وكأني بمولانا أعلن الحرب على الأغنياء…وكأن الغنى أصبح أخطر على الشعب من كل الأوبئة…فإن أردت أن تعيش سعيدا دون أن يدق بابك أمن مولانا وحرسه وعسسه ووُشاته فعليك أن تبقى فقيرا وأن تطلّق بالثلاث الغِنى…
فالغِنى عدو مولانا…ومولانا يكره الغنى والأغنياء…كيف لا وهو ولد سلطانا فقيرا يحب المهمشين والمحرومين والفقراء…ويدخّن سيجارة المحرومين والمساكين والمعوزين…و”يحقد” أحيانا على الأغنياء…فمولانا يا جماعة أعلنها عاليا يوم على الكرسي جلس…كل غني لما عنده اختلس…وكأني به يقول يومها…سأعلنها عليكم حربا (يقصد الأغنياء) ولن يهمّ إن دامت أربعين سنة…فحرب مولانا إذن ستطول وقد تفوق سنواتها سنوات حرب البسوس…او حتى حرب داحس والغبراء …
ما الذي بين مولانا وبين الأغنياء يا ترى؟ لا شيء يا جماعة فقط لأن مولانا من الفقراء…ولأنه على يقين أن السماء لن تمطر ذهبا في عهدته، وأن صندوق النكد الدولي قد يحرمنا من قرض أو من عديد القروض الموجهة لأصحاب الرواتب والأجراء…ولأن دول الخليج أيضا لم تسمح لنا بأن نتنفس (بما سيجودون به علينا) الصعداء…خلاصة ما جرى مولانا تأكد بعد زيارات هناك…وأخرى هنا… واتصالات بهذا وذاك، أن أغلب هذا الشعب قد يصبح من الفقراء…فلم إذن الاقتراض والبحث عن المال وكل هذا العناء؟
مولانا أدرك بعد أسبوع فقط من جلوسه على كرسي العرش أنه لن يغيّر شيئا من حال هذا الشعب وأنه قد يكون “تورّط” في حكم بلاد ثلاثة أرباع سكانها من الفقراء ونصف ربع سكانها المتبقي من لاعقي أحذية الأغنياء…ونصف نصف ربع سكانها الآخر من الانتهازيين والأغبياء…ولأنه يريد أن يكون كعمر الفاروق قرّر أن يُحارب الأغنياء ليوحّد البلاد من شمالها إلى جنوبها ويعمّ العدل، ويصبح كل الشعب من الفقراء الاشقياء…فلم العناء؟ فمن المستحيل أن ينجح مولانا في قلب أوضاعنا، من فقراء يأكلون وجبة فطور الصباح ولا يلتفتون لوجبة العشاء، إلى أغنياء يأكلون فجرا وظهرا وعصرا ومغربا وعشاء بعدد صلواتنا لربّ الأرض والسماء، والحال أن عهدته حلّت علينا متأبطة يد الوباء أو كما يكتبون في مواقع التواصل الاجتماعي (En couple)؟ مولانا فكّر طويلا…وكثيرا…واستنجد بالخبراء…وجالس الفقهاء…واحتسى قهوة مع العلماء…واستمع ما يقوله بعض المقرّبين من الأغنياء…هؤلاء أوصوه خيرا بالفقر، والفقراء من المتسولين والمعوزين، والمحرومين والاشقياء…فقرّر أن يسلك أيسر السبل، وينفّذ الحلول التي نصحه بها أقدر الخبراء، قرّر أن يوسّع مساحة الشعب من الفقراء وأن يقضي على رهط الأغنياء حتى يُحسَب عادلا يوم الحساب وعند ربّ السماء…وكأني به يقول للشعب “يا شعب تونس أكثر من قول “ولسوف يعطيك ربّك فترضى…” وسترضى…
وحتى يلتحق ما تبقّى من الأغنياء بمصير الفقراء، قرّر مولانا أن يكلفهم بصرف ما تبقّى من أموالهم بعد طوفان “الوباء” في الاستثمار والبناء في مدن وأحياء الفقراء…أو سيفتكها منهم غصبا ودون عناء…فكل غَني عليه أن يقرأ “وأما بنعمة ربّك فحدث” حين يتحوّل إلى المناطق المهمّشة وأحياء الفقراء، وعليه أن يقرأ “وأما اليتيم فلا تقهر” حين ينجز مشروعا للمحرومين والاشقياء…فالمواطن الفقير حسب فلسفة مولانا ومن هم حوله من “الفقراء” لا يحتاج للأغنياء…فهو يمقت الثراء…وسيارات الأغنياء…كما يكره المسؤولين والوزراء…فالمواطن يعلم أن السياسة لم تخلق للفقراء…وأن المناصب والكراسي لا تليق بالتعساء…خلاصة قولنا مولانا في الأرض يحب الفقراء… فكيف لا نغدق على مولانا بالمدح والثناء وهو الذي أنصف الفقر والفقراء…وجعلهم سواسية مع الأغنياء…بعد أن رفعهم إلى مرتبة الفقراء…
