سأتحدث اليوم عن الدولة التي أشرفت على الاختفاء من هذه الرقعة التي عليها نعيش…الدولة التي لم نجد لوجعها دواء…الدولة التي تستغيث و لا أحد جاءها بالشفاء…سأتحدث عن مسرحية نشاهد فصولها منذ سنة 2011… و نبكي…نشاهد فصولها و نلطم….نشاهد فصولها و نندب…نشاهد فصولها و نضحك ألما…أسأل الجالسين و من جلسوا و من سيجلسون على كراسي السلطة، هل أنتم على وعي كامل بما تفعلون… و ما فعلتم و ما ستفعلون…
إن كنتم فعلا على وعي بما فعلتم…فأنتم فقدتم الوعي بما تفعلون…و أفقدتم الشعب الوعي بما فعلتم …و ما ستفعلون و تفعلون…ستقولون و ستصرخون كما عهدناكم منذ عشر سنوات أننا ننعم اليوم بالديمقراطية…و بحرية الرأي و النباح…و النكاح أحيانا…بعد الفجر و قبل الصباح…عن أي ديمقراطية سادتي تتحدثون…و عن أي حرية تعبير و رأي تتهامسون؟؟…عن حرية الشتم…وهتك الأعراض…و خلق القصص الوهمية…عن غلق مواقع الإنتاج…عن تجويع الشعب…كل الشعب…و بعضه أحيانا…إن كانت هذه ديمقراطيتكم فأنتم فعلا فقدتم الوعي…و إن كان هذا ما تعتبرونه حرية للرأي، فانتم فقدتم صواب الرأي…
ماذا فعلتم بالدولة…أين أخفيتم الدولة…كيف ذبحتم الدولة من الوريد إلى الوريد…الحُكم يا جماعة ليس ما تفعلون…فالشعب ليس في حاجة إلى حضن و عناق الرئيس ليشبع…و لا إلى طريقته في الخطابة التي تصيب أغلبنا بالغثيان…و البقية بالنعاس…فلا عادت كلماته تراود عقولنا…و لا عادت تهديداته تثير فضولنا…و لا عاد حديثه عن الغرف المظلمة يربكنا فالغرف المظلمة جُعلت فقط للنكاح….غير المباح…الشعب و أنا منه ليس في حاجة إلى دموع الرئيس ليروي عطشه…فلا خُطب الرئيس و حركاته الغريبة العجيبة و لا احتضانه لبعض أبناء الشعب ـ في مشهد درامي كذلك الذي كان يتميّز به شكري سرحان في أفلام الأبيض و الأسود ـ ستوفّر شغلا للعاطلين و المعطلين من أبناء هذا الشعب…و لا حرية الرأي التي بها تفاخرون ستنقذ البلاد من الإفلاس…أتدرون أن مسرح باردو لنواب “الشغب” (و أعني ما أقول حين وضعت نقطة فوق العين) أصبح مكانا يسخرون فيه من الشعب، ليسخر الشعب منهم و هم على ذلك الوضع المستراب كَهُمْ…فهم الاسترابة التي تمشي على قدمين…
فبعض نواب ذلك المجلس الساخر لا يخجلون حين يسجلون عضويتهم في مواقع تُعنى بإعلانات “تكبير العضو” و “إطالة فترة الانتصاب” و علاج “سرعة القذف” فهؤلاء ينتصبون لعاهرة…و لا ينتصبون لنشيد الوطن…هؤلاء لا همّ لهم غير ما يشبع غرائزهم…فلا هم يبكون فقركم….و لا هم يتألمون لجوع بعضكم أو كلّكم…و لا هم سيجدون قارورة غاز تطبخون بها عشاء لأطفالكم…و تحتاجونها لتدفئة بيوتكم…هؤلاء هم نوابكم الذين انتخبتموهم للدفاع عن مصالحكم و البحث عن الحلول لمشاغلكم و التخطيط لمستقبل بلادكم…و هم يبحثون دون أن تدروا عن دواء لشلل أصاب نصفهم الأسفل، و لا يبحثون عن دواء لشلل أصاب بلادهم…و لا حتى داء أصاب أولادهم….هؤلاء هم من ائتمنتموهم على مستقبل البلاد… فلا تستغربوا من فصول المسرحية التي أصبحتم دون وعي منكم، من عناصر الفرجة فيها…فأنتم في الأخير تضحكون في كامل وعيكم…من و عن أنفسكم…في عمل درامي ساخر مؤلم قد لا ينتهي قريبا…
سادتي إن حرية الرأي والتعبير لا تعني أبدا تجاوز الحدود الأخلاقية المتعارف عليها في بلد عربي مسلم…ولا في أي بلد من بلاد العالم …و حرية الرأي ليست مجرّد عملية تصفية حسابات و انتقام من منظومة أو جهة أو مكوّن سياسي، أو مجرّد فرد من الأفراد أو شخصية من شخصيات عهد اختلفنا معه و عارضناه، سواء كان ذلك بالتشهير و التشويه و ما شابه من آليات ضرب الخصوم و الانتقام منهم…و حرية الرأي لا تخوّل لصاحبها استعمال آليات التشويه و هتك الأعراض لمجرّد الاختلاف…و حرية الرأي والتعبير عنه لا تسمح لكم بتعذيب بعضكم البعض بما تفعلونه من غلق لمواقع الإنتاج و كسر يد الحاكم…بطلب فدية أو ما تعنيه…و حرية الرأي ليست أيضا ركل الوطن على مؤخرته …بمفاحشة هيبته…فحرية الرأي هي بالأساس من آليات الاختلاف…و احترام الرأي المخالف…و القبول بالآخر…
احترام الآخر هو جزء لا يتجزأ من الديمقراطية…و بالتالي فإن حرية الرأي تصبح سمّا قاتلا للشعوب إن لم تنضبط لمعايير أخلاقية نبيلة، تحترم الآخر و رأي الآخر و تعمل من اجل أن يمتلك الجميع الحقيقة…فالحقيقة ليست ملكا لأحد و ليست حكرا على أحد…و تونس اليوم تعيش أصعب مراحل مراهقتها السياسية، و ربما أضرّ بها الاستمناء السياسي الذاتي… فليس بالبساطة أن نكتفي بما قاله ابن خلدون في مقدّمته كما يزعم بعض علماء الاجتماع اليوم الذين لا يفرّقون بين الجماع و الاجتماع…نحن اليوم نعيش عالما متحولا اجتماعيا و سياسيا وحضاريا و لا أظنّ أن مقدّمة ابن خلدون ستحل جميع مشكلاتنا التي نعيش اليوم…و رغم ما جادت به علينا “مقدّمة ابن خلدون”…فإننا نقبع إلى يومنا هذا في “المؤخرة”…فماذا لو كتب لنا ابن خلدون عنها، كيف سيكون حالنا…؟؟؟ يا جماعة….الوطن يبحث عن عصاه…لمن عصاه…