والاعتراف بديبلومي كمخرج… بدات وفي مطلع التسعينات اخطّط لنوعية البرامج التي اراها تتجاوب مع ميولي وقناعاتي … وكنت من الذين يعشقون جدا الاشرطة الوثائقية… وفعلا اقترحت على ادارة التلفزة انتاج واخراج مجموعة من الاشرطة الوثائقية تحمل كعنوان (شعاع من الجنوب)… وهي في رؤيتي تحقيقات تهتم بمناطق عديدة من جنوبنا اسلّط فيها الضوء على مناطق لم تزرها الكاميرا للنبش في واقعها المعيشي ومن زوايا متعددة… ووافقت ادارة التلفزة وشرعت في انتاج اوّل حلقة والتي سلطت فيها الضوء على قرية من قرى الجنوب التونسي… انها سيدي مخلوف بولاية مدنين…
كان التصوير ثم المونتاج في اواخر سبتمبر 91 والبث في اكتوبر 91 … وهاكم مقتطفات من تعليق جريدة الصباح حول هذه الحلقة في 21 اكتوبر 1991 تحت عنوان (اجتهاد من الجنوب) حيث كتب صاحب المقال (وبعيدا عن الثقافة و الجهل اريد ان احيّي باسمكم هذا العمل التليفزيوني المتميز حقا ..فهو كالقهوة اللذيذة او كمشموم فل او كالكتاب الجميل … التشبيه غير مهم… الاهم هذا العمل تراه فتتمنى لو انه يستمرّ اكثر او لو انه يعود او لو انه يصبح من ضيوفك الدائمين… هذه الكلمات البسيطة التي تشكّل وردة احب ان اقدمها الى المجتهد عبدالكريم قطاطة، الذي فتح لنا نافذة صغيرة راينا من خلالها بعض ما يجري فوق ارض الجنوب من كفاح ونضال وصراع مع المصاعب والاغراءات والاوهام والمشاكل التي لا تنتهي ..كان عنوان ما قدمه عبدالكريم قطاطة “شعاع من الجنوب”… وبالفعل كان حزمة من الضوء فيها الجمال والاجلال والاجتهاد والذوق … هكذا يكون العمل التليفزيوني او لا يكون، وهذا عمل تليفزيوني يستحق ان يجلس امامه التلامذة وهواة العمل التليفزيوني لعلّهم يتعلّمون على الاقلّ التواضع)…
الى هنا ينتهي بعض ماجاء في تعليق جريدة الصباح حول اوّل حلقة من مشروع شعاع من الجنوب … هنالك جملة هامة جاءت في مقال الزميل حيث قال (هذا العمل تراه فتتمنى لو انه يستمرّ اكثر او لو انه يعود او لو انه يصبح من ضيوفك الدائمين)… انّها المفارقات والاقدار العجيبة حقا… لانّ الحلقة الاولى من مشروع (الشعاع) كانت بالفعل الاولى ولكنها كانت ايضا الاخيرة …اي نعم مرة اخرى هي لعبة الاقدار ..وهاكم التفاصيل:
بعد الحلقة الاولى شرعت في انجاز الحلقة الثانية من شعاع من الجنوب اخترت فيها كاطار (عمّال المناجم في المظيلّة) ..كان سيناريو الحلقة متابعة احد عمال المناجم (العم صالح) منذ قيامه باكرا الخامسة صباحا في عائلته… وتناول فطور صباحه ثم امتطاء دراجته النارية قاصدا المنجم… والعيش معه لحظة بلحظة طيلة ساعات يومه في المنجم و اخيرا العودة معه الى منزله للسهر معه والتعرف على تفاصيل أسرته … ايام التصوير خاصة داخل المنجم وحتى خارجها من افضل ما عشته طيلة حياتي… نعم وبشهادة الجميع عشنا اياما لا تنسى اكتشفنا فيها ليس فقط ذلك الجنوبي المناضل من اجل رزق أطفاله، بل ايضا صدقه وعمق رؤيته للحياة وللاحداث ..واكتشفنا ايضا ذواتنا ونحن نعتبر انفسنا نفهم اشياء كثيرة في تونسنا وفي الحياة عموما ..ولكن اكتشفنا انّ ما نجهله يفوق كثيرا ما نعرفه ..
نعم عم صالح علّمنا دروسا لا تُنسى لعلّ اهمها النضال الحقيقي من اجل اسعاد الاخر حتى ولو كنت يوميا معرّضا لخطر الموت المحدق بك واصحابك داخل المنجم .. نعم هذا ما احسته وعاشته كل عناصر فريق التصوير ونحن ندخل معه الداموس ..حوادث المناجم والتي تعني امكانية سقوط بعض زوايا المنجم كانت تعني الموت ..نعم عشنا يوم تصوير عمل عمّال المناجم من داخل المنجم، ما معنى ان يكون الانسان في كلّ لحظة على قاب قوسين من النهاية… وللامانة كم باركت يومها شجاعة كل افراد فريق التصوير الذين لم يترددوا لحظة واحدة في المغامرة والدخول بواسطة السكة المعلّقة الى اعماق المنجم …
بعد اتمام التصوير شرعت وزميلي التقني في المونتاح (رضا القلال) في عملية المونتاج والميكساج ..كنا نشتغل بشغف وحماس وحب… وكنا طوال العملية نعيش داخل جلباب العم صالح فيزداد عشقنا لهذا المناضل العظيم ..وانتهى التركيب ووقعت برمجة الحلقة على شاشة التليفزيون لليوم الموعود ..وكانت المؤسسة انذاك تحت اشراف رئيس مدير عام جديد، السيد عبدالحفيظ الهرقام ..ولكن ربّك اراد غير ذلك .. تلك الحلقة بُرمجت ليوم 16 جانفي 1991 .. وهو اليوم الذي اعلنت فيه امريكا وحلفاؤها حرب الخليج الثانية المسماة بعاصفة الصحراء ..والتي ابتدات فجر ذلك اليوم… ومواكبة لذلك الحدث وهذا منطقيّ جدّا قامت ادارة التلفزة يومها بتغييرات جذرية على برمجتها ومثلها حدث في كلّ الاذاعات ..و بالمناسبة لابدّ من الاشادة بتميّز اذاعة صفاقس في مواكبتها للحدث بشكل مثالي حتى انّ بعض الاذاعات العربية وقتها اتخذتها مصدرا موثوقا به وبكلّ ما تقدمه انذاك مصلحة اخبارها ..تحية لكافة الزملاء في تلك المصلحة وتحية خاصة للكبير سي عبدالمجيد شعبان .. اذن اعتبركم تفطنتم الان إلى عدم بث شعاع من الجنوب في حلقته الثانية الخاصة بعمال المناجم وتاجيله لموعد لاحق …
انتهت اوزار الحرب وتحادثت مع المرحوم محمد عبدالكافي حول مواصلة انتاج حلقات اخرى من عدمها من (شعاع من الجنوب) وكان موقفه (وعلاش لا ؟؟ نواصلو) … واخترت موضوع الحلقة الثالثة حول (قابس والتلوّث)… ومدينة قابس انذاك تعتبر اكثر مدينة اجتاحها التلوث في البلاد بفعل المركب الكيميائي بغنوش، والذي اضرّ بالبشر والمياه والشجر .والحجر .. وفعلا قمنا بالتصوير لمدة ايام ثم المونتاج ثمّ وقع عرض العمل على لجنة الرقابة في التلفزة بالعاصمة (وهي تصير تاكزة من غير فحمة ؟؟)… وللامانة ايضا لجان المراقبة موجودة في كلّ تلفزات العالم دون استثناء… وردوا بالكم تصدقوا ما يقوله الغرب خاصة عن حرية التعبير ..انهم يكذبون ويعرفون انهم يكذبون ويعرفون انّ البعض منا يعرف انهم يكذبون ..وابدت اللجنة موافقتها شريطة ان تقع تدخيلات على الشريط حتى يقلل من سواد محتواه وقتامته وذلك بادماج بعض اللوحات الايجابية من تطوّر ونموّ في مدينة قابس .. وعلى مضض قبلت بالمقترح وعدنا لقابس لتصوير بعض ما طُلب منّي دون اشادة بزمن التغيير ومزاياه .. وقمت باعادة المونتاج…
وللامانة ما اضفته من لوحات ايجابية لم يتجاوز الخمسة في المائة من مدة ولون الشريط الذي وصفوه بالقاتم … والنتيجة انه وقع قبر الشريط الخاص بقابس ..بل لم تقف عملية القبر هذه لتلك الحلقة الخاصة بقابس فقط، بل وبكلّ الم الدنيا وقع قبر حلقة المناجم بالمظيلة وقُبر مشروع (شعاع من الجنوب) برمّته دون ايّ تفسير .._ يخخي شكونو ولد قطاطة باش نفسرولو ..تي يشرب والا يطيّر قرنو .. هكذا بدات علاقتي مع التلفزة التونسية كمنتج وكمخرج ولكن ليس معنى هذا انها انتهت .. ابدا ..لكن الذي انتهى اليوم هو الورقة 91…
ـ يتبع ـ