مولانا يريد بنا خيرا وبعضنا لا يصدّقون…فبعد أن يصبح الأغنياء في عداد “الفقراء” كما الجميع وكما أنا…يفكّر مولانا في أن يجعل منّا دولة يحكمها شعب الفقراء من أسفلها إلى أعلاها، من الفقير الذي يقطن الأرياف ويأكل مرّة في الأسبوع، إلى مولانا ساكن القصر وسيّد الفقراء…ألم يرسل من معه من المستشارين والمفسّرين الفقراء والمحرومين والمدخنين والمخمورين…ألم يقولوا لنا شكّلوا اللجان القروية واختاروا من هذه اللجان لجنة تختار بدورها لجنة تنوب بقية اللجان، ثم اجتمعوا لتنتخبوا لجانا فرعية تختار بدورها لجانا محلية، تتفرع بدورها إلى لجان إقليمية، تنتخبون منها بالقرعة لجانا جهوية، تتحوّل إلى مقرّ اللجنة الوطنية لتختار منها لجنة اللجان لتتفاوض مع اللجان الوطنية المتفرعة عن اللجنة العامة الوطنية المتخصصة في مجموعة اللجان الجهوية من كل هذه اللجان التي تفرّعت عن اللجان المحلية والإقليمية والقروية، ثم ستختارون اللجنة التي ستعين بدورها لجنة اللجان…وكل هذه اللجان ستعمل بالمجان…حتى نحافظ على الفقر والفقراء…ونحميهم من الإنس والجان…وبعض هذه اللجان…
وكأني بمولانا أقسم أنه سيخرجنا من أزمتنا بنشر الفقر ليصبح كل الشعب فقيرا…وتصبح البلاد جمهورية الفقراء…فإن لم تقرضنا المنظمات المانحة…فإننا سنقتصد في الغذاء…وقد يصل بنا الأمر لنأكل مرّة في الأسبوع أو مرّة في الشهر لم لا؟…وقد نعود إلى ركوب البغال والحمير والإبل حتى نوفر ثمن المحروقات ونحدّ من الغلاء…وقد نقاوم السمنة والأمراض التي تتسبّب فيها بركوب أرجلنا، و المشي على القدمين ونحافظ على مخزوننا من الدواء…وقد يقرّر مولانا تشكيل لجنة من ضعاف الحال والأحوال والجسد لمقاومة السمنة وتبعات الوباء…ولجنة أخرى لملاحقة آكلي المرطبات والدجاج ولحوم البقر في إطار برنامج وطني شامل للحفاظ على مكاسب المعوزين والاشقياء… ودعم سياسة التفقير التي تنتهجها دولة مولانا سيّد الفقراء…وقد تعود الأكواخ والمساكن الاجتماعية في إطار سياسة الترشيد في استهلاك الحديد والاسمنت، وبقية مواد البناء…وقد يقع تأخير سنّ الدخول إلى المدارس حفاظا على مخزوننا من أدوات التعليم …وقد نعود للإنارة بفانوس الزيت حفاظا على الطاقة…وقد نغلق بقرار أميري بيوت الاستحمام المنزلية، ونستبدلها بحمامات حكومية، والاكتفاء باستحمام وحيد كل شهر…وقد يتمّ إصدار مرسوم أميري يدعو إلى الترشيد في المعاشرة الزوجية ومن استطاع إليها سبيلا، اقتصادا للماء الصالح للاستحمام والغسيل والشراب…كما قد يقرر مولانا العودة إلى سياسة تحديد النسل ومنع الانجاب، لمدّة خمس سنوات درءا لانفجار سكاني يزيد الطين بلّة…
كما قد يطالبنا مولانا في خطابه الأسبوعي الليّن، الذي يقطر حبّا لكل شعبه، فمولانا لا يصرخ أبدا في خطبه ولا يتهم خصومه…كما لا يهدّد خصومه بالويل والثبور بل يحتضنهم في كل خطاب يلقيه أمام الشعب أو أمام مجلس الوزراء…فمولانا يحبّنا ولا يقبل بأن تؤلمنا كلماته المشحونة “حبّا” و”عشقا” لشعبه وخصومه، أقول قد يطالبنا مولانا بتناسي الجوع وبطوننا الخاوية، وفراغ جيوبنا احتراما لصعوبة المرحلة وترحيبا بالمنظمات المانحة…والاكتفاء في مثل هذه الأوضاع بقول “الحمد لله…”…
ولا غرابة أيضا إن طالبنا مولانا بالتخلّي عن أجورنا لمدّة سنة أو أكثر، والصوم نصف سنة شكرا لله وحمدا لما أعطاه…لا غرابة، ألم نصرخ كثيرا بــ”نموت نموت ويحيا الوطن…” ألا يمكن أن نغيّر نموت بنجوع…ونصرخ تضامنا مع مولانا …”نجوع…نجوع…ويشبع الوطن…” ونكمل عهدة مولانا تحت شعار “ولسوف يعطيك ربّكم فترضى…” ليسعد سعيد بما يريد